فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب البول في الماء الدائم

( بابُُ البَولِ فِي الماءِ الدَّائِمِ)

أَي هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْبَوْل فِي المَاء الراكد، وَهُوَ الَّذِي لَا يجْرِي فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، بابُُ لَا تبولوا فِي المَاء الراكد وَفِي بعض النّسخ: بابُُ المَاء الدَّائِم، وَفِي بَعْضهَا، بابُُ الْبَوْل فِي المَاء الدَّائِم ثمَّ الَّذِي لَا يجْرِي، وَتَفْسِير الدَّائِم هُوَ: الَّذِي لَا يجْرِي وَذكر قَوْله: بعد ذَلِك الَّذِي لَا يجْرِي يكون تَأْكِيدًا لمعناه وَصفَة مُوضحَة لَهُ، وَقيل: للِاحْتِرَاز عَن راكد لَا يجْرِي بعضه كالبرك وَنَحْوهَا.
قلت: فِيهَا تعسف، وَالْألف وَاللَّام فِي المَاء، إِمَّا لبَيَان حَقِيقَة الْجِنْس أَو للْعهد الذهْنِي، وَهُوَ: المَاء الَّذِي يُرِيد الملكف التوضأ بِهِ والاغتسال مِنْهُ.

فَإِن قلت مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ؟ قلت: ظَاهر لِأَن الْبابُُ السَّابِق فِي بَيَان السّمن وَالْمَاء الَّذِي يَقع فِيهِ النَّجَاسَة، وَهَذَا أَيْضا فِي بَيَان المَاء الراكد الَّذِي يَبُول فِيهِ الرجل فيتقاربان فِي الحكم وَلم أجد مِمَّن اعتنى بشرح هَذَا الْكتاب أَن يذكر وُجُوه المناسبات بَين الْأَبْوَاب والكتب إلاَّ نَادرا.



[ قــ :235 ... غــ :238 ]
- حدّثنا أَبُو الْيَمَان قالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ إأخبرنا أبُو الزِّنادِ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْهُ تَعَالَى أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول نحْنُ الآخَرُونَ السَّابِقُونَ

باسْنَادِهِ قَالَ لاَ يَبُولَنَّ احَدُكُمْ فِي الماءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسَلُ فِيهِ.

هَذَانِ حديثان مستقلان، ومطابقة الحَدِيث الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَأما الْحِكْمَة فِي تَقْدِيم الحَدِيث الأول فقد اخْتلفُوا فِيهَا فَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة سمع ذَلِك من النَّبِي ت وَمَا بعده فِي نسق وَاحِد،.
فَحدث بهما جَمِيعًا وَيحْتَمل أَن يكون همام فعل ذَلِك لِأَنَّهُ سَمعهَا من أبي هُرَيْرَة وإلاَّ فَلَيْسَ فِي الحَدِيث مُنَاسبَة للتَّرْجَمَة.
قيل: فِي الِاحْتِمَال الأول نظر لتعذره.
وَلِأَنَّهُ مَا بلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حفظ عَنهُ أحد فِي مجْلِس وَاحِد مِقْدَار هَذِه النُّسْخَة صَحِيحا إِلَّا أَن يكون من الْوَصَايَا الْغَيْر الصَّحِيحَة، وَلَا يقرب من الصَّحِيح.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنِير: مَا حَاصله أَن هما مَا رَاوِيه، روى جملَة أَحَادِيث عَن أبي هُرَيْرَة استفتحها لَهُ أَبُو هُرَيْرَة بِحَدِيث نَحن الْآخرُونَ فَصَارَ همام كلما حدث عَن أبي هُرَيْرَة ذكر الْجُمْلَة من أَولهَا، وَتَبعهُ البُخَارِيّ فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ فِي مَوَاضِع أُخْرَى من كِتَابه فِي كتاب: الْجِهَاد والمغازي وَالْإِيمَان وَالنُّذُور وقصص الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، والاعتصام ذكر فِي أوائلها كلهَا نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنِير: هُوَ حَدِيث وَاحِد، فَإِذا كَانَ وَاحِدًا تكون الْمُطَابقَة فِي آخر الحَدِيث.
وَفِيه نظر لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاحِدًا لما فَصله البُخَارِيّ بقوله: ( وبأسناده) وَأَيْضًا فَقَوله: نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ طرف من حَدِيث مَشْهُور فِي ذكر يَوْم الْجُمُعَة لَو رَاعى البُخَارِيّ مَا ادَّعَاهُ لساق الْمَتْن بِتَمَامِهِ، وَيُقَال: الْحِكْمَة فِي هَذَا أَن حَدِيث نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ، أول الحَدِيث فِي صحيفَة همام عَن أبي هُرَيْرَة، وَكَانَ همام إِذا رُؤِيَ الصَّحِيفَة استفتج بِذكر، ثمَّ سرد الْأَحَادِيث، فواقه البُخَارِيّ هَاهُنَا وَيُقَال: الْحِكْمَة فِيهِ أَن من عَادَة الْمُحدثين ذكر الحَدِيث جملَة لتَضَمّنه مَوضِع الدّلَالَة الْمَطْلُوبَة، وَلَا يكون مَا فِيهِ مَقْصُودا بالاستدلال، وَإِنَّمَا جَاءَ تبعا لموْضِع الدَّلِيل وَفِيه نظر، وَلَا يخفى.

وَقَالَ الْكرْمَانِي قَالَ بعض عُلَمَاء الْعَصْر: إِن قيل: مَا مُنَاسبَة صدر الحَدِيث لآخرة؟ قُلْنَا: وَجهه أَن هَذِه الْأمة آخر من يدْفن من الْأُمَم، وَأول من يخرج مِنْهَا لِأَن الأَرْض لَهُم وعَاء والوعاء آخر مَا يوضع فِيهِ، وَأول مَا يخرج مِنْهُ فَكَذَلِك المَاء الراكد.
آخر مَا يَقع فِيهِ من الْبَوْل أول مَا يُصَادف أَعْضَاء المتطهر مِنْهُ، فَيَنْبَغِي أَن يجْتَنب ذَلِك وَلَا يَفْعَله قلت فِيهِ: جر الثقيل وَلَا يشفي العليل.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْمِيم: هُوَ الحكم بن نَافِع.
الثَّانِي: شُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة، وَكِلَاهُمَا تقدما فِي قصَّة هِرقل.
الثَّالِث: والزناد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد لله بن ذكْوَان.
الرَّابِع: الْأَعْرَج، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، والأعرج صفته تقدما فِي بابُُ: حب الرَّسُول من الْإِيمَان.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.

بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موصع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه: الْأَخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: السماع فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني.
وَفِيه: فِي بعض النّسخ أخبرنَا أَبُو الزِّنَاد أَن الْأَعْرَج وَفِي بَعْضهَا: حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد أَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج وَفِيه: كَمَا ترى أَن شعيباً روى عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج وَوَافَقَهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن أبي الزِّنَاد.
وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ.
وَرَوَاهُ أَكثر أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة عَنهُ عَن أبي الزِّنَاد عَن مُوسَى بن أبي عُثْمَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَمن هَذَا الْوَجْه أخرجه النَّسَائِيّ، وَكَذَا أخرجه من طَرِيق النَّوَوِيّ عَن أبي الزِّنَاد، والطَّحَاوِي من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه، والطريقان صَحِيحَانِ وَلأبي الزِّنَاد فِيهِ شَيْخَانِ وَلَفْظهمَا فِي سِيَاق الْمَتْن مُخْتَلف فِيهِ.

وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من عشر طرق: الأول: حَدثنَا صَالح عبد الرحمان بن عَمْرو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ، وَعلي بن شيبَة بن الصلات الْبَغْدَادِيّ قَالَا حَدثنَا عبد الله بن يزِيد المقرىء، قَالَ: سَمِعت ابْن عون يحدث عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ: نهى أَو نهيّ أَن يَبُول الرجل فِي المَاء الدَّائِم، أَو الراكد ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ أَو يغْتَسل فِيهِ.
الطَّرِيق الثَّانِي: حَدثنَا عَليّ بن سعيد بن نوح الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن بكر السَّهْمِي، قَالَ: حَدثنَا هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( لَا يَبُول أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي ثمَّ يغْتَسل فِيهِ) وَأخرجه مُسلم بِنَحْوِهِ.
الطَّرِيق الثَّالِث: حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبرنِي أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ عَن الْحَارِث بن أبي ذياب، وَهُوَ رجل من الأزد، عَن عَطاء بن مينا عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ أَو يشرب) وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ إِسْنَادًا ومتناً.
الطَّرِيق الرَّابِع: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الله بن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث أَن بكير بن عبد الله بن الْأَشَج حَدثهُ أَن أَبَا السَّائِب، مولى هِشَام بن زهرَة؟ حَدثهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا يغْتَسل أحدكُم فِي المَاء، الدَّائِم وَهُوَ جنب فَقَالَ: كَيفَ تفعل يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ فَقَالَ: يتَنَاوَلهُ تناولاً) وَأخرجه ابْن حبَان فِي ( صَحِيحه) نَحوه عَن عبد الله بن مُسلم عَن جرملة بن يحيى عَن عبد الله بن وهب إِلَى آخِره.
الطَّرِيق الْخَامِس: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا سعيد بن الحكم ابْن أبي مَرْيَم، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، قَالَ: حَدثنِي أبي عَن مُوسَى بن أبي عُثْمَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) وَلم يعرف قَاسم اسْم: أبي مُوسَى، الْمَذْكُور وَتَركه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ.
الطَّرِيق السَّادِس وَالسَّابِع: حَدثنَا حسن بن نَص الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان ( ح) وَحدثنَا فهر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم، قَالَ: سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد، الطَّرِيق الثَّامِن: حَدثنَا الرّبيع بن سُلَيْمَان الْمرَادِي الْمُؤَذّن قَالَ: حَدثنَا أَسد بن مُوسَى قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن لهيفة قَالَ: فَذكر بِإِسْنَادِهِ مثله، حَدثنَا عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يَتَحَرَّك ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) .
الطَّرِيق التَّاسِع: حَدثنَا الرّبيع بن سُلَيْمَان الجيزي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو زرْعَة وَهبة الله بن رَاشد، قَالَ: أخبرنَا حَيْوَة بن شُرَيْح، قَالَ: سَمِعت ابْن عجلَان يحدث عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الراكد وَلَا يغْتَسل فِيهِ) .
الطَّرِيق الْعَاشِر: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن منقذ الْعُصْفُرِي؟ قَالَ: حَدثنِي إِدْرِيس بن يحيى، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن عَبَّاس عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، غير أَنه قَالَ: ( وَلَا يغْتَسل فِيهِ جنب) .
بَيَان تعدد مَوْضِعه من أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ كَمَا ترى عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن ابْن عجلَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث جَابر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه: ( نهى أَن يبال فِي المَاء الراكد) .
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَابْن مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الناقع) .

بَيَان لغته وَمَعْنَاهُ قَوْله: ( وَنحن الْآخرُونَ) بِكَسْر الْحَاء جمع الآخر، بِمَعْنى الْمُتَأَخر، يذكر فِي مُقَابلَة الأول، وَبِفَتْحِهَا جمع الآخر، أفعل التَّفْصِيل، وَهَذَا الْمَعْنى أَعم من الأول، وَالرِّوَايَة بِالْكَسْرِ فَقَط، وَمَعْنَاهُ نَحن الْمُتَأَخّرُونَ فِي الدُّنْيَا المتقدمون فِي يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: ( وبإسناده) الضَّمِير يرجع إِلَى الحَدِيث أَي: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور قَوْله: ( لَا يبولن) ، بِفَتْح اللَّام وبنون التَّأْكِيد الثَّقِيلَة.
وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: ( لَا يَبُول) ، بِغَيْر نون التَّأْكِيد.
قَوْله: ( فِي المَاء الدَّائِم) من دَامَ الشَّيْء يَدُوم ويدام، قَالَ الشَّاعِر:
( يَا مي لَا غرو وَلَا ملاماً ... فِي الْحبّ أَن الْحبّ لن يداما)

وديماً ودواماً وديمومة قَالَه ابْن سَيّده وَأَصله الاستدارة، وَذَلِكَ أَن أَصْحَاب الهندسة يَقُولُونَ إِن المَاء إِذا كَانَ بمَكَان فَإِنَّهُ يكون مستديراً فِي الشكل، وَيُقَال الدَّائِم الثَّابِت الْوَاقِف الَّذِي لَا يجْرِي.
وَقَوله: ( لَا يجْرِي) إِيضَاح لمعناه وتأكيد لَهُ وَيُقَال: الدَّائِم الراكد، جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: وَفِي ( تَارِيخ نيسابور) المَاء الراكد الدَّائِم.
وَيُقَال: احْتَرز بقوله: ( الَّذِي لَا يجْرِي) عَن راكد يجْرِي بعضه، كالبرك وَقيل: احْتَرز بِهِ عَن المَاء الدائر لِأَنَّهُ جَار من حَيْثُ الصُّورَة، سَاكن من حَيْثُ الْمَعْنى.
قَوْله: ( ثمَّ يغْتَسل) يجوز فِيهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة الْجَزْم عطفا على: ( لَا يبولن) لِأَنَّهُ مجزوم الْموضع بِلَا الَّتِي للنَّهْي، وَلكنه بني على الْفَتْح لتوكيده بالنُّون.
وَالرَّفْع: تَقْدِير ثمَّ هُوَ يغْتَسل فِيهِ.
وَالنّصب: على إِضْمَار أَن وَإِعْطَاء، ثمَّ حكم وَاو الْجمع وَنَظِيره فِي الْأَوْجه الثَّلَاثَة قَوْله تَعَالَى: { ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت} ( النِّسَاء: 100) إغاثة قرىء بِالْجَزْمِ، وَهُوَ الَّذِي قرأنه السَّبْعَة، وبالرفع وَالنّصب على الشذوذ.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ لَا يجوز النصب لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن الْمنْهِي عَنهُ الْجمع بَينهمَا دون إِفْرَاد أَحدهمَا.
وَهَذَا لم يقلهُ أحد، بل الْبَوْل فِيهِ مَنْهِيّ عَنهُ سَوَاء أَرَادَ الِاغْتِسَال فِيهِ أَو مِنْهُ أم لَا، وَلَا يَقْتَضِي الْجمع إِذْ لَا يُرِيد بتشبيه، ثمَّ بِالْوَاو المشابهة من جَمِيع الْوُجُوه بل جَوَاز النصب بعده فَقَط سلمنَا لَكِن لَا يضر إِذْ كَون الْجمع يعلم من حَقنا وَكَون الْأَفْرَاد مَنْهِيّا من دَلِيل آخر كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق} ( الْبَقَرَة: 42) على تَقْدِير النصب.
قَوْله: ( فِيهِ) أَي: فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي، وَتفرد البُخَارِيّ بِلَفْظ فِيهِ، أَو فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد ( ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) كَمَا فِي رِوَايَة غَيره مِنْهُ بِكَلِمَة من وَلَك وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ يُفِيد حكما بِالنَّصِّ، وَحكما بالاستنباط.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: احْتج بِهِ أَصْحَابنَا.
أَن المَاء الَّذِي لَا يبلغ الغدير الْعَظِيم إِذا وَقعت فِيهِ نَجَاسَة لم يجز الْوضُوء بِهِ، قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا، وعَلى أَن الْقلَّتَيْنِ تحمل النَّجَاسَة لِأَن الحَدِيث مُطلق فبإطلاقه يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير، والقلتين وَالْأَكْثَر مِنْهُمَا.
وَلَو قُلْنَا: إِن الْقلَّتَيْنِ لَا تحمل النَّجَاسَة لم يكن للنَّهْي فَائِدَة على أَن هَذَا أصح من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ.

     وَقَالَ  ابْن قدامَة وَدَلِيلنَا حَدِيث الْقلَّتَيْنِ، وَحَدِيث بِئْر بضَاعَة، وَهَذَانِ نَص فِي خلاف مَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة.

     وَقَالَ  أَيْضا بِئْر بضَاعَة لَا تبلغ إِلَى الْحَد الَّذِي يمْنَع التنجس عِنْدهم قلت: لَا نسلم أَن هذَيْن الْحَدِيثين نصر فِي خلاف مَذْهَبنَا، أما حَدِيث الْقلَّتَيْنِ فَلِأَنَّهُ وَإِن كَانَ بَعضهم صَححهُ فَإِنَّهُ مُضْطَرب سنداً ومتناً والقلة فِي نَفسهَا مَجْهُولَة وَالْعَمَل بِالصَّحِيحِ الْمُتَّفق عَلَيْهِ أقوى وَأقرب وَأما حَدِيث بِئْر بضَاعَة فَإنَّا نعمل بِهِ فَإِن ماءها كَانَ جَارِيا وَقَوله: وبئر بضَاعَة لَا تبلغ إِلَى آخِره غير صَحِيح لِأَن الْبَيْهَقِيّ رُوِيَ عَن الشَّافِعِي أَن بِئْر بضَاعَة كَانَت كَثِيرَة المَاء وَاسِعَة، وَكَانَ يطْرَح فِيهَا من الأنجاس مَا لَا يُغير لَهَا لوناً وَلَا ريحًا وَلَا طعماً فَإِن قَالُوا: حديثكم عَام فِي كل مَاء، وحديثنا خَاص فِيمَا يبلغ الْقلَّتَيْنِ، وَتَقْدِيم الْخَاص على الْعَام مُتَعَيّن، كَيفَ وحديثكم لَا بُد من تَخْصِيصه، فَإِنَّكُم وافقتمونا على تَخْصِيص المَاء الْكثير الَّذِي يزِيد على عشرَة أَذْرع وَإِذا لم يكن بُد من التَّخْصِيص فالتخصيص بِالْحَدِيثِ أولى من التَّخْصِيص بِالرَّأْيِ من غير أصل يرجع إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيل يعْتَمد عَلَيْهِ.
قُلْنَا: لَا تسلمك أَن تَقْدِيم الْخَاص على الْعَام مُتَعَيّن، بل الظَّاهِر من مهب أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ تَرْجِيح الْعَام على الْخَاص فِي الْعَمَل بِهِ، كَمَا فِي حديثكم حَرِيم لئر الناضح فَإِنَّهُ رجح قَوْله: عَلَيْهِ السَّلَام: من حفر بِئْرا فَلهُ مِمَّا حولهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعا على الْخَاص الْوَارِد فِي بِئْر الناضح أَنه سِتُّونَ ذِرَاعا وَرجح قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( مَا أخرجت الأَرْض فَفِيهِ الْعشْر) على الْخَاص الْوَارِد بقوله: ( لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صدقه) وَنسخ الْخَاص بِالْعَام، قَوْلهم: التَّخْصِيص بِالْحَدِيثِ أولى من التَّخْصِيص بِالرَّأْيِ قُلْنَا: هَذَا إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ الحَدِيث الْمُخَصّص غير مُخَالف للْإِجْمَاع، وَحَدِيث الْقلَّتَيْنِ خير آحَاد ورد مُخَالفا لإِجْمَاع الصَّحَابَة فَيرد بَيَانه أَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُم فتيا فِي زنجي وَقع فِي بِئْر زَمْزَم، بنزج المَاء كُله، وَلم يظْهر أَثَره فِي المَاء، وَكَانَ المَاء أَكثر من قُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ بِمحضر من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَلم يُنكر عَلَيْهِمَا أحد مِنْهُم، فَكَانَ إِجْمَاعًا وَخبر الْوَاحِد إِذا ورد مُخَالفا للْإِجْمَاع يرد، يدل عَلَيْهِ أَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ قَالَ: لَا يثبت هَذَا الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكفى بِهِ قدوة فِي هَذَا الْبابُُ.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُد، لَا يكَاد يَصح لوَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ حَدِيث عَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فِي تَقْدِير المَاء.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْبَدَائِع) وَلِهَذَا رَجَعَ أَصْحَابنَا فِي التَّقْدِير إِلَى الدَّلَائِل الحسية دون الدَّلَائِل السمعية.

الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو يُوسُف على نَجَاسَة المَاء الْمُسْتَعْمل، فَإِنَّهُ قرن بَين الْغسْل فِيهِ وَالْبَوْل فِيهِ، وَأما الْبَوْل فِيهِ فينجسه، فَكَذَلِك الْغسْل فِيهِ وَفِي دلَالَة الْقرَان بَين الشَّيْئَيْنِ على استوائهما فِي الحكم خلاف بَين الْعلمَاء فالمذكور عَن أبي يُوسُف والمزني ذَلِك، وَخَالَفَهُمَا غَيرهمَا.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة على تنجس المَاء الْمُسْتَعْمل، لِأَن الْبَوْل ينجس المَاء، فَكَذَلِك الِاغْتِسَال، وَقد نهى عَنْهُمَا مَعًا، وَهُوَ التَّحْرِيم، فَدلَّ على أَن النَّجَاسَة فيهمَا ثَابِتَة، ورد بِأَنَّهَا دلَالَة قرَان وَهِي ضَعِيفَة قلت: هَذَا عجب مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذا كَانَت دلَالَة الاقتران صَحِيحَة عِنْده، فبقوله: وَهِي ضَعِيفَة، يرد على قَائِله: على أَن مَذْهَب أَكثر أَصْحَاب إِمَامه مثل مَذْهَب بعض الْحَنَفِيَّة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وعَلى تَقْدِير تَسْلِيمهَا قد يلْزم التَّسْوِيَة، فَيكون النَّهْي عَن الْبَوْل لِئَلَّا يُنجسهُ، وَعَن الِاغْتِسَال فِيهِ لِئَلَّا يسلبه الطّهُورِيَّة قلت: هَذَا أعجب من الأول، لِأَنَّهُ تحكم حَيْثُ لَا يفهم هَذِه التَّسْوِيَة من نظم الْكَلَام، وَالَّذِي احْتج بِهِ فِي نَجَاسَة المَاء الْمُسْتَعْمل يَقُول بالتسوية من نظم الْكَلَام.

الثَّالِث: النَّوَوِيّ زعم أَن النَّهْي الْمَذْكُور فِيهِ للتَّحْرِيم فِي بعض الْمِيَاه، وَالْكَرَاهَة فِي بَعْضهَا، فَإِن كَانَ المَاء كثيرا جَارِيا لم يحرم الْبَوْل فِيهِ لمَفْهُوم الحَدِيث، وَلَكِن الأولى اجتنابه، وَإِن كَانَ قَلِيلا جَارِيا فقد قَالَ جمَاعَة من أَصْحَابنَا: يكره، وَالْمُخْتَار أَنه يحرم، لِأَنَّهُ يقذره وينجسه على الْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَإِن كَانَ كثيرا راكداً فَقَالَ أَصْحَابنَا يكره وَلَا يحرم وَلَو قيل يحرم لم يكن بَعيدا وَأما الراكد الْقَلِيل فقد أطلق جمَاعَة من أَصْحَابنَا أَنه مَكْرُوه، وَالصَّوَاب الْمُخْتَار: أَنه حرَام، والتغوط فِيهِ كالبول فِيهِ، وأقبح، وَكَذَا أذا بَال فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي المَاء قلت: زعم النَّوَوِيّ أَنه من بابُُ اسْتِعْمَال اللَّفْظ اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْوَاحِد فِي مَعْنيين مُخْتَلفين، وَفِيه من الْخلاف مَا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْأُصُول.

الرَّابِع: أَن هَذَا الحَدِيث عَام فَلَا بُد من تَخْصِيصه اتِّفَاقًا بِالْمَاءِ المتبحر الَّذِي لَا يَتَحَرَّك أحد طَرفَيْهِ بتحريك الطّرف الآخر، أَو بِحَدِيث الْقلَّتَيْنِ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وبالعمومات الدَّالَّة على طهورية المَاء مَا لم تَتَغَيَّر أحد أَوْصَافه الثَّلَاثَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك رَحمَه الله.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: الْفَصْل بالقلتين أقوى لصِحَّة الحَدِيث فِيهِ، وَقد اعْترف الطَّحَاوِيّ من الْحَنَفِيَّة بذلك، لكنه أعْتَذر عَن القَوْل بِهِ بِأَن الْقلَّة فِي الْعرف تطلق على الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة، كالجرة وَلم يثبت فِي الحَدِيث تقديرهما، فَيكون مُجملا فَلَا يعْمل بِهِ، وَقواهُ ابْن دَقِيق الْعِيد.
قلت: هَذَا الْقَائِل أدعى ثمَّ أبطل دَعْوَاهُ بِمَا ذكره فَلَا يحْتَاج إِلَى ود كَلَامه بِشَيْء آخر.

الْخَامِس: فِيهِ ذليل على تَحْرِيم الْغسْل وَالْوُضُوء بِالْمَاءِ النَّجس.

السَّادِس: فِيهِ التَّأْدِيب بالتنزه ومختص ببول نسفه، لغير البائل أَن يتَوَضَّأ بِمَا بَال فِيهِ غَيره، أَيْضا للبائل إِذا بَال فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي المَاء أَو بَال بِقرب المَاء ثمَّ جرى إِلَيْهِ، وَهَذَا من أقبح مَا نقل عَنهُ.

السَّابِع: أَن الْمَذْكُور فِيهِ الْغسْل من الْجَنَابَة، فَيلْحق بِهِ الِاغْتِسَال من الْحَائِض وَالنُّفَسَاء، وَكَذَلِكَ يحلق بِهِ اغتسال الْجُمُعَة، والاغتسال من غسل الْمَيِّت عِنْد من يُوجِبهَا.
قلت: هَل يلْحق بِهِ الْغسْل الْمسنون أم لَا؟ قلت: من اقْتصر على اللَّفْظ فَلَا إِلْحَاق عِنْده كَأَهل الظَّاهِر، وَأما من يعْمل بِالْقِيَاسِ فَمن زعم أَن الْعلَّة الِاسْتِعْمَال فالإلحاق صَحِيح، وَمن زعم أَن الْعلَّة رفع الْحَدث فَلَا إِلْحَاق عِنْده، فَاعْتبر بِالْخِلَافِ الَّذِي بَين أبي يُوسُف وَمُحَمّد فِي كَون المَاء مُسْتَعْملا.

الثَّامِن: فِيهِ دَلِيل على نَجَاسَة الْبَوْل.