فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء

( بابُُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسات فِي السِّمْنِ والمَاءِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم وُقُوع النَّجَاسَة فِي السّمن وَالْمَاء، فكلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة وَكلمَة: من بَيَانِيَّة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: بابُُ مَا يَقع ... الخ.
أَي: هَل ينجسهما أم لَا؟ أَو: لَا ينجس المَاء إلاَّ إِذا تغير دون غَيره.
قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّفْسِير، فَكَأَنَّهُ لما خَفِي عَلَيْهِ الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ قدر مَا قدره.

فان قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبابُُ وَالْبابُُ الَّذِي قبله؟ قلت: من حَيْثُ إِن فِي هَذَا الْبابُُ السَّابِق ذكر بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه، وَالْبَوْل فِي نَفسه نجس، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْبابُُ ذكر الْفَأْرَة الَّتِي هِيَ نجس، وَذكر الدَّم كَذَلِك وَالْإِشَارَة إِلَى أحكامهما على مَا جَاءَ من السّلف وَمن الحَدِيث.

وَقَالَ الزُّهْري لاَ بأْسَ بالمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أوْ رِيحٌ أوْلَوْنٌ

الزُّهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الْفَقِيه الْمدنِي، نزيل الشَّام، ثمَّ الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَلكنه مَوْصُول عَن عبد الله بن وهب فِي مُسْند: حَدثنَا يُونُس عَن ابْن شهار أَنه قَالَ: كل مَا فضل مِمَّا يُصِيبهُ من الْأَذَى حَتَّى لَا يُغير ذَلِك طعمه وَلَا لَونه وَلَا رِيحه، فَلَا بَأْس أَن يتَوَضَّأ بِهِ.
وَورد فِي هَذَا الْمَعْنى حَدِيث عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء إلاَّ مَا غلب على رِيحه وطعمه ولونه) .
روايه ابْن مَاجَه: حَدثنَا مَحْمُود ابْن خَالِد وَالْعَبَّاس بن الْوَلِيد الدمشقيان قَالَ: حَدثنَا مَرْوَان بن مُحَمَّد حَدثنَا رشدين، أخبرنَا مُعَاوِيَة بن صَالح عَن رَاشد ابْن سعد عَن أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ،.

     وَقَالَ  الدراقطني: إِنَّمَا يَصح هَذَا من قَول رَاشد بن سعد وَلم يرفعهُ غير رشدين.
قلت: وَفِيه نظر، لِأَن أَبَا أَحْمد بن عدي رَوَاهُ فِي ( الْكَامِل) من طَرِيق أَحْمد بن عمر عَن حَفْص بن عمر حَدثنَا ثَوْر بن يزِيد عَن رَاشد بن سعد عَن أبي أُمَامَة فرفعه.
.

     وَقَالَ : لم يروه عَن ثَوْر إلاَّ حَفْص.
قلت: وَفِيه نظر أَيْضا، لِأَن الْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ من حَدِيث ابي الْوَلِيد عَن الساماني عَن عَطِيَّة بن بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن أَبِيه عَن ثَوْر،.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: والْحَدِيث غير قوي إلاَّ أَنا لَا نعلم فِي نَجَاسَة المَاء إِذا تغير بِالنَّجَاسَةِ خلافًا.

النَّوْع الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ: قَوْله: ( لَا بَأْس) أَي: لَا حرج فِي اسْتِعْمَال مَاء مُطلقًا مَا لم يُغَيِّرهُ طعم أَو ريح أَو لون.
وَقَوله: ( لم يُغَيِّرهُ) ، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول.
وَقَوله: ( طعم) بِالرَّفْع فَاعله، وَحَاصِل الْمَعْنى: كل مَاء طَاهِر فِي نَفسه وَلَا يَتَنَجَّس بِإِصَابَة الْأَذَى، أَي: النَّجَاسَة إلاَّ إِذا تغير أحد الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة مِنْهُ، وَهِي: الطّعْم وَالرِّيح واللون.
فان قلت: الطّعْم أَو الرّيح أَو اللَّوْن هُوَ المغير، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة، لَا المغير على صِيغَة الْفَاعِل، والمغير، بِالْكَسْرِ هُوَ الشَّيْء النَّجس الَّذِي يخالطه، فَكيف يَجْعَل الطّعْم أَو الرّيح أَو اللَّوْن مغيراً على صِيغَة الْفَاعِل على مَا وَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، وَأما الَّذِي فِي عبارَة عبد الله بن وهب فَهُوَ على الأَصْل.
قلت: المغير فِي الْحَقِيقَة هُوَ المَاء، وَلَكِن تَغْيِيره لما كَانَ لم يعلم إلاَّ من جِهَة الطّعْم أَو الرّيح أَو اللَّوْن فَكَأَنَّهُ صَار هُوَ المغير، وَهُوَ من قبيل ذكر السَّبَب، وَإِرَادَة الْمُسَبّب.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: لَا بَأْس، أَي لَا يَتَنَجَّس المَاء بوصول النَّجس إِلَيْهِ قَلِيلا أَو كثيرا، بل لَا بُد من تغير أحد الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة فِي تنجسه، وَالْمرَاد من لفظ: مَا لم يُغَيِّرهُ طعمه، مَا لم يتَغَيَّر طعمه.
فَنَقُول: لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرَاد بالطعم، الْمَذْكُور فِي لفظ الزُّهْرِيّ، طعم المَاء أَو طعم الشَّيْء المنجس، فعلى الأول مَعْنَاهُ: مَا لم يُغير المَاء عَن حَاله الَّتِي خلق عَلَيْهَا طعمه، وتغيره طعمه لَا بُد أَن يكون بِشَيْء نجس، إِذا الْبَحْث فِيهِ.
وعَلى الثَّانِي مَعْنَاهُ: مَا لم يُغير المَاء طعم النَّجس، وَيلْزم مِنْهُ تغير طعم المَاء، إِذْ لَا شكّ أَن الطّعْم هُوَ المغير للطعم، واللون للون، وَالرِّيح للريح، إِذْ الْغَالِب أَن الشَّيْء يُؤثر فِي الملاقي بِالنِّسْبَةِ، وَجعل الشَّيْء متصفاً بِوَصْف نَفسه، وَلِهَذَا يُقَال: لَا يسخن إلاَّ الْحَار، وَلَا يبرد إلاَّ الْبَارِد، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا لم يُغير طعم المَاء طعم الملاقي النَّجس، أَو لَا بَأْس، مَعْنَاهُ: لَا يَزُول طهوريته مَا لم يُغَيِّرهُ طعم من الطعوم الطاهرة اَوْ النَّجِسَة.
نعم، إِن كَانَ المغير طعماً نجسا يُنجسهُ، وَإِن كَانَ طَاهِرا يزِيل طهوريته لَا طَهَارَته، فَفِي الْجُمْلَة فِي اللَّفْظ تعقيد.
انْتهى.
قلت: تَفْسِيره هَكَذَا هُوَ عين التعقيد لِأَنَّهُ فسر قَوْله: ( لَا بَأْس) بمعنيين: أَحدهمَا بقوله: ( أَي لَا يَتَنَجَّس) إِلَى آخِره، وَالْآخر بقوله: ( لَا يَزُول طهوريته) .
وكلا المغنيين لَا يساعدهما اللَّفْظ، بل هُوَ خَارج عَنهُ.
وَقَوله: ( المغير للطعم هُوَ الطّعْم) غير سديد، لَان المغير للطعم، وَهُوَ الشَّيْء الملاقي لَهُ، وَكَذَلِكَ اللَّوْن وَالرِّيح، وَكَذَلِكَ قَوْله: ( المُرَاد من لفظ مَا لم يُغَيِّرهُ طعمه مَا لم يتَغَيَّر طعمه) غير موجه، لِأَنَّهُ تَفْسِير للْفِعْل الْمُتَعَدِّي بِالْفِعْلِ اللَّازِم، من غير وَجه، وَكَذَلِكَ ترديده بقوله: لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرَاد بالطعم الْمَذْكُور ... إِلَى آخِره، غير موجه لِأَن الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: لم يُغَيِّرهُ، يرجع إِلَى المَاء، فَيكون الْمَعْنى على هَذَا: لَا بَأْس بِالْمَاءِ مَا لم يُغَيِّرهُ طعم المَاء، وَطعم المَاء ذاتي، فَكيف يُغير ذَات المَاء؟ وَإِنَّمَا بِغَيْرِهِ طعم الشَّيْء الملاقي، وَالْفرق بَين الطعمين ظَاهر.

النَّوْع الثَّالِث فِي استنباط الحكم مِنْهُ استنبط مِنْهُ: أَن مَذْهَب الزُّهْرِيّ فِي المَاء الَّذِي يخالطه شَيْء نجس الِاعْتِبَار بتغيره بذلك من غير فرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الْعلمَاء، وشنع أَبُو عبيد فِي ( كتاب الطّهُور) على من ذهب إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن: من بَال فِي إبريق وَلم يُغير للْمَاء وَصفا إِنَّه يجوز لَهُ التطهر بِهِ، هُوَ مستشنع.
قَالَ بَعضهم: وَلِهَذَا نصر قَول التَّفْرِيق بالقلتين.
قلت: كَيفَ ينصر هَذَا بِحَدِيث الْقلَّتَيْنِ، وَقد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ مَدَاره على علته، أَو مُضْطَرب فِي الرِّوَايَة، أَو مَوْقُوف، وحسبك أَن الشَّافِعِي رِوَايَة عَن الْوَلِيد بن كثير وَهُوَ إباضي.
وَاخْتلفت رِوَايَته فَقيل: قُلَّتَيْنِ، وَقيل: قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا.
وَرُوِيَ أَرْبَعُونَ قلَّة، وَرُوِيَ أَرْبَعُونَ فرقا، ووقف على أبي هُرَيْرَة وَعبيد الله بن عمر،.

     وَقَالَ  الْيَعْمرِي: حكم ابْن مَنْدَه بِصِحَّتِهِ على شَرط مُسلم من جِهَة الروَاة، وَلكنه أعرض عَن جِهَة الرِّوَايَة بِكَثْرَة الِاخْتِلَاف فِيهَا وَالِاضْطِرَاب، وَلَعَلَّ مُسلما تَركه لذَلِك.
قلت: وَكَذَلِكَ لم يُخرجهُ البُخَارِيّ لاخْتِلَاف وَقع فِي إِسْنَاده.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر فِي ( التَّمْهِيد) : مَا ذهب إِلَى الشَّافِعِي من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ مَذْهَب ضَعِيف من جِهَة النّظر، غير ثَابت فِي الْأَثر، لِأَنَّهُ قد تكلم فِيهِ جمَاعَة من أهل الْعلم بِالنَّقْلِ.
.

     وَقَالَ  الدبوسي فِي كتاب ( الْأَسْرَار) : هُوَ خبر ضَعِيف، وَمِنْهُم من لم يقبله، لِأَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لم يعملوا بِهِ.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَمذهب الزُّهْرِيّ هُوَ قَول الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، وَمذهب أهل الْمَدِينَة، وَهِي رِوَايَة أبي مُصعب عَن مَالك، وروى عَنهُ ابْن الْقَاسِم أَن قَلِيل المَاء ينجس بِقَلِيل النَّجَاسَة، وَإِن لم يظْهر فِيهِ.
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنى عَن عبد الله بن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَسَعِيد بن الْمسيب على اخْتِلَاف عَنهُ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَهُوَ قَول اللَّيْث وَابْن صَالح بن حَيّ وَدَاوُد بن عَليّ وَمن تبعه، وَهُوَ مَذْهَب أهل الْبَصْرَة.
وَقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ الصَّحِيح فِي النّظر، وثابت بالأثر من ذَلِك صب المَاء على بَوْل الْأَعرَابِي.

وَحَدِيث بِئْر بضَاعَة، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا؛ المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء، وَمذهب أَصْحَابنَا المَاء إِمَّا جارٍ أَو راكد، قَلِيل أَو كثير؛ فالجاري إِذا وَقعت فِيهِ النَّجَاسَة وَكَانَت غير مرئية كالبول وَالْخمر وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لَا ينجس مَا لم يتَغَيَّر لَونه أَو طعمه أَو رِيحه، وَإِن كَانَت مرئية كالجيفة وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ لَا ينجس.
فَإِن كَانَ يجْرِي عَلَيْهَا جَمِيع المَاء لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ من أَسْفَلهَا، وان كَانَ يجْرِي أَكْثَرهَا عَلَيْهَا فَكَذَلِك اعْتِبَارا للْغَالِب، وَإِن كَانَ أَقَله يجْرِي عَلَيْهَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ من اسفلها، وَإِن كَانَ يجْرِي عَلَيْهَا النّصْف دون النّصْف فَالْقِيَاس جَوَاز التَّوَضُّؤ.
وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يجوز احْتِيَاطًا.
والراكد اخْتلفُوا فِيهِ: فَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: لَا ينجس أصلا.
.

     وَقَالَ ت عَامَّة الْعلمَاء: إِن كَانَ المَاء قَلِيلا ينجس، وَإِن كثيرا لَا ينجس، لكِنهمْ اخْتلفُوا فِي الْحَد الْفَاصِل بَينهمَا؛ فعندنا بالخلوص، فَإِن كَانَ يخلص بعضه إِلَى بعض فَهُوَ قَلِيل، وَإِلَّا فَهُوَ كثير.
وَاخْتلف اصحابنا فِي تَفْسِير الخلوص بعد أَن اتَّفقُوا أَنه يعْتَبر الخلوص، بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ: أَن يكون بِحَال لَو حرك طرف مِنْهُ يَتَحَرَّك الطّرف الآخر، فَهُوَ مِمَّا يخلص، وإلاَّ فَهُوَ مِمَّا لَا يخلص.
وَاخْتلفُوا فِي جِهَة التحريك، فَعَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة: أَنه يعْتَبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وَعَن مُحَمَّد أَنه يعْتَبر بِالْوضُوءِ، وَرُوِيَ أَنه بِالْيَدِ من غير اغتسال وَلَا وضوء، وَأما اعتبارهم فِي تَفْسِير الخلوص: فَعَن أبي حَفْص الْكَبِير أَنه أعتبره بالصبغ، وَعَن أبي نصر مُحَمَّد بن سَلام أَنه اعْتَبرهُ بالتكدير، وَعَن أبي سُلَيْمَان الْجوزجَاني أَنه اعْتَبرهُ بالمساحة.
فَقَالَ: إِن كَانَ عشرا فِي عشر فَهُوَ مِمَّا لَا يخلص، وَإِن كَانَ دونه فَهُوَ مِمَّا يخلص.
وَعَن ابْن الْمُبَارك أَنه اعْتَبرهُ بِالْعشرَةِ أَولا، ثمَّ بِخَمْسَة عشر، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو مُطِيع الْبَلْخِي، فَقَالَ: إِن كَانَ خَمْسَة عشر فِي خَمْسَة عشر أَرْجُو أَن يجوز، وَإِن كَانَ عشْرين فِي عشْرين لَا أجد فِي قلبِي شَيْئا.
وَعَن مُحَمَّد أَنه قدره بمسجده، وَكَانَ ثمانياً فِي ثمانٍ، وَبِه أَخذ مُحَمَّد بن سَلمَة.
وَقيل: كَانَ مَسْجده عشرا فِي عشرٍ.
وَقيل: كَانَ، دَاخله ثمانياً فِي ثمانٍ، وخارجه عشرا فِي عشرٍ.
وَعَن الْكَرْخِي: لَا عِبْرَة للتقدير، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر هُوَ التَّحَرِّي، فَلَو كَانَ أَكثر رَأْيه أَن النَّجَاسَة خلصت إِلَى الْموضع الَّذِي يتَوَضَّأ مِنْهُ لَا يجوز، وَإِن كَانَ أَكثر رَأْيه أَنَّهَا لم تصل إِلَيْهِ يجوز.
وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي ( شرحنا لمعاني الْآثَار) للطحاوي، رَحمَه الله تَعَالَى.

وقالَ حَمَّادٌ: لاَ بَأْسَ بِرِيشِ المَيْتَةِ
حَمَّاد: على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ، هُوَ الإِمَام ابْن أبي سُلَيْمَان، شيخ الإِمَام ابي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تقدم فِي بابُُ قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث.
قَوْله: ( لَا بَأْس) أَي: لَا حرج ( بريش الْميتَة) يَعْنِي: لَيْسَ بِنَجس، وَلَا ينجس المَاء الَّذِي وَقع فِيهِ، سَوَاء كَانَ ريش الْمَأْكُول لَحْمه أَو غَيره؛ وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه: حَدثنَا معمر عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان أَنه قَالَ: لَا بَأْس بصوف الْميتَة، وَلَكِن يغسل، وَلَا بَأْس بريش الْميتَة، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا وَأَصْحَابه.

وقالَ الزُّهْرِيُّ فِي عظامِ المَوْتَى نَحْوِ الفِيلِ وغَيْرِهِ أَدْرَكْتُ نَاسا مِنْ سَلَفِ العُلمَاءِ يَمْتَشِطونَ بهَا ويَدَّهِنونَ فِيها لَا يَرَوْنَ بِهِ بَاساً
الزُّهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
قَوْله: ( وَغَيره) أَي: غير الْفِيل مِمَّا لَا يُؤْكَل.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قَوْله: ( غَيره) يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ مَا هُوَ من جنسه من الَّذِي لَا تُؤثر الذَّكَاة فِيهِ، أَي: مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه، وَأَن يُرِيد أَعم من ذَلِك.
قلت: هَذَا الَّذِي ذكره يمشي على مَذْهَب الشَّافِعِي، وَعِنْدنَا جَمِيع أَجزَاء الْميتَة الَّتِي لَا دم فِيهَا: كالقرن وَالسّن والظلف والحافر والخف والوبر وَالصُّوف طَاهِر، وَفِي العصب رِوَايَتَانِ، وَذهب عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق والمزني وَابْن الْمُنْذر: إِلَى أَن الشّعْر وَالصُّوف والوبر والريش طَاهِرَة لَا تنجس بِالْمَوْتِ، كمذهبنا، والعظم والقرن والظلف وَالسّن نَجِسَة.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: الْكل نجس إلاَّ الشّعْر، فَإِن فِيهِ خلافًا ضَعِيفا.
وَفِي الْعظم أَضْعَف مِنْهُ.
وَأما الْفِيل فَفِيهِ خلاف بَين أَصْحَابنَا، فَعِنْدَ مُحَمَّد هُوَ نجس الْعين حَتَّى لَا يجوز بيع عظمه وَلَا يطهر جلده بالدباغ وَلَا بالذكاة، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف هُوَ كَسَائِر السباغ، فَيجوز الِانْتِفَاع بعظمه وَجلده بالدباغ.
قَوْله: ( أدْركْت نَاسا) التَّنْوِين فِيهِ للتكثير أَي نَاسا كثيرين.
قَوْله: ( يمتشطون بهَا) أَي: بعظام الْمَوْتَى، يَعْنِي يجْعَلُونَ مِنْهَا مشطاً ويستعملونه، فَهَذَا يدل على طَهَارَته، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا.
قَوْله: ( ويدَّهنون فِيهَا) اي: فِي عِظَام الْمَوْتَى، يَعْنِي: يجْعَلُونَ مِنْهَا مَا يحط فِيهِ الدّهن وَنَحْوه، وأصل: يدهنون: يتدهنون، لِأَنَّهُ من بابُُ الافتعال، فقلبت التَّاء دَالا وادغمت الدَّال فِي الدَّال؛.

     وَقَالَ  بَعضهم: يجوز ضم أَوله وَإِسْكَان الدَّال.
قلت: فعلى هَذَا يكون من بابُُ الادهان، فَلَا يُنَاسب مَا قبله إلاَّ إِذا جَاءَت فِيهِ رِوَايَة بذلك، وَذَلِكَ لِأَن مَعْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ هم يدهنون أنفسهم، وَإِذا كَانَ من بابُُ الإفعال يكون الْمَعْنى: هم يدهنون غَيرهم، فَلَا منع من ذَلِك إلاَّ أَنه مَوْقُوف على الرِّوَايَة.
وَنقل بعض الشُّرَّاح عَن السفاقسي فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: إثنان مِنْهَا مَا ذكرناهما الْآن، وَالْوَجْه الثَّالِث: هُوَ بتَشْديد الدَّال وَتَشْديد الْهَاء، أَيْضا.
قلت: لَا منع من ذَلِك من حَيْثُ قَاعِدَة التصريف، وَلَكِن رِعَايَة السماع أولى مَعَ رِعَايَة الْمُنَاسبَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ.
قَوْله: ( لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا) أَي حرجاً، فَلَو كَانَ نجسا لما استعملوه امتشاطاً وادهاناً، وَعلم مِنْهُ أَنه إِذا وَقع مِنْهُ شَيْء فِي المَاء لَا يُفْسِدهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: ريش الْميتَة وَعظم الفيلة وَنَحْوهَا طَاهِر عِنْد ابي حنيفَة، كَأَنَّهُ تعلق بِحَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَوْقُوف: إِنَّمَا حرم من الْميتَة مَا يُؤْكَل مِنْهَا وَهُوَ اللَّحْم، فَأَما الْجلد وَالسّن والعظم وَالشعر وَالصُّوف فَهُوَ حَلَال.
قَالَ يحيى بن معِين: تفرد بِهِ أَبُو بكر الْهُذلِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْء.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: وَقد روى عبد الْجَبَّار بن مُسلم وَهُوَ ضَعِيف عَن الزُّهْرِيّ شَيْئا فِي مَعْنَاهُ، وَحَدِيث أم سَلمَة مَرْفُوعا: ( لَا بَأْس بمسك الْميتَة إِذا دبغ، وَلَا بشعرها إِذا غسل بِالْمَاءِ) .
إِنَّمَا رَوَاهُ يُوسُف بن أبي السّفر، وَهُوَ مَتْرُوك.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: عظم الفيلة وَنَحْوه نجس عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ، كِلَاهُمَا احتجا بِمَا روى الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يكره أَن يدهن فِي مدهن من عِظَام الْفِيل، وَفِي ( المُصَنّف) : وَكَرِهَهُ عمر ابْن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وطاووس،.

     وَقَالَ  ابْن الْمَوَّاز: نهىَ مَالك عَن الِانْتِفَاع بِعظم الْميتَة والفيل، وَلم يُطلق تَحْرِيمهَا لِأَن عُرْوَة وَابْن شهَاب وَرَبِيعَة
أَجَازُوا الامتساط بهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: أجَاز اللَّيْث وَابْن الْمَاجشون وَابْن وهب ومطرف.
وَأصبغ الامتشاط بهَا والادهان فِيهَا.
.

     وَقَالَ  مَالك إِذا زكى الْفِيل فَعَظمهُ طَاهِر وَالشَّافِعِيّ يَقُول الذَّكَاة لَا تعْمل فِي السبَاع.

     وَقَالَ  اللَّيْث وَابْن وهب أَن غلى الْعظم فِي مَاء سخن وطبخ جَازَ الإدهان مِنْهُ والامتشاط قلت حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي تعلق بِهِ أَبُو حنيفَة أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ.

     وَقَالَ  أَبُو بكر الْهُذلِيّ ضَعِيف وَذكر فِي الإِمَام أَن غير الْهُذلِيّ أَيْضا رَوَاهُ وَحَدِيث أم سَلمَة أَيْضا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.

     وَقَالَ  يُوسُف بن أبي السّفر مَتْرُوك قُلْنَا لَا يُؤثر فِيهِ مَا قَالَ إِلَّا بعد بَيَان جِهَته وَالْجرْح الْمُبْهم غير مَقْبُول عِنْد الحذاق من الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ كَانَ كَاتب الْأَوْزَاعِيّ.

وقالَ ابْنُ سِيِرِينَ وإبْرَاهيمُ لَا بَأْسَ بِتِجارَةِ العَاجِ

ابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد، تقدم فِي بابُُ اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ تقدم فِي بابُُ ظلم دون ظلم فِي كتاب الْإِيمَان.

أما التَّعْلِيق عَن ابْن سِيرِين فَذكره عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه عَن الثَّوْريّ عَن همامَ عَن ابْن سِيرِين أَنه كَانَ لَا يرى التِّجَارَة بالعاج بَأْسا وَأما التَّعْلِيق عَن إِبْرَاهِيم فَلم يذكرهُ السَّرخسِيّ فِي رِوَايَته، وَلَا أَكثر الروَاة عَن الفريري، فالعاج، بتَخْفِيف الْجِيم، جمع عاجة.
قَالَ الْجَوْهَرِي: العاج عظم الْفِيل وَكَذَا قَالَ فِي الْكتاب.
ثمَّ قَالَ: والعاج أَيْضا الذبل وَهُوَ ظهر السلحفاة والبحرية يتَّخذ مِنْهُ السوار والخاتم وَغَيرهمَا قَالَ جرير:
( ترى العيس الحولى جَريا بكرعها ... لَهَا مسكا من غير عاج وَلَا ذبل)

فَهَذَا يدل على أَن العاج غيرالذبل وَفِي ( الْمُحكم) والعاج أَنْيَاب الفيلة، وَلَا يُسمى غير الناب عاجاً وَقد أنكر الْخَلِيل أَن يُسمى عاجاً سوى أَنْيَاب الفيلة، وَذكر غَيره أَن الذبل يُسمى عاجاً وَكَذَا قَالَه الْخطابِيّ، وأنكروا عَلَيْهِ والذبل، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة قَالَ الْأَزْهَرِي الذبل، الْقُرُون، فَإِذا كَانَ من عاج فَهُوَ مسك وعاج ووقف، إِذا كَانَ من ذبل فَهُوَ مسك لَا غير وَفِي ( الْعبابُ) الذبل ظهر السلحفاة البحرية، كَمَا ذكرنَا الْآن.

     وَقَالَ : بَعضهم، قَالَ القالي: الْعَرَب تسمي كل عظم عاجاً، فَإِن ثَبت هَذَا فَلَا حجَّة فِي الْأَثر الْمَذْكُور على طَهَارَة عظم الْفِيل.
قلت مَعَ وجود النَّقْل عَن الْخَلِيل لَا يعْتَبر بِنَقْل القالي مَعَ مَا ذكرنَا من الدَّلِيل على طَهَارَة عظم الْميتَة مُطلقًا.



[ قــ :232 ... غــ :235 ]
- حدّثناإسْمَاعِيلُ قَالَ حَدثنِي مَالِكٌ عنِ ابنِ شِهاب عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عَن ابْن عَبَّاسَ عنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَلَ عنْ قَارَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقالَ أَلْقُوهًّ وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ وَكُلُوا سَمْنَكُمْ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة إِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أويس تقدم فِي بابُُ تفاضل أهل الْإِيمَان، وَعبيد الله هُوَ سبط عتبَة بن مَسْعُود وَهُوَ فِي قصَّة هِرقل، وَمَالك هُوَ ابْن أنس، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، ومَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ بنت الْحَارِث، خَالَة ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، تقدّمت فِي بابُُ السمر بِالْعلمِ بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد، وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية.

بَيَان ذكر تعدده مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الذَّبَائِح عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن مَالك بِهِ، وَعَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن مُسلم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أَحْمد بن صَالح وَالْحسن بن عَليّ، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن عبد الرَّحْمَن بن بزدويه عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَعْنَاهُ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَأبي عُثْمَان وَهُوَ الْحُسَيْن بن حَدِيث، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الذَّبَائِح عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن يَعْقُوب ين إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى بن عبد لله النيسايوري، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك بِهِ، وَعَن خشيش بن أَصْرَم عَن عبد الرَّزَّاق عَن عبد الرَّحْمَن بن بزدويه أَن معمراً ذكر عَن الزُّهْرِيّ بِهِ.

ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: ( فَأْرَة) بِهَمْزَة سَاكِنة وَجَمعهَا فأر بِالْهَمْز أَيْضا قَوْله: ( سَقَطت فِي سمن) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا فِي الذَّبَائِح من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب ( فَمَاتَتْ) ، وَزَاد النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك، ( فِي سمن جامد) قَوْله: ( وألقوها) أَي.
الْفَأْرَة أَي: أرموها وَمَا حولهَا أَي: وَمَا حول الْفَأْرَة من السّمن، وَيعلم من هَذِه الرِّوَايَة أَن السّمن كَانَ جَامِدا كَمَا صرح بِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، لِأَن الْمَائِع لَا حوله لَهُ إِذْ الْكل حوله.

بَيَان ذكر استنباط الحكم يستنبط مِنْهُ أَن السّمن الجامد أذا وَقعت فِيهِ فَأْرَة أَو نَحْوهَا تطرح الْفَأْرَة وَيُؤْخَذ مَا حولهَا من السّمن ويرمى بِهِ، وَلَكِن إِذا تحقق أَن شَيْئا مِنْهَا لم يصل إِلَى شَيْء خَارج عَمَّا حولهَا وَالْبَاقِي يُؤْكَل، وَيُقَاس على هَذَا نَحْو الْعَسَل والدبس إِذا كَانَ جَامِدا، وَأما الْمَائِع فقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه ينجس كُله، قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا.
وَقد شَذَّ قوم فَجعلُوا الْمَائِع كُله كَالْمَاءِ، وَلَا يعْتَبر ذَلِك، وسلك دواد بن عَليّ فِي ذَلِك مسلكهم إلاَّ فِي السّمن الجامد والذائب.
فَإِنَّهُ تبع ظَاهر هَذَا الحَدِيث، وَخَالف مَعْنَاهُ فِي الْعَسَل والخل وَسَائِر الْمَائِعَات، فَجَعلهَا كلهَا فِي لُحُوق النَّجَاسَة إِيَّاهَا بِمَا ظهر فِيهَا، فشذ أَيْضا ويزمه أَن لَا يتَعَدَّى الْفَأْرَة كَمَا لَا يتَعَدَّى السّمن.
قَالَ أَبُو عَمْرو: وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الاستصباح بِهِ بعد إِجْمَاعهم على نَجَاسَته، فَقَالَت طَائِفَة من الْعلمَاء لَا يستصبح بِهِ وَلَا ينْتَفع بِشَيْء مِنْهُ، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك، الْحسن بن صَالح وَأحمد بن حَنْبَل محتجين بالرواية الْمَذْكُورَة، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه، وبعموم النَّهْي عَن الْميتَة فِي الْكتاب الْعَزِيز.
.

     وَقَالَ  الْآخرُونَ: يجوز الاستصباح بِهِ وَالِانْتِفَاع فِي كل شَيْء الْأكل وَالْبيع وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما وَالثَّوْري، وَأما الْأكل فمجمع على تَحْرِيمه إلاَّ الشذوذ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَأما الاستصباح فَروِيَ عَن عَليّ وَابْن عمر أَنَّهُمَا أجازا ذَلِك، وَمن حجتهم فِي تَحْرِيم بَيْعه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لعن الله الْيَهُود.
حرمت عَلَيْهِم الشحوم فَبَاعُوهَا وأكلوا ثمنهَا أَن الله إِذا حرم أكل شَيْء حرم ثمنه)
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: ينْتَفع بِهِ وَيجوز بَيْعه وَلَا يُؤْكَل، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بن سعد، وَقد رُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَالقَاسِم وَسَالم محتجين بالرواية الْأُخْرَى، وَإِن كَانَ مَائِعا فاستصبحوا بِهِ وانتفعوا وَالْبيع من بابُُ الِانْتِفَاع وَأما قَوْله فِي حَدِيث عبد الرَّزَّاق وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه، فَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْأكل، وَقد أجْرى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّحْرِيم فِي شحوم الْميتَة من كل وَجه وَمنع الِانْتِفَاع بهَا، وَقد أَبَاحَ فِي السّمن يَقع فِيهِ الْميتَة، الِانْتِفَاع بِهِ، فَدلَّ على جَوَاز وُجُوه الِانْتِفَاع بِشَيْء مِنْهَا غير الْأكل، وَمن جِهَة النّظر أَن شحوم الْميتَة مُحرمَة الْعين والذات، وَأما الزَّيْت، وَنَحْوه يَقع فِيهِ الْميتَة فَإِنَّمَا ينجس بالمحاورة وَمَا ينجس بالمحاورة فبيعه جَائِز، كَالثَّوْبِ تصيبه النَّجَاسَة من الدَّم وَغَيره، وَأما قَوْله: إِن الله تَعَالَى ( إِذا حرم أكل شَيْء حرم ثمنه) ، فَإِنَّمَا خرج على لُحُوم الْميتَة الَّتِي حرم أكلهَا وَلم يبح الِانْتِفَاع بِشَيْء مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْخمر، وَأَجَازَ عبد الله بن نَافِع غسل الزَّيْت وَشبهه تقع فِيهِ الْميتَة، وَرُوِيَ عَن مَالك أَيْضا وَصفته، أَن يعمد إِلَى ثَلَاث أواني أَو أَكثر فَيجْعَل الزَّيْت النَّجس فِي وَاحِدَة مِنْهَا حَتَّى يكون نصفهَا أَو نَحوه، ثمَّ يصب عَلَيْهِ المَاء حَتَّى يمتلىء، ثمَّ يُؤْخَذ الزَّيْت من عَلَاء المَاء، ثمَّ يَجْعَل فِي آخر وَيعْمل بِهِ كَذَلِك، ثمَّ فِي آخر، وَهُوَ قَول لَيْسَ لقائله سلف، وَلَا تسكن إِلَيْهِ النَّفس قلت: هَذَا مِمَّا لَا ينعصر بالعصر، وَفِيه خلاف بَين أبي يُوسُف وَمُحَمّد، فَقَالَ أَبُو يُوسُف: يطهر مَا لَا ينعصر بالعصر بِغسْلِهِ ثَلَاثًا وتجفيفه فِي كل مرّة، وَذَلِكَ كالحنطة والخزفة الجديدة والحصير والسكين المموه بِالْمَاءِ النَّجس وَاللَّحم المغلي بِالْمَاءِ النَّجس فالطريق فِيهِ أَن تغسل الْحِنْطَة ثَلَاثًا وتجفف فِي كل مرّة، وَكَذَلِكَ الْحَصِير، وَيغسل الخزف حَتَّى لَا يبْقى لَهُ بعد ذَلِك طعم وَلَا لون وَلَا رَائِحَة، ويموه السكين بِالْمَاءِ الطَّاهِر ثَلَاث مَرَّات، ويطبخ اللَّحْم ثَلَاث مَرَّات، ويجفف فِي كل مرّة ويبرد من الطَّبْخ، وَأما الْعَسَل وَاللَّبن وَنَحْوهمَا إِذا مَاتَ فِيهَا الْفَأْرَة أَو نَحْوهَا يَجْعَل فِي الْإِنَاء وَيصب فِيهِ المَاء ويطبخ حَتَّى يعود إِلَى مَا كَانَ، وَهَكَذَا يفعل ثَلَاثًا.

     وَقَالَ  مُحَمَّد مَا لَا ينعصر بالعصر إِذا تنجس لَا يطهر أبدا، وَقد رُوِيَ عَن عَطاء قَوْله: تفرد بِهِ روى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريح عَنهُ، قَالَ: ذكرُوا أَنه يدهن بِهِ السفن وَلَا يمس ذَلِك وَلَكِن يُؤْخَذ بعوده فَقلت: يدهن بِهِ غير السفن؟ قَالَ لَا أعلم قلت وَابْن يدهن بِهِ من السفن قَالَ: ظُهُورهَا وَلَا يدهن بطونها.
قلت: فَلَا بُد أَن يمس! قَالَ: يغسل يَدَيْهِ من مَسّه.
وَقد رُوِيَ عَن جَابر الْمَنْع من الدّهن بِهِ وَعَن سَحْنُون.
أَن مَوتهَا فِي الزَّيْت الْكثير غير ضار، وَلَيْسَ الزَّيْت كَالْمَاءِ وَعَن عبد الْملك.
إِذا وَقعت فَأْرَة أَو دجَاجَة فِي زَيْت أَو بِئْر فَإِن لم يتَغَيَّر طعمه وَلَا رِيحه أزيل ذَلِك مِنْهُ وَلم يَتَنَجَّس، وَإِن مَاتَت فِيهِ تنجس وَإِن كثر وَوَقع فِي كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ: أَن الْفَأْرَة عِنْد مَالك طَاهِرَة خلافًا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَلَا نعلم عندنَا حخلافاً فِي طَهَارَتهَا فِي حَال حَيَاتهَا.





[ قــ :33 ... غــ :36 ]
- حدّثنا عَلِي بنُ عَبْدَ اللَّهِ قالحدثنا مالِكُ عَن ابنِ شِهابِ عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَتْبَةَ بنِ مَسْعُودِ عَن ابنِ عَبَّاسِ عنْ مَيْمُونَةَ أنَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ خُذُوها وَمَا حَوْلَها فَاطْرَحُوهُ
( انْظُر الحَدِيث رقم: 35) .

هَذَا هُوَ الطَّرِيق الثَّانِي لحَدِيث مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي، وَعلي هُوَ ابْن عبد الله الْمَدِينِيّ، تقدم فِي بابُُ الْفَهم فِي الْعلم، ومعن، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون بن عِيسَى أَبُو يحيى القزار، بِالْقَافِ والزايين المنقوطتين أولاهما مُشَدّدَة، الْمدنِي كَانَ لَهُ علمَان حاكة وَهُوَ يَشْتَرِي القز ويلقي إِلَيْهِم، كَانَ يتوسد عتبَة مَالك، قَرَأَ الْمُوَطَّأ على مَالك للرشيد وبنيه، وَكَانَ مَالك لَا يُجيب الْعِرَاقِيّين حَتَّى يكون هُوَ سائله، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة.

وفيهالتحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.

وَفِي الطَّرِيق الأولى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ وَفِي هَذِه الطَّرِيق أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن فَأْرَة،.

     وَقَالَ  بعضم السَّائِل عَن ذَلِك هِيَ مَيْمُونَة، وَوَقع فِي رِوَايَة يحيى الْقطَّان وَجُوَيْرِية عَن مَالك فِي هَذَا الحَدِيث أَن مَيْمُونَة استفتت رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره قلت فِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيقين تَصْرِيح بِأَن السَّائِل غير مَيْمُونَة، مَعَ أَنه يحْتَمل أَن لَا يكون غَيرهَا، وَلَكِن لَا يُمكن الْجَزْم بِأَنَّهَا هِيَ السائلة كَمَا جزم بِهِ هَذَا الْقَائِل.

قَوْله: ( خذوها) أَي الْفَأْرَة وَمَا حولهَا أَي: وَمَا حول الْفَأْرَة وَقد قُلْنَا إِنَّه يدل على أَن السّمن كَانَ جَامِدا قَوْله: ( فاطرحوه) الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الْمَأْخُوذ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ قَوْله: ( خذوها) والمأخوذ هُوَ الْفَأْرَة وَمَا حولهَا ويرمى الْمَأْخُوذ ويؤكل الْبَاقِي كَمَا دلّت عَلَيْهِ الرِّوَايَة الأولى فَإِن قلت: من أَيْن يعلم من هَذِه الرِّوَايَة جَوَاز أكل الْبَاقِي؟ قلت: لِأَن الطرح لأجل عدم جَوَاز مأكوليته، وَيفهم مِنْهُ جَوَاز مأكولية الْبَاقِي بِدَلِيل الرِّوَايَة الْأُخْرَى.

قَالَ مَعْنٌ حَدثنَا مَالِكٌ مَا لَا أحْصِيهِ يَقُولُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ مَيْمُونَةَ رِضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُم
أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى أَن الصَّحِيح فِي هَذَا عَن ابْن عَبَّاس عَن ميمونةٍ وَإِن كَانَت هَذِه الطَّرِيقَة أنزل من الطَّرِيقَة الأولى وَذَلِكَ لِأَن فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اخْتِلَافا كثيرا بيَّنه الدَّارَقُطْنِيّ حَيْثُ رُوِيَ تَارَة بِإِسْقَاط مَيْمُونَة من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك من غير ذكر مَيْمُونَة وَكَذَا فِي رِوَايَة القعْنبِي عَن مَالك، وَتارَة بِإِسْقَاط ابْن عَبَّاس، كَمَا لم يذكر فِي رِوَايَة ابْن وهب عَن ابْن عَبَّاس، وَمِنْهُم من لم يذكر ابْن عَبَّاس وَلَا مَيْمُونَة كيحيى ابْن بكير وَأبي مُصعب وَرَوَاهُ عبد الْملك بن الْمَاجشون عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله عَن ابْن مَسْعُود،.

     وَقَالَ : عبد الحبار عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه، وَوهم عبد الْملك وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه: ( سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن، قَالَ: إِذا كَانَ جَامِدا فالقوها، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه) .

     وَقَالَ  أَبُو عمر: هَذَا اضْطِرَاب شَدِيد من مَالك فِي سَنَد هَذَا الحَدِيث.
.

     وَقَالَ  الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث مَعْلُول، وَفِي رِوَايَة: سُئِلَ الزُّهْرِيّ عَن الداربة تَمُوت فِي الزَّيْت وَالسمن وَهُوَ جامد أَو غير جامد: فَقَالَ: بلغنَا إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بفأرة مَاتَت فِي سمن فَأمر بِمَا قرب مِنْهَا فَطرح، ثمَّ أكل.
وَلما كَانَ الْأَمر كَذَلِك بَين البُخَارِيّ أَن الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا ابْن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة هِيَ الْأَصَح أَلا ترى أَن معن بن عِيسَى يَقُول: ( حَدثنَا مَالك) يَعْنِي بِهَذَا الحَدِيث ( مَا لَا أحصيه) يَعْنِي: أمراراً كَثِيرَة لَا يضبطها لكثرتها: يَقُول عَن ابْن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة:.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قَالَ معن: هُوَ كَلَام ابْن الْمَدِينِيّ، فَهُوَ دَاخل تَحت الْإِسْنَاد، وَيحْتَمل، وَإِن كَانَ احْتِمَالا بَعيدا، أَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ قَالَ بَعضهم: هُوَ مُتَّصِل، وَأبْعد من قَالَ إِنَّه مُعَلّق قلت أحتمال التَّعْلِيق غير بعيد وَلَا يخفى ذَلِك.





[ قــ :34 ... غــ :37 ]
- حدّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَّمَدٍ قَالَ أَخْبَرْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبَارَكِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرُ عَن هَمَّامِ بنِ مُنَبِهٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ المُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِا إذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَماً اللَّوْنُ لونُ الدَّمِ والعَرْفُ عَرْفُ لَمِسْكِ
ذكرُوا فِي مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة أوجهاً كلهَا بعيدَة مِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي: وَجه مُنَاسبَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من جِهَة الْمسك: فَإِن أَصله دم انْعَقَد وفضلة نَجِسَة من الغزال، فَيَقْتَضِي أَن يكون نجسا كَسَائِر الدِّمَاء، وكسائر الفضلات، فَأَرَادَ البُخَارِيّ أَن يبين طَهَارَته بمدح الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، كَمَا بَين طَهَارَة عظم الْفِيل بالأثر، فظهرت الْمُنَاسبَة غَايَة الظُّهُور، وَإِن استشكله الْقَوْم غَايَة الاستشكال انْتهى.
قلت: لم تظهر الْمُنَاسبَة بِهَذَا الْوَجْه أصلا وظهورها غَايَة الظُّهُور بعيد جدا واستشكال الْقَوْم باقٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِيرَاد المُصَنّف لهَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبابُُ لَا وَجه لَهُ، لِأَنَّهُ لَا مدْخل لَهُ فِي طَهَارَة الدَّم وَلَا نَجَاسَته، وَإِنَّمَا ورد فِي فضل المطعون فِي سَبِيل الله تَعَالَى، قَالَ بَعضهم: وَأجِيب: بِأَن مَقْصُود المُصَنّف إِيرَاده تَأْكِيدًا لمذهبه فِي أَن المَاء لَا يَتَنَجَّس بِمُجَرَّد الملاقاة مَا لم يتَغَيَّر، وَذَلِكَ لِأَن تبدل الصّفة يُؤثر فِي الْمَوْصُوف، فَكَمَا أَن تغير صفة الدَّم بالرائحة إِلَى طيب الْمسك أخرجه من النَّجَاسَة إِلَى الطَّهَارَة، فَكَذَلِك تغير صفة المَاء إِذا تغير بِالنَّجَاسَةِ، يُخرجهُ عَن صفة الطَّهَارَة إِلَى صفة النَّجَاسَة، فَإِذا لم يُوجد التَّغَيُّر لم تُوجد النَّجَاسَة.
قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ نَقله فِي شَرحه عَن بَعضهم، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل وَتعقب، بِأَن الْغَرَض إِثْبَات انحصار التنجس بالتغير، وَمَا ذكر يدل على أَن التنجس يحصل بالتغير وَهُوَ باقٍ إِلَّا أَنه لَا يحصل إلاَّ بِهِ، وَهُوَ مَوضِع النزاع أنْتَهى قلت: هَذَا أَيْضا كَلَام الْكرْمَانِي، وَلكنه سبكه فِي صُورَة غير ظَاهِرَة، وَقَول الْكرْمَانِي هَكَذَا، فَنَقُول للْبُخَارِيّ: لَا يلْزم من وجود الشَّيْء عِنْد الشَّيْء أَن لَا يُوجد عِنْد عَدمه لجَوَاز مُقْتَض آخر، وَلَا يلْزم من كَونه خرج بالتغير إِلَى النَّجَاسَة أَن لَا يخرج إلاَّ بِهِ لاحْتِمَال وصف آخر يخرج بِهِ عَن الطَّهَارَة بِمُجَرَّد الملاقاة، إنتهى حَاصِل هَذَا أَنه وَارِد على قَوْلهم: إِن مَقْصُود البُخَارِيّ من إِيرَاد هَذَا الحَدِيث تَأْكِيد مذْهبه فِي أَن المَاء لَا يَتَنَجَّس بِمُجَرَّد الملاقاة.

وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن بطالإنما ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي بابُُ نَجَاسَة المَاء لِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا صَحِيح السَّنَد فِي المَاء، فاستدل على حكم الْمَائِع بِحكم الدَّم الْمَائِع، وَهُوَ الْمَعْنى الْجَامِع بَينهمَا انْتهى.
قلت: هَذَا أَيْضا وَجه غير حسن لَا يخفى.

وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن رشد وَهُوَ أَن مُرَاده أَن انْتِقَال الدَّم إِلَى الرَّائِحَة الطّيبَة هُوَ الَّذِي نَقله من حَالَة الدَّم إِلَى حَالَة الْمَدْح، فَحصل من هَذَا تَغْلِيب وصف وَاحِد، وَهُوَ، الرَّائِحَة، على وصفين، وهما: الطّعْم واللون، فيستنبط مِنْهُ أَنه مَتى تغير أحد اللأوصاف الثَّلَاثَة بصلاح أَو فَسَاد تبعه الأصفان الباقيان انْتهى قلت هَذَا ظَاهر الْفساد لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ إِنَّه إِذا وصف وَاحِد بِالنَّجَاسَةِ أَن لَا يُؤثر حَتَّى يُوجد الوصفان الْآخرَانِ، وَلَيْسَ بِصَحِيح.
وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن الْمُنِير: لما تَغَيَّرت صفته إِلَى صفة طَاهِرَة بَطل حكم النَّجَاسَة فِيهِ.

وَمِنْهَا مَا قَالَه الْقشيرِي: المراعاة فِي المَاء بِتَغَيُّر لَونه دون رَائِحَته، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمى الْخَارِج من جرح الشَّهِيد دَمًا وَإِن كَانَ رِيحه ريح الْمسك، وَلم يقل مسكاً، وَغلب اسْم الْمسك لكَونه على رَائِحَته، فَكَذَلِك المَاء مَا لم يتَغَيَّر طعمه.

وكل هَؤُلَاءِ خارجون عَن الدائرة، وَلم يذكر أحد مِنْهُم وَجها صَحِيحا ظَاهرا لإيراد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبابُُ، لِأَن هَذَا الحَدِيث فِي بَيَان فضل الشَّهِيد: على أَن الحكم الْمَذْكُور فِيهِ من أُمُور الْآخِرَة، وَالْحكم فِي المَاء بِالطَّهَارَةِ والنجاسة من أُمُور الدُّنْيَا، وَكَيف يلتثم هَذَا بِذَاكَ؟
ورعاية الْمُنَاسبَة فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء بِأَدْنَى وَجه يلمح فِيهِ كَافِيَة، والتكلفات بالوجوه الْبَعِيدَة غير مستملحة، وَيُمكن أَن يُقَال: وَجه الْمُنَاسبَة فِي هَذَا أَنه لما كَانَ مبْنى الْأَمر فِي المَاء بالتغير بِوُقُوع النَّجَاسَة، وَأَنه يخرج عَن كَونه صَالحا للاستعمال لتغير صفته الَّتِي خلق عَلَيْهَا أَو أورد لَهُ نظيراً بِتَغَيُّر دم الشَّهِيد.
فَإِن مُطلق الدَّم نجس، وَلكنه تغير بِوَاسِطَة الشَّهَادَة فِي سَبِيل الله، وَلِهَذَا لَا يغسل عَنهُ دَمه ليظْهر شرفه يَوْم الْقِيَامَة لأهل الْموقف بانتقال صفته المذمومة إِلَى الصّفة المحمودة حَيْثُ صَار انتشاره كرائحة الْمسك، فَافْهَم فَإِن هَذَا الْمِقْدَار كافٍ.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: اخْتلفُوا فِيهِ أَنه أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي مُوسَى الْمروزِي الْمَعْرُوف بمردويه، هَكَذَا قَالَه الْحَاكِم: أَبُو عبد الله، والكلاباذي وَالْإِمَام أَبُو نصر حَامِد بن مَحْمُود بن عَليّ الْفَزارِيّ فِي كِتَابه (مُخْتَصر البُخَارِيّ) وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَنه، أَحْمد بن مُحَمَّد بن عدي عرف بشبويه،.

     وَقَالَ : أَبُو أَحْمد بن عدي بن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن معمر، لَا يعرف، ومردويه مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ ومئتين وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ،.

     وَقَالَ  لَا بَأْس وشبويه مَاتَ سنة تسع وَعشْرين أَو ثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَرُوِيَ عَنهُ أَبُو دَاوُد الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة بالراء، ابْن رَاشد تقدم فِي كتاب الْوَحْي هُوَ وَابْن الْمُبَارك.
الرَّابِع: همام، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن المنبه، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة بعد النُّون الْمَفْتُوحَة، تقدم فِي بابُُ حسن إِسْلَام الْمَرْء.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ.

بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَالْأَخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين والعنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري ومدني.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجِهَاد وَأخرجه ابْن عَسَاكِر مضعفاً عَن أبي أَمَامه يرفعهُ، (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يكلّم أحد فِي سَبِيل الله وَالله تَعَالَى أعلم بِمن يكلم) فَذكره وَفِي لفظ (مَا وَقعت قَطْرَة أحب إِلَى الله من قَطْرَة دم فِي سَبِيل الله، أَو قَطْرَة دمع فِي سَواد اللَّيْل لَا يَرَاهَا إلاَّ الله تَعَالَى) .

بَيَان لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (كلم) بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون اللَّام قَالَ الْكرْمَانِي: أَي جِرَاحَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الْكَلم الْجرْح من كَلمه يكلمهُ، كلما إِذا جرحه، من بابُُ: ضرب يضْرب، وَالْجمع: كلوم وَكَلَام، وَرجل كليم ومكلوم أَي: مَجْرُوح، وَمِنْه اشتقاق الْكَلَام من الِاسْم وَالْفِعْل والحرف.
قَوْله: (يكلمهُ الْمُسلم) بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْكَاف وَفتح اللَّام أَي يكلم بِهِ فَحذف الْجَار وأوصل الْمَجْرُور إِلَى الْفِعْل، وَالْمُسلم، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مفعول مَا لم يسم فالعه.
قَوْله: (فِي سَبِيل الله) قيد يخرج بِهِ مَا إِذا كلم الرجل فِي غير سَبِيل الله وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد من طَرِيق الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: (وَالله تَعَالَى أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله) .
قَوْله: (كهيئتها) أَي: كَهَيئَةِ الْكَلِمَة وأنث الضَّمِير بِاعْتِبَار الْكَلِمَة.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَتَبعهُ بَعضهم تَأْنِيث الضَّمِير بِاعْتِبَار إِرَادَة الْجراحَة.
قلت: لَيْسَ، كَذَلِك بل بِاعْتِبَار الْكَلِمَة لِأَن الْكَلم والكلمة مصدران، والجراحة اسْم لَا يعبر بِهِ عَن الْمصدر، مَعَ أَن بَعضهم قَالَ: ويوضحه، رِوَايَة القايسي عَن أبي زيد الْمروزِي عَن الفريري كل كلمة يكلمها وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر.
قلت: هَذَا يُوضح مَا قلت لَا مَا قَالَه.
فَافْهَم قَوْله: (إِذْ طعنت) أَي: حِين طعنت، وَفِي بعض النّسخ وَجَمِيع نسخ مُسلم: إِذا طعنت) بِلَفْظ: إِذا مَعَ الْألف، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: إِذْ للاستقبال وَلَا يَصح الْمَعْنى عَلَيْهِ قلت: هُوَ هَاهُنَا لمجر، الظَّرْفِيَّة، إِذْ هُوَ بِمَعْنى إِذْ وَقد يتعاقبان أَو هُوَ لاستحضار صُورَة الطعْن، إِذْ الاستحضار كَمَا يكون بِصَرِيح لفظ الْمُضَارع، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَالله الَّذِي أرسل الرِّيَاح فتثير سحاباً} (الرّوم: 48) يكون أَيْضا بِمَا فِي معنى الْمُضَارع، كَمَا نَحن فِيهِ.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَيْضا مَا وَجه التَّأْنِيث فِي طعنت المطعون هُوَ الْمُسلم قلت أَصله طعن بهَا وَقد حذف الْجَار لم أصل الضَّمِير المجرود إِلَى الْفِعْل وَصَارَ الْمُنْفَصِل مُتَّصِلا قلت: هَذَا تعسف؟ بل التَّأْنِيث فِيهَا بِاعْتِبَار الْكَلِمَة، لما فِي هيئتها لِأَنَّهَا المطعونة فِي الْحَقِيقَة وَالَّذِي إِنَّمَا يُسمى مطعوناً بِاعْتِبَار الْكَلِمَة والطعنة.
قَوْله: (تفجر) بتَشْديد الْجِيم لِأَن أَصله تنفجر، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَمَا فِي قَوْله: { نَار تلظى} (فاطر: 9) فعله تتلظى،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي، تفجر، بِضَم الْجِيم من الثلاثي، وبفتح الْجِيم الْمُشَدّدَة، وحذفت التَّاء الأولى مِنْهُ من التفعل قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى جوباز الْوَجْهَيْنِ فِيهِ، وَلكنه مَبْنِيّ على مَجِيء الرِّوَايَة بهما قَوْله: (واللون) وَفِي بعض النّسخ (اللَّوْن) بِدُونِ الْوَاو، واللون من المبصرات وَهُوَ أظهر المحسومات حَقِيقَة ووجوداً، فَذَلِك اسْتغنى عَن تَعْرِيفه وإثباته بِالدَّلِيلِ، وَمن القدماء من زعم أَنه لَا حَقِيقَة للألوان أصلا وَمِنْهُم من ظن أَن اللَّوْن الْحَقِيقِيّ لَيْسَ إلاَّ السوَاد وَالْبَيَاض، وَمَا عداهما إِنَّمَا حصل من تركيبهما وَمِنْهُم من زعم أَن الألوان الْحَقِيقِيَّة خَمْسَة: السوَاد، وَالْبَيَاض، والحمرة، والخضرة، والصفرة.
وَجعل فِي البوافي مركبة مِنْهَا.
(وَالدَّم) أَصله: دم وبالتحريك، وَإِنَّمَا قَالُوا: دمي بدمي لأجل الكسرة الَّتِي قيل الْيَاء كَمَا لَو إرضى يرضى من الرضْوَان.
.

     وَقَالَ  سِيبَوَيْهٍ: أَصله: دمى، بِالتَّحْرِيكِ وَإِن جَاءَ جمعه مُخَالفا لنظائره، والذاهب مِنْهُ الْيَاء، وَالدَّلِيل عَلَيْهَا قَوْلهم فِي تَثْنِيَة دميان، وَبَعض الْعَرَب يَقُول فِي تثنيته دموان.
قَوْله: (وَعرف المسلك) ، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ مُعرب، مشك، بالشين الْمُعْجَمَة وَضم الْمِيم، ويروى: عرف مسك، مُنْكرا وَكَذَلِكَ.
الدَّم، يرْوى مُنْكرا قَوْله: (وَالْعرْف) ينْتج بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخه فَاء وَهِي الرَّائِحَة الطّيبَة والمنتنة أَيْضا.

بَيَان استنباط الْفَوَائِد وَمِنْهَا: أَن الْحِكْمَة فِي كَون دم الشَّهِيد يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة على هَيْئَة إِنَّه يشْهد لصَاحبه بفضله، وعَلى ظالمه بِفِعْلِهِ وَمِنْهَا: كَونه على رَائِحَة الْمسك إِظْهَارًا لفضيلته لأهل الْمَحْشَر، وَلِهَذَا لَا يغسل دَمه وَلَا هُوَ يغسل خلافًا لسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَمِنْهَا: الدّلَالَة على فضل الْجراحَة فِي سَبِيل الله.
وَمِنْهَا: أَن قَوْله: (عرف الْمسك) لَا يسْتَلْزم أَن يكون مسكاً حَقِيقَة بل يَجعله الله شَيْئا يشبه هَذَا وَلَا كَونه دَمًا يسْتَلْزم أَن يكون دَمًا نجسا حَقِيقَة، وَيجوز أَن يحوله الله إِلَى مسك حَقِيقَة لقدرته على كل شَيْء كَمَا أَنه يحول أَعمال بني آدم من الْحَسَنَات والسيئات إِلَى جَسَد ليوزن فِي الْمِيزَان الَّذِي ينصبه يَوْم الْقِيَامَة وَالله أعلم.