فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ، ولا المسكر

( بابٌُ لَا يَجُوزُ الوُضُوءُ بالنَّبِيذِ ولاٍ بالمُسْكِرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِيهِ لَا يجوز الْوضُوء إِلَخ أَي: بَيَان عدم الْجَوَاز بالنيذ قَوْله: ( وَلَا بالمسكر) أَي: وَلَا يجوز أَيْضا بالمسكر، قَالَ بَعضهم: هُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص.
قلت: إِنَّمَا يكون ذَلِك إِذا كَانَ المُرَاد بالنبيذ مَا لم يصل إِلَى حد الْإِسْكَار، وَأما إِذا وصل فَلَا يكون من هَذَا الْبابُُ، وَتَخْصِيص النَّبِيذ بِالذكر من بَين المسكرات لِأَنَّهُ مَحل الْخلاف فِي جَوَاز التوضىء بِهِ، قَالَ ابْن سَيّده: النبذ، طرحك الشَّيْء، وكل طرح نبذ، والنبيذ الشَّيْء المنبوذ والنبيذ مَا نَبَذته من عصير وَنَحْوه، وَقد نبذ وانتبذ ونبذ، والانتبا: المعالجة وَفِي ( الصِّحَاح) وَكتاب ( الشَّرْح) لِابْنِ درسْتوَيْه الْعَامَّة تَقول: أنبذت انْتهى وَذكره اللحياني فِي ( نوادره) وَمن حمض الحامض انبذت لُغَة وَلكنهَا قَليلَة، وَذكرهَا أَيْضا ثَعْلَب فِي كتاب ( فعلت وأفعلت) وَفِي ( الْجَامِع) للقزاز، أَكثر النَّاس يَقُولُونَ: نبذت النَّبِيذ، بِغَيْر الْألف، وَحكى الْفراء عَن الدوسي، قَالَ: وَكَانَ ثِقَة انبذت النَّبِيذ، وَلَا أسمعها أَنا من الْعَرَب.
قلت: النَّبِيذ فعيل بِمَعْنى مفعول، وَهُوَ المَاء الَّذِي ينتبذ فِيهِ تمرات لتخرج حلاوتها إِلَى المَاء.
وَفِي ( النِّهَايَة) لِابْنِ الْأَثِير: النَّبِيذ مَا يعْمل من الْأَشْرِبَة من التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْعَسَل وَالْحِنْطَة وَالشعِير وَغير ذَلِك، يُقَال: نبذت الشّعير وَالْعِنَب إِذا أنزلت عَلَيْهِ المَاء ليصير نبيذاً، فصرف من مفعول إِلَى فعيل، وانتبذته، اتخذته نبيذاً سَوَاء كَانَ مُسكرا أَو غير مُسكر، وَهُوَ من بابُُ فعل يفعل، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالْكَسْر فِي الْمُضَارع.
كضرب ذكره صَاحب ( الدستور) فِي هَذَا الْبابُُ وَفِي ( الْعبابُ) انبذت النَّبِيذ لُغَة عامية ونبذت الشَّيْء تنبيذاً شدّد للْمُبَالَغَة.

فَإِن قلت: مَا وَجه لمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ؟ قلت: لَيست بَينهمَا مُنَاسبَة خَاصَّة لَكِن من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على حكم وَيرجع إِلَى حَال الْمُكَلف من الصِّحَّة والفسادة.

وَكَرُهَه الحَسَنُ وَأَبُوا العَالِيَةِ

الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان الرباحي بِكَسْر الرَّاء وبالياء آخر الْحُرُوف المخففة وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَقد تقدم فِي أول كتاب الْعلم ورفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَأما الَّذِي علقه عَن الْحسن فَرَوَاهُ عَن الْحسن فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَمَّن سمع الْحسن يَقُول: ( لَا يتَوَضَّأ بنبيذ وَلَا بِلَبن) وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه حدّثنا الثَّوْريّ عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ عَن الْحسن قَالَ: ( لَا يتَوَضَّأ بِلَبن وَلَا بنبيذ) وروى أَبُو عبيد من طَرِيق أُخْرَى عَن الْحسن أَنه لَا بَأْس بِهِ فعلى هَذَا كَرَاهَته عِنْده كَرَاهَة تَنْزِيه فَحِينَئِذٍ لَا يساعد التَّرْجَمَة وَأما الَّذِي علقه عَن أبي الْعَالِيَة فروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه بِسَنَد جيد عَن أبي خلدَة فَقَالَ: قلت لأبي الْعَالِيَة رجل لَيْسَ عِنْده مَاء وَعِنْده نَبِيذ أيغتسل بِهِ من الْجَنَابَة قَالَ: لَا.

     وَقَالَ  ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا مَرْوَان ابْن مُعَاوِيَة عَن أبي خلدَة عَن أبي الْعَالِيَة أَنه كره أَن يغْتَسل بالنبيذ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عبيد عَن أبي خلدَة وَفِي رِوَايَة فكرهه.
قلت: الظَّاهِر أَن هَذَا أَيْضا كَرَاهَة تَنْزِيه.

وقالَ عَطَاء التيَمُّمُ أَحَب إلَيَّ مِنَ الوُضُوءِ بالنَّبِيذِ واللبَنِ

عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَهَذَا يدل على أَن عَطاء يُجِيز اسْتِعْمَال النَّبِيذ فِي الْوضُوء، وَلَكِن التَّيَمُّم أحب إِلَيْهِ مِنْهُ، فعلى هَذَا هُوَ أَيْضا لَا يساعد التَّرْجَمَة، وروى أَبُو دَاوُد من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء إِنَّه كره الْوضُوء بالنبيذ وَاللَّبن.

     وَقَالَ : إِن التَّيَمُّم أعجب إِلَيّ مِنْهُ.
قلت: أما التَّوَضُّؤ بِاللَّبنِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِنَفس اللَّبن، أَو بِمَاء خالطه لبن، فَالْأول لَا يجوز بِالْإِجْمَاع وَأما الثَّانِي فَيجوز عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ.
وَأما الْوضُوء بالنبيذ فَهُوَ جَائِز عِنْد أبي حنيفَة، وَلَكِن بِشَرْط أَن يكون حلواً رَقِيقا يسيل على الْأَعْضَاء كَالْمَاءِ، وَمَا اشتده مِنْهَا صَار حَرَامًا لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ وَإِن غيرته النَّار، فَمَا دَامَ حلواً فَهُوَ على الْخلاف، وَلَا يجوز التَّوَضُّؤ بِمَا سواهُ من الأنبذة جَريا على قَضِيَّة الْقيَاس.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي الْوضُوء بالنبيذ، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يجوز الْوضُوء بنيِّه ومطبوخة مَعَ عدم المَاء وجوده، تَمرا كَانَ أَو غَيره، فآن كَانَ مَعَ ذَلِك مشتداً فَهُوَ نجس لَا يجوز شربه وَلَا الْوضُوء بِهِ.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: لَا يجوز الْوضُوء بِهِ مَعَ وجود المَاء، فَإِذا عدم فَيجوز بمبطوح التَّمْر خَاصَّة.
.

     وَقَالَ  الْحسن: جَازَ الْوضُوء بالنبيذ.
.

     وَقَالَ  الْأَوْزَاعِيّ: جَازَ بِسَائِر الأنبذة انْتهى.
وَفِي ( الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِنَّه كَانَ لَا يرى بَأْسا بِالْوضُوءِ بنبيذ التَّمْر، وَبِه قَالَ الْحسن والأزاعي.
.

     وَقَالَ  عِكْرِمَة: النَّبِيذ وضوء من لم يجد المَاء،.

     وَقَالَ  إِسْحَاق: النَّبِيذ الحلو أحب إِلَيّ من التَّيَمُّم، وجمعهما أحب إليَّ وَعَن أبي حنيفَة كَقَوْل عِكْرِمَة، وَقيل عَنهُ: يجوز الْوضُوء بنبيذ التَّمْر إِذا طبخ وَاشْتَدَّ عِنْد عدم المَاء فِي السّفر، لحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَفِي ( أَحْكَام الْقُرْآن) لأبي بكر الرَّازِيّ، عَن أبي حنيفَة فِي ذَلِك ثَلَاث رِوَايَات.
إِحْدَاهَا: يتَوَضَّأ بِهِ وَيشْتَرط فِيهِ النِّيَّة، وَلَا يتَيَمَّم، وَهَذِه هِيَ الْمَشْهُورَة،.

     وَقَالَ  قاضيخان، وَهُوَ قَوْله الأول، وَبِه قَالَ زفر.
وَالثَّانيَِة: يتَيَمَّم وَلَا يتَوَضَّأ، رَوَاهَا عَنهُ نوح ابْن أبي مَرْيَم، وَأسد بن عَمْرو، وَالْحسن بن زِيَاد قَالَ قاضيخان: وَهُوَ الصَّحِيح عَنهُ، وَالَّذِي رَجَعَ إِلَيْهَا وَبهَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَأكْثر الْعلمَاء، وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيّ هَذَا.
وَالثَّالِثَة: رُوِيَ عَنهُ الْجمع بَينهمَا، وَهَذَا قَول مُحَمَّد.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْمُحِيط) صفة هَذَا النَّبِيذ أَن يلقى فِي المَاء تُمَيْرَات حَتَّى يَأْخُذ المَاء حلاوتها وَلَا يشْتَد وَلَا يسكر، فَإِن اشْتَدَّ حرم شربه، فَكيف الْوضُوء؟ وَإِن كَانَ مطبوخاً فَالصَّحِيح أَنه لَا يتَوَضَّأ بِهِ.
.

     وَقَالَ  فِي ( الْمُفِيد) إِذا ألْقى فِيهِ تمرات فحلا وَلم يزل عَنهُ اسْم المَاء وَهُوَ رَقِيق فَيجوز الْوضُوء بِهِ بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا، وَلَا يجوز الِاغْتِسَال بِهِ وَهَذَا خلاف مَا قَالَه فِي ( الْمَبْسُوط) أَنه يجوز الِاغْتِسَال بِهِ.

     وَقَالَ  الْكَرْخِي: الْمَطْبُوخ أدنى طبخة يجوز الْوضُوء بِهِ إلاَّ عِنْد مُحَمَّد،.

     وَقَالَ  الدباس: لَا يجوز، وَفِي ( الْبَدَائِع) وَاخْتلف الْمَشَايِخ فِي جَوَاز الِاغْتِسَال بنبيذ التَّمْر على أصل أبي حنيفَة، فَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز، لِأَن الْجَوَاز عرف بِالنَّصِّ، وَأَنه ورد بِالْوضُوءِ دون الِاغْتِسَال، فَيقْتَصر على مورد النَّص،.

     وَقَالَ  بَعضهم: يجوز لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنى.

ثمَّ لَا بُد من تَفْسِير نَبِيذ التَّمْر الَّذِي فِيهِ الْخلاف وَهُوَ أَن يلقى فِي المَاء شَيْء من التَّمْر لتخرج حلاوتها إِلَى المَاء، وَهَكَذَا ذكر ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي تَفْسِير النَّبِيذ الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: تمرات ألقيتها فِي المَاء، لِأَن من عَادَة الْعَرَب أَنَّهَا تطرح التَّمْر فِي المَاء ليحلو فَمَا دَامَ رَقِيقا حلواً أَو قارصاً يتَوَضَّأ بِهِ عِنْد أبي حنيفَة وَإِن كَانَ غليظاً كالرب لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ، وَكَذَا إِذا كَانَ رَقِيقا لكنه غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد لِأَنَّهُ صَار مُسكرا، والمسكر حرَام، فَلَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ، لِأَن النَّبِيذ الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ رَقِيقا حلواً، فَلَا يلْحق بِهِ الغليظ والنبيذ إِذا كَانَ نياً أَو كَانَ مطبوخاً أدنى طبخه، فَمَا دَامَ قارصاً أَو حلواً فَهُوَ على الْخلاف وَإِن غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد فَلَا، وَذكر الْقَدُورِيّ فِي ( شَرحه مُخْتَصر الْكَرْخِي) الِاخْتِلَاف فِيهِ بَين الْكَرْخِي وَأبي طَاهِر الدباس، على قَول الْكَرْخِي: يجوز، وعَلى قَول أبي طَاهِر: لَا يجوز، ثمَّ الَّذين جوزوا التَّوَضُّؤ بِهِ احْتَجُّوا بِحَدِيث ابْن مَسْعُود حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْجِنّ: ( مَاذَا فِي إداوتك؟ قَالَ: نَبِيذ قَالَ: تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وز اد، ( فَتَوَضَّأ بِهِ وَصلى الْفجْر) .

     وَقَالَ  بَعضهم: وَهَذَا الحَدِيث أطبق عُلَمَاء السّلف على تَضْعِيفه.
قلت: إِنَّمَا ضَعَّفُوهُ لِأَن فِي رُوَاته أَبَا زيد وَهُوَ رجل مَجْهُول لَا يعرف لَهُ رِوَايَة غير هَذَا الحَدِيث، قَالَه التِّرْمِذِيّ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْعَرَبِيّ فِي ( شرح التِّرْمِذِيّ) أَبُو زيد مولى عَمْرو بن حُرَيْث، روى عَنهُ رَاشد بن كيسَان وَأَبُو روق، وَهَذَا يُخرجهُ عَن حد الْجَهَالَة، وَأما اسْمه فَلم يعرف فَيجوز أَن يكون التِّرْمِذِيّ أَرَادَ أَنه مَجْهُول الِاسْم.

على أَنه روى هَذَا الحَدِيث أَرْبَعَة عشر رجلا عَن ابْن مَسْعُود كَمَا رَوَاهُ أَبُو زيد.
الأول: أَبُو رَافع عِنْد الطَّحَاوِيّ وَالْحَاكِم.
الثَّانِي: رَبَاح أَبُو عَليّ عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) .
الثَّالِث: عبد الله بن عمر عِنْد أبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي ( كتاب الصَّحَابَة) .
الرَّابِع: عَمْرو الْبكالِي عِنْد أبي أَحْمد فِي ( الكنى) بِسَنَد صَحِيح.
الْخَامِس: أَبُو عُبَيْدَة ابْن عبد الله.
السَّادِس: أَبُو الْأَحْوَص، وحديثهما عِنْد مُحَمَّد بن عِيسَى الْمَدَائِنِي.
فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُحَمَّد بن عِيسَى الْمَدَائِنِي واهي الحَدِيث، والْحَدِيث بَاطِل.
قلت: قَالَ البرقاني: فِيهِ ثِقَة لَا بَأْس بِهِ.
.

     وَقَالَ  اللألكائي: صَالح لَيْسَ يدْفع عَن السماع.
السَّابِع: عبد الله بن مسلمة عِنْد الْحَافِظ أبي الْحسن بن المظفر فِي كتاب ( غرائب شُعْبَة) .
الثَّامِن: قَابُوس بن ظبْيَان عَن أَبِيه عِنْد ابْن المظفر أَيْضا بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ.
التَّاسِع: عبد الله بن عَمْرو بن غيلَان الثَّقَفِيّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي جمعه حَدِيث يحيى بن أبي كثير عَن يحيى عَنهُ.
الْعَاشِر: عبد الله بن عَبَّاس عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي.
الْحَادِي عشر: أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ.
الثَّانِي عشر: ابْن عبد الله رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله عَن طَلْحَة بن عبد الله عَن أَبِيه أَن أَبَاهُ حَدثهُ.
الثَّالِث عشر: أَبُو عُثْمَان ابْن سنه عِنْد أبي حَفْص بن شاهي فِي كتاب ( النَّاسِخ والمنسوخ) من طَرِيق جَيِّدَة، وخرجها الْحَاكِم فِي ( مُسْتَدْركه) الرَّابِع عشر: أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ عِنْد الدَّوْرَقِي فِي ( مُسْنده) بطرِيق لَا بَأْس بهَا.
فَإِن قلت: صَحَّ عَن عبد الله إِنَّه قَالَ: لم أكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْجِنّ قلت يجوز أَن يكون صَحبه فِي بعض اللَّيْل واستوقفه فِي الْبَاقِي ثمَّ عَاد إِلَيْهِ، فصح أَنه لم يكن مَعَه عِنْد الْجِنّ، لَا نفس الْخُرُوج.

وَقد قيل: إِن لَيْلَة الْجِنّ كَانَت مرَّتَيْنِ.
فَفِي أول مرّة خرج إِلَيْهِم لم يكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن مَسْعُود وَلَا غَيره، كَمَا هُوَ ظَاهر حَدِيث مُسلم، ثمَّ بعد ذَلِك خرج إِلَيْهِم وَهُوَ مَعَه لَيْلَة أُخْرَى، كَمَا روى أَبُو حَاتِم فِي ( تَفْسِيره) فِي أول سُورَة الْجِنّ، من حَدِيث ابْن جريح قَالَ: قَالَ ابْن عبد الْعَزِيز بن عمر: أما الْجِنّ الَّذين لقوه بنخلة فجن نيتوى، وَأما الْجِنّ الَّذين لقوه بِمَكَّة فجن نَصِيبين.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: على تَقْدِير صِحَّته، أَي: صِحَة حَدِيث ابْن مَسْعُود: إِنَّه مَنْسُوخ، لِأَن ذَلِك كَانَ بِمَكَّة ونزول قَوْله تَعَالَى: { فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} ( سُورَة النِّسَاء: 43) إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف.
قلت: هَذَا الْقَائِل نقل هَذَا عَن ابْن الْقصار من الْمَالِكِيَّة، وَابْن حزم من كبار الظَّاهِرِيَّة، وَالْعجب مِنْهُ أَنه، مَعَ علمه أَن هَذَا مَرْدُود، نقل هَذَا وَسكت عَلَيْهِ.
وَجه الرَّد مَا ذكره الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) وَالدَّارَقُطْنِيّ: أَن جبري عَلَيْهِ السَّلَام، نزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَعْلَى مَكَّة فهمز لَهُ بعقبه فأنبع المَاء وَعلمه الْوضُوء.
.

     وَقَالَ  السُّهيْلي: الْوضُوء مكي، وَلكنه مدنِي التِّلَاوَة، وَإِنَّمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
آيَة التَّيَمُّم وَلم تقل: آيَة الْوضُوء، لِأَن الْوضُوء كَانَ مَفْرُوضًا قبل غير أَنه لم يكن قُرْآنًا يُتْلَى حَتَّى نزلت آيَة التَّيَمُّم، وَحكى عِيَاض عَن أبي الجهم: أَن الْوضُوء كَانَ سنة حَتَّى نزل فِيهِ الْقُرْآن بِالْمَدِينَةِ.

[ قــ :239 ... غــ :242 ]
- حدّثنا عليُّ بنُ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حدّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدّثنا الزُّهْرِي عَنْ أبي سلمَةَ عنْ عائِشَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ كعملُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بِالْجَرِّ الثقيل، وَكَانَ مَوْضِعه كتاب الْأَشْرِبَة، وَجه ذَلِك أَن الشَّرَاب إِذا كَانَ مُسكرا يكون شربه حَرَامًا، فَكَذَلِك لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: لِخُرُوجِهِ عَن اسْم المَاء فِي اللُّغَة والشريعة، وَكَذَلِكَ النَّبِيذ غير الْمُسكر أَيْضا، هُوَ فِي معنى السكر من جِهَة أَنه لَا يَقع عَلَيْهِ إسم المَاء وَلَو جَازَ أَن يشمى النَّبِيذ مَاء، لِأَن فِيهِ مَاء، جَازَ أَن يُسمى الْخلّ مَاء، لِأَن فِيهِ مَاء انْتهى.
قلت: كَون النَّبِيذ الْغَيْر مُسكر فِي معنى الْمُسكر غير صَحِيح، لِأَن النَّبِيذ الَّذِي لَا يسكر إِذا كَانَ رَقِيقا وَقد ألقيت فِيهِ تُمَيْرَات لتخرج حلاوتها إِلَى المَاء لَيْسَ فِي معنى الْمُسكر أصلا وَلَا يلْزم أَن يكون النَّبِيذ الَّذِي كَانَ مَعَ ابْن مَسْعُود فِي معنى النَّبِيذ الْمُسكر، وَلم يقل بِهِ أحد، وَلَا يلْزم من عدم جَوَاز تَسْمِيَة الْخلّ مَاء عدم جَوَاز تَسْمِيَة النَّبِيذ الَّذِي ذكره ابْن مَسْعُود مَاء أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَيفَ قَالَ: ( تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور) ، حِين سَأَلَ ابْن مَسْعُود: مَا فِي إدواتك؟ قَالَ: نَبِيذ، وَقد أطلق عَلَيْهِ المَاء وَوَصفه بالطهورية، فَكيف ذهل الْكرْمَانِي عَن هَذَا حَتَّى قَالَ مَا قَالَه ترويجاً لما ذهب إِلَيْهِ، وَالْحق أَحَق أَن يتبع.

الْإِدَاوَة، بِكَسْر الْهمزَة، إِنَاء صَغِير يتَّخذ من جلد للْمَاء كَمَا كَمَا السطيحة وَنَحْوهَا، وَجَمعهَا: أداوي.
ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي:.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة إِمَام اللُّغَة، النَّبِيذ لَا يكون طَاهِرا، لِأَن الله تَعَالَى شَرط الطّهُور بِالْمَاءِ والصعيد وَلم يَجْعَل لَهما ثَالِثا والنبيذ لَيْسَ مِنْهُمَا.
قلت: الْكَلَام مَعَ أبي عُبَيْدَة لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ بِهِ مُطلق النَّبِيذ فَغير مُسلم لِأَن فِيهِ مصادمة الحَدِيث النَّبَوِيّ، وَإِن أَرَادَ بِهِ النَّبِيذ الْخَاص وَهُوَ الغليظ الْمُسكر فَنحْن أَيْضا نقُول بِمَا قَالَه.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة الأول: عَليّ بن عبد الله الْمدنِي، وَقد تقدم غير مرّة.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد تقدم غير مرّة.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: أَبُو سَلمَة.
بِفَتْح اللَّام، عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد تقدم فِي كتاب الْوَحْي.
الْخَامِس: عَائِشَة الصديفة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

بَيَان لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مديني ومكي.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن عَليّ عَن سُفْيَان، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن عبد الله ابْن يُوسُف عَن مَالك، وَعَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعمر والناقد وَزُهَيْر بن حَرْب وَسَعِيد بن مَنْصُور، خمستهم عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن أبي وهب عَن يُونُس وَعَن حسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن يَعْقُوب، وَعَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَفِي حَدِيث معمر: ( كل شراب مُسكر حرَام) وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَفِيه عَن القعني عَن مَالك بِهِ، وَعَن يزِيد بن عبد ربه.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ وَعَن يزِيد بن عبد ربه.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك، وَعَن قُتَيْبَة بن سعيد، كِلَاهُمَا عَن مَالك بِهِ، وَعَن ابْن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن عَليّ بن مَيْمُونَة عَن بشر بن السّري عَن عبد الرَّزَّاق، وَفِيه وَفِي الْوَلِيمَة عَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ.

بَيَان مَعْنَاهُ وَحكمه قَوْله: ( كل شراب) أَي: كل وَاحِد من أَفْرَاد الشَّرَاب الْمُسكر حرَام وَذَلِكَ لِأَن كلمة، كل إِذا أضيفت إِلَى النكرَة تَقْتَضِي عُمُوم الْإِفْرَاد، وَإِذا أضيفت إِلَى الْمعرفَة تَقْتَضِي عُمُوم الْإِجْزَاء.

     وَقَالَ  بَعضهم: قَوْله: ( كل شراب أسكر) أَي: كَانَ من شَأْنه الْإِسْكَار سَوَاء حصل بشربه الْإِسْكَار أم لَا.
قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَذَا، لِأَن الشَّارِع أخبر بِحرْمَة الشَّرَاب عِنْد اتصافه بالإسكار، وَلَا يدل ذَلِك على أَنه يحرم إِذا كَانَ يسكر فِي المستقل، ثمَّ نقل عَن الْخطابِيّ، فَقَالَ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن قَلِيل الْمُسكر وَكَثِيره حرَام من أَي نوع كَانَ لِأَنَّهَا صِيغَة عُمُوم أُشير بهَا ألى جنس الشَّرَاب الَّذِي يكون مِنْهُ السكر، فَهُوَ كَمَا قَالَ: كل طَعَام أشْبع فَهُوَ حَلَال، فَإِنَّهُ يكون دَالا على حل كل طَعَام من شَأْنه الإشباع، وَإِن لم يحصل الشِّبَع بِهِ لبَعض.
قلت: قَوْله، قَلِيل الْمُسكر وَكَثِيره حرَام من أَي نوع كَانَ لَا يمشي فِي كل شراب، وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْخمر لما رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا ( إِنَّمَا حرمت الْخمْرَة بِعَينهَا والمسكر من كل شراب) فَهَذَا يدل على أَن الْخمر حرَام قليلها وكثيرها أسكرت أَو لَا، وعَلى أَن غَيرهَا من الْأَشْرِبَة إِنَّمَا يحرم عِنْد الْإِسْكَار وَهَذَا ظَاهر.
قلت: ورد عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ( كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام) قلت: طعن فِيهِ يحيى بن معِين وَلَئِن سلم فَالْأَصَحّ أَنه مَوْقُوف على ابْن عمر، وَلِهَذَا رَوَاهُ مُسلم بِالظَّنِّ، فَقَالَ: لَا أعلمهُ إلاّ مَرْفُوعا وَلَئِن سلم فَمَعْنَاه كل مَا أسكر كَثِيره فَحكمه حكم الْخمر.