فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه

(بابُُ غَسْلِ المَرّأةِ أَبَاهَا الدَّمَ عنْ وَجْهِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان غسل الْمَرْأَة الدَّم عَن وَجهه فَقَوله: (أَبَاهَا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول الْمصدر أَعنِي: غسل المرإة، والمصدر مُضَاف إِلَى فَاعله.
قَوْله: (الدَّم) مَنْصُوب بدل من أَبَاهَا الاشتمال، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بالاختصاص، تَقْدِيره: أَعنِي الدَّم، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: بابُُ غسل الْمَرْأَة عَن وَجه أَبِيهَا، وَهَذَا هُوَ الأجو،.
قَوْله: (عَن وَجهه) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من وَجهه) وَالْمعْنَى فِي رِوَايَة.
عَن إِمَّا أَن يكون بِمَعْنى من وَإِمَّا أَن يتَضَمَّن الْغسْل معنى الْإِزَالَة ومحيء، عَن، بِمَعْنى من، وَقع فِي كَلَام الله تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات} (سُورَة الشورى: 25) وَهَاهُنَا سؤالان: الأول: فِي وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ؟ وَالثَّانِي: فِي وَجه إِدْخَال هَذَا الْبابُُ فِي كتاب الْوضُوء.
قلت: أما الأول فَيمكن أَن يُقَال إِن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على حكم شَرْعِي.
أما الأول: فَفِيهِ أَن اسْتِعْمَال النَّبِيذ لَا يجوز.
وأماالثاني: فَلِأَن ترك النَّجَاسَة على الْبدن لَا يجوز، فهما متساويات فِي عدم الْجَوَاز، وَهَذَا الْمِقْدَار كَاف وَأما الْجَواب عَن الثَّانِي فَهُوَ أَن النُّسْخَة إِن كَانَت كتاب الطَّهَارَة بدل كتاب الْوضُوء فَلَا خَفَاء فِيهِ، وَأَن كَانَ كتاب الْوضُوء فَالْمُرَاد مِنْهُ إِمَّا مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذ من الْوَضَاءَة وَهِي: الْحسن والنظافة، فَيتَنَاوَل حِينَئِذٍ رفع الْخبث، أَيْضا.
وَأما مَعْنَاهُ الاصطلاحي فَيكون ذكر الطَّهَارَة عَن الْخبث فِي هَذَا الْكتاب بالتبعية لطهارة الْحَدث والمناسبة بَينهمَا كَونهمَا من شَرَائِط الصَّلَاة، وَمن بابُُ النَّظَافَة وَغير ذَلِك فَهَذَا حَاصِل مَا ذكره الْكرْمَانِي وَلَكِن أحسن فِيهِ، وَإِن كَانَ لَا يَخْلُو عَن بعض التعسف.

وَقَالَ أبُو العَالِيةِ امْسَحُوا عَلى رِجْلِي فَإِنَّها مَرِيضَةٌ
مطاقة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا متضمنة جَوَاز الإستغاثة فِي الْوضُوء وَإِزَالَة النَّجَاسَة.

وَأَبُو الْعَالِيَة هُوَ رفيع بن مهْرَان الرباحي.

وَقد تقدم عَن قريب، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن عَاصِم بن سُلَيْمَان قَالَ: (دَخَلنَا على أبي الْعَالِيَة وَهُوَ وجع فوضؤه، فَلَمَّا بقيت غسل إِحْدَى رجلَيْهِ قَالَ: إمسحوا على هَذِه فَإِنَّهَا مَرِيضَة.
وَكَانَت بهَا جَمْرَة) وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة.

     وَقَالَ  بَعضهم وَزَاد بن أبي شيبَة أَنَّهَا كَانَت معصوبة قلت: لَيْسَ رِوَايَة ابْن أبي شيبَة هَكَذَا وَإِنَّمَا الْمَذْكُور فِي مضنفه: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن عَاصِم وَدَاوُد عَن أبي الْعَالِيَة أَنه اشْتَكَى رجله فعصبها وَتَوَضَّأ وَمسح عَلَيْهَا.

     وَقَالَ : إِنَّهَا مَرِيضَة.
وَهَذَا غير الَّذِي ذكره البُخَارِيّ، على مَا لَا يخفي، وَالله تَعَالَى أعلم.



[ قــ :240 ... غــ :243 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ قَالَ أخْبَرنا سُفْيانُ بنُ عُيَيُنَةَ عَن أبي حازِمٍ سَمِعَ سَهْلَ بنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَسَأَلَهُ النَّاسُ مَا بَيْني وَبَيْنَهُ أَحَدٌ بِأَيَّ شَيْء دُووِىَ جُرْحُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي كانَ عَليٌ يَجِىءُ بِتُرْسِهِ فِيهِ ماءٌ وفاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْههِ الدَّمَ فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأَحْرَقَ فَحُسِيَ بِهِ جُرْحُهُ.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام البيكندي، وَكَذَا جَاءَ فِي بعض النّسخ،.

     وَقَالَ  أَبُو عَليّ الجياني: لم ينْسبهُ أحد من الروَاة وَهُوَ عِنْدِي ابْن سَلام، وَبِذَلِك جزم أَبُو ت نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: حَدثنَا مُحَمَّد، يَعْنِي ابْن سَلام، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَهِشَام بن عمار عَن سُفْيَان بِهِ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بِهِ.
الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمَكْسُورَة، سَلمَة بن دِينَار الْمَدِينِيّ الْأَعْرَج الزَّاهِد المَخْزُومِي، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة.
الرَّابِع: سهل ابْن سعد الساغدي الْأنْصَارِيّ أَبُو الْعَبَّاس، وَكَانَ يُسمى حزنا فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سهلاً رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مائَة حَدِيث وثمان وَثَلَاثُونَ حَدِيثا ذكر البُخَارِيّ تِسْعَة وَثَلَاثِينَ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَهُوَ ابْن مائَة سنة، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: السماع والإسناد رباعي، والرواة مَا بَين ومدني.

بَين تعدد وَضعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن مُحَمَّد، وَفِي الْجِهَاد عَن عَليّ ابْن عبد الله وَفِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عمر.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطِّبّ عَن ابْن أبي عمر، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَهِشَام بن عمار، تسعتهم عَنهُ بِهِ، وَمعنى حَدِيثهمْ وَاحِد،.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.

ذكر لغته وَإِعْرَابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (السَّاعِدِيّ) بتَشْديد الْيَاء المنصوبة لِأَنَّهُ صفة سهل، وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول سمع.
قَوْله: (وَسَأَلَهُ النَّاس) وَفِي بعض النسح.
(وسألوه النَّاس) على لُغَة، أكلوني البراغيث، وَهَذِه جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، ومحلها النصب على الْحَال.
قَوْله: (مَا بيني وَبَينه أحد) يَعْنِي: عِنْد السُّؤَال عَنهُ.
قَالَ الْكرْمَانِي: هِيَ جملعة مُعْتَرضَة لَا مَحل لَهَا فِي الْإِعْرَاب.
قلت: الْجُمْلَة المعترضة هِيَ الَّتِي تقع بَين الْكَلَامَيْنِ وَلَيْسَ لَهَا تعلق بِأَحَدِهِمَا.
وَقد تقع فِي آخر الْكَلَام، وَيجوز أَن تكون جملَة حَالية أَيْضا، وَيكون محلهَا من الْإِعْرَاب النصب، وَلَكِن وَقعت بِلَا وَاو، وذز الْحَال، إِمَّا مفعول، سَأَلَ، فيكونان حَالين متداخلتين، وَأما مفعول سمع، فيكونان مترادفتين.
قَوْله: (بِأَيّ شَيْء) الْيَاء فِيهِ تتَعَلَّق بقوله: (وَسَأَلَهُ) وَكلمَة أَي للاستفهام.
قَوْله (دووى) بِضَم الدام وَكسر الْوَاو، وَصِيغَة الْمَجْهُول من المداواة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: حذفت إِحْدَى الواوين فِي الْكِتَابَة.
قلت: بالواوين فِي أَكثر النّسخ، وَفِي بَعْضهَا بواو وَاحِدَة، فحذفت مِنْهَا إِحْدَى الواوين كَمَا حذفت من دَاوُد وَطَاوُس فِي الْخط.
قَوْله: (أعلم) مَرْفُوع لِأَنَّهُ صفة، أحد، وَيجوز أَن مَنْصُوبًا على الْحَال، وَعرضه من هَذَا التَّرْكِيب أَنه، أعلم النَّاس بِهَذِهِ الْقَضِيَّة، لِأَن مَوته بِأخر وَكَانَ آخر من بَقِي من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ، كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي النِّكَاح فِي رِوَايَته عَن تيبة عَن سُفْيَان، وَمثل هَذَا التَّرْكِيب لَا يسْتَعْمل بِحَسب الْعرف إِلَّا عِنْد انْتِفَاء الْمسَاوِي وَهَذَا ظَاهر، وَبِهَذَا يسْقط سُؤال من قَالَ: لَا يلْزم مِنْهُ مُنَافَاة مساوات غَيره لَهُ فِيهِ.
قَوْله: (فَأخذ) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكَذَلِكَ قَوْله: (فاحرق فحشي) وَفِي رِوَايَة البخاي فِي الطِّبّ.
(فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَة، رَضِي الله عَنْهَا، الدَّم تزيد على المَاء كَثْرَة، عُمْدَة إِلَى حصيرة فأحرقتها والصقتها على الخرج فرقي الدَّم) ، وَهَذِه الْوَاقِعَة كَانَت بِأحد، وَزعم ابْن سعد عَن عتبَة بن أبي وَقاص، (شج النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي وَجهه وَأصَاب رباعيته؛ فَكَانَ سَالم مولى أبي حُذَيْفَة يغسل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّم، والني، عَلَيْهِ السَّلَام، يَقُول: (كَيفَ يفلح قوم صَنَعُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ؟ فَانْزِل الله تبَارك وَتَعَالَى: { لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (سُورَة آل عمرَان: 128) الْآيَة وَزعم السُّهيْلي: أَن عبد الله بن قمية هُوَ الَّذِي جرح وَجهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ قل ابْن بطال: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز مُبَاشرَة الْمَرْأَة أَبَاهَا وَذَوي محارمها ومداواة أمراضهم، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: امسحوا على رجْلي فَإِنَّهَا مَرِيضَة، وَلم يخص بَعضهم دون بعض، بل عمهم جَمِيعًا.
وَفِيه: إِبَاحَة التَّدَاوِي، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم داوى جرحه.
وَفِيه: جَوَاز المداواة بالحصير المحرق لِأَنَّهُ يقطع الدَّم، وَفِيه: إِبَاحَة الاستغاثة فِي المداواة.

وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه: وُقُوع الِابْتِلَاء والأنتقام بالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لينالوا جزيل الْأجر، ولتعرف أممهم وَغَيرهم مَا أَصَابَهُم ويأنسوا بِهِ، وليعلموا أَنهم من الْبشر يصيبهم محن الدُّنْيَا ويطرؤ على أَجْسَادهم مَا يطرؤ على أجسام الْبشر ليتيقنوا أَنهم مخلوقون مربوبون وَلَا يفتدون بِمَا ظهر على أَيْديهم من المعجزات كَمَا افْتتن النَّصَارَى.
وَفِيه: أَن المداواة لَا تنَافِي التَّوَكُّل.
وَفِيه: سُؤال من لَا يعلم عَمَّن يعلم عَن أَمر خَفِي عَلَيْهِ.