فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا وكل رجل رجلا أن يعطي شيئا، ولم يبين كم يعطي، فأعطى على ما يتعارفه الناس

(بابٌُ إذَا وكِّل رَجُلٌ أنْ يُعْطِيَ شَيْئا ولَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِي فأعْطَى عَلَى مَا يتَعَارَفُهُ الناسُ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا وكل رجل رجلا أَن يُعْطي شَيْئا وَلم يعين أَي: الَّذِي وكل كم يُعْطي أَي: الْوَكِيل فَأعْطى أَي: الْوَكِيل على مَا يتعارفه النَّاس، أَي: على عرف النَّاس فِي هَذِه الصُّورَة، وَجَزَاء: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ جَائِز أَو نَحوه.

[ قــ :2213 ... غــ :2309 ]
- حدَّثنا المَكِّيُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدثنَا ابنُ جُرَيْجٍ عنْ عَطَاءِ بنِ أبِي رَبَاحٍ وغَيْرِهِ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ولَمْ يُبَلِّغْهُ كُلُّهُمْ رَجُلٌ واحِدٌ مِنْهُمْ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ فكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَفالٍ إنَّما هُوَ فِي آخِرِ الْقَوْمِ فمَرَّ بِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالِ مَنْ هَذَا.

قُلْتُ جابِرُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ مَا لَكَ قلْتُ إنِّي على جَمَلٍ ثَفالٍ قَالَ أمَعَكَ قَضيبٌ.

قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أعْطِنِيهِ فأعْطَيْتُهُ فَضَرَبهُ فزَجَرهُ فكانَ مِنْ ذَلِكَ المَكانِ مِنْ أوَّلِ الْقَوْمِ قَالَ بِعْنِيهِ فقُلْتُ بلْ هُوَ لكَ يَا رسولَ الله قَالَ بِعْنِيهِ قَدْ أخَذْتُهُ بأرْبَعَةِ دَنانِيرَ ولَكَ ظَهْرُهُ إِلَى المَدِينَةِ فلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ أخَذْتُ أرْتَحِلُ قَالَ أيْنَ تُرِيدُ.

قُلْتُ تَزَوَّجْتُ امْرَأةً قَدْ خلاَ مِنْها زَوْجُها قَالَ فهَلاَّ جارِيةً تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ قلْتُ إنَّ أبي تُوَفِّيَ وتَرَكَ بَناتٍ فأردْتُ أنْ أنْكِحَ امرَأةً قَدْ جَرَّبَتْ خَلا مِنْها قَالَ فَذَلِكَ فلَمَّا قَدِمنا المَدِينَةِ قَالَ يَا بِلاَلُ إقْضِيه وزِدْهُ فأعْطَاهُ أرْبَعَةَ دَنانِيرَ وزَادَهُ قِيرَاطا قَالَ جابرٌ لاَ تُفَارِقُنِي زِيادَةُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَمْ يَكنِ القِيرَاطُ يُفَارِقُ جِرَابَ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا بِلَال اقضِهِ وزده، فَأعْطَاهُ أَرْبَعَة دَنَانِير وزاده قيراطا) فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر مِقْدَار مَا يُعْطِيهِ عِنْد أمره بِالزِّيَادَةِ، فاعتمد بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الْعرف فِي ذَلِك، فزاده قيراطا.

وَرِجَال هَذَا الحَدِيث قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشُّرُوط.
وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَنهُ عَن عَطاء عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: قد أخذت جملك بأَرْبعَة دَنَانِير، وَلَك ظَهره إِلَى الْمَدِينَة لم يزدْ على هَذَا، وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي كتاب الْبيُوع: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد الْوَهَّاب حَدثنَا عبيد الله عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: كنت مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي غزَاة فأبطأني جملي.
.
الحَدِيث مطولا، وَفِيه: فَأمر بِلَالًا أَن يزن لي أُوقِيَّة، فوزن لي بِلَال فأرجح.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَقد تقدم فِي الْحَج شَيْء من ذَلِك.
قلت: لَيْسَ فِي الْحَج شَيْء من ذَلِك، وَإِنَّمَا الَّذِي تقدم فِي كتاب الْبيُوع فِي: بابُُ شِرَاء الدَّوَابّ وَالْحمير، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وَغَيره يزِيد بَعضهم على بعض وَلم يبلغهُ كلهم رجل وَاحِد مِنْهُم عَن جَابر) كَذَا وَقع فِي أَكثر نسخ البُخَارِيّ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وَغَيره يزِيد بَعضهم على بعض لم يبلغهُ كُله رجل مِنْهُم، ثمَّ قَالَ: كَذَا للْأَكْثَر، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ أَي: لَيْسَ جَمِيع الحَدِيث عِنْد وَاحِد مِنْهُم بِعَيْنِه، وَإِنَّمَا عِنْد بَعضهم مِنْهُ مَا لَيْسَ عِنْد الآخر.
انْتهى.
قلت: فِي (شرح عَلَاء الدّين صَاحب (التَّلْوِيح) بِخَطِّهِ وَضَبطه: عَن عَطاء وَغَيره إِلَى آخِره، مثل مَا ذَكرْنَاهُ الْآن بِعَيْنِه، ثمَّ قَالَ: كَذَا فِي أَكثر نسخ البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: وَفِي الْإِسْمَاعِيلِيّ لم يبلغهُ كل رجل مِنْهُم عَن جَابر، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا لفظ حَدِيث حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، أَنبأَنَا ابْن جريج، وَعند أبي نعيم: لم يبلغهم كلهم إلاَّ رجل وَاحِد عَن جَابر، وَكَذَا هُوَ عِنْد أبي مَسْعُود الدِّمَشْقِي فِي كتاب (الْأَطْرَاف) وَتَبعهُ الْمزي، وَفِيه نظر، إِذْ ذكرَاهُ من (صَحِيح البُخَارِيّ) ثمَّ قَالَ الشَّيْخ عَلَاء الدّين الْمَذْكُور: وَفِي بعض النّسخ المقروءة على شَيخنَا الْحَافِظ أبي مُحَمَّد التوني على يبلغهُ، ضمة على الْيَاء وفتحة على الْبَاء وَشدَّة على اللَّام وجزمة على الْغَيْن.
وَفِي أُخْرَى على الْيَاء فَتْحة وعَلى الْبَاء جزمة، ثمَّ قَالَ:.

     وَقَالَ  ابْن التِّين مَعْنَاهُ أَن بَعضهم بَينه وَبَين جَابر غَيره، قَالَ: وَفِي رِوَايَة لم يبلغهُ كلهم، وكل وَاحِد مِنْهُم عَن جَابر، وَفِي (التَّوْضِيح) : وبخط الدمياطي لم يبلغهُ بِضَم أَوله وَكسر ثالثه مشددا، ثمَّ قَالَ: وَذكر ابْن التِّين أَن فِي رِوَايَة: (وكل) ، بدل رجل،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: بَعضهم، الضَّمِير فِيهِ رَاجع إِلَى الْغَيْر، وَهُوَ فِي معنى الْجمع وَفِي: لم يبلغهُ، إِلَى الحَدِيث أَو إِلَى الرَّسُول، وَرجل يدل عَن الْكل، وَعَن جَابر مُتَعَلق بعطاء، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات لَفْظَة: الْغَيْر، بِالْجَرِّ، وَأما رَفعه فَهُوَ على الِابْتِدَاء، وَيزِيد خَبره، وَيحْتَمل أَن يكون: رجل، فَاعل فعل مُقَدّر نَحْو: بلغه، وعَلى التقادير: لَا يخفى مَا فِي هَذَا التَّرْكِيب من التعجرف، وَلَو كَانَ كلمة: كلهم، ضمير الْفَرد لَكَانَ ظَاهرا.
انْتهى.
قلت: التعجرف الَّذِي ذكره من الروَاة والتعجرف والعجرفة والعجرفيه بِمَعْنى: يُقَال فلَان يتعجرف على فلَان إِذا كَانَ يركبه بِمَا يكره، وَلَا يهاب شَيْئا، وَيُقَال: جمل فِيهِ تعجرف وعجرفة إِذا كَانَ فِيهِ خرق وَقلة مبالاة لسرعته، وَالصَّوَاب هُنَا التَّرْكِيب الَّذِي فِي رِوَايَة الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور فِي سَنَده.
قَوْله: (وَغَيره) بِالْجَرِّ، أَي: وَعَن غير عَطاء.
قَوْله: (يزِيد بَعضهم على بعض) ، حَال وَالضَّمِير فِي بَعضهم يرجع إِلَى لفظ غَيره، لِأَن غير عَطاء يحْتَمل أَن يكون جمعا.
قَوْله: (وَلم يبلغهُ) ، أَيْضا حَال، أَي: وَالْحَال أَنهم لم يبلغُوا الحَدِيث، بل بلغه رجل وَاحِد مِنْهُم، فَلَا بُد من تَقْدِير عل قبل رجل ليستقيم الْمَعْنى، وَغير هَذَا الْوَجْه معجرف.
قَوْله: (على ثفال) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالْفَاء الْخَفِيفَة: وَهُوَ الْبَعِير البطيء السّير الثقيل الْحَرَكَة، والثفال، بِكَسْر الثَّاء جلد أَو كسَاء يوضع تَحت الرَّحَى، يَقع عَلَيْهِ الدَّقِيق.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَصوب كسر الثَّاء، هُنَاكَ قَالَه ابْن فَارس، (فَكَانَ من ذَلِك الْمَكَان) ، أَي: فَكَانَ الْجمل من مَكَان الضَّرْب من أَوَائِل الْقَوْم، وَفِي مباديهم ببركة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ تبدل ضعفه بِالْقُوَّةِ.
قَوْله: (بل هُوَ لَك يَا رَسُول الله) أَي: بِغَيْر ثمن.
قَوْله: (قَالَ: بل بعنيه) ، أَي: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بل بِعني الْجمل بِالثّمن، وَذكر كلمة: بل، للإضراب عَن قَول جَابر إِنَّه لَا يَأْخُذهُ بِلَا ثمن.
قَوْله: (قَالَ: قد أَخَذته بأَرْبعَة دَنَانِير) أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قد أخذت الْجمل بأَرْبعَة دَنَانِير، فِيهِ ابْتِدَاء المُشْتَرِي بِذكر الثّمن، كَذَا هُوَ بِخَط الْحَافِظ الدمياطي، وَذكره الدَّاودِيّ الشَّارِح بِلَفْظ: أَربع الدَّنَانِير،.

     وَقَالَ : سَقَطت التَّاء لما دخلت الْألف وَاللَّام، وَذَلِكَ جَائِز فِيمَا دون الْعشْرَة، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن التِّين بِأَنَّهُ قَول مخترع لم يقلهُ أحد غَيره.
قَوْله: (وَلَك ظَهره إِلَى الْمَدِينَة) أَي: لَك أَن تركب إِلَى الْمَدِينَة، وَهَذَا إِعَارَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَإِبَاحَة للِانْتِفَاع لَا أَنه كَانَ شرطا للْبيع.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: إِذا كَانَ على قرب مثل تِلْكَ الْمسَافَة، وَإِن كَانَ روى عَنهُ كَرَاهَة ذَلِك، وَلَا يجوز فِيمَا بعد عَنهُ،.

     وَقَالَ  قوم: ذَلِك جَائِز، وَإِن بعد،.

     وَقَالَ ت فرقة: لَا يجوز وَإِن قرب.
قَوْله: (قد خلا مِنْهَا) أَي: مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا.
قَوْله: (فَهَلا جَارِيَة) ، انتصاب جَارِيَة بِفعل مُقَدّر، أَي: هلا تزوجت جَارِيَة.
قَوْله: (قد جربت) أَي: اختبرت حوادث الدَّهْر وَصَارَت ذَات تجربة تقدر على تعهد إخواتي وتفقد أحوالهن.
قَوْله: (قَالَ: فَذَلِك) ، أَي: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَذَلِك، وَهُوَ مُبْتَدأ خبر مَحْذُوف أَي: فَذَلِك مبارك.
وَنَحْوه.
قَوْله: (إقضه) ، أَي: اقْضِ دينه، وَهُوَ ثمن الْجمل.
قَوْله: (وزده) أَي: زد على الثّمن، وَهُوَ أَمر من زَاد يزِيد، نَحْو: بَاعَ يَبِيع، وَالْأَمر مِنْهُ: بِعْ، بِالْكَسْرِ.
قَوْله: (فَلم يكن القيراط يُفَارق جراب جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، وَهَذَا من قَول عَطاء الرَّاوِي، كَذَا وَقع لفظ: جراب، بِالْجِيم فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: قرَاب، بِالْقَافِ وَهُوَ الَّذِي يدْخل فِيهِ السَّيْف بغمده، قَالَ الدَّاودِيّ: القراب خريطة، ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين: بِأَن الخريطة لَا يُقَال لَهَا: قرَاب، وَقد زَاد مُسلم فِي آخر هَذَا الحَدِيث، فَأَخذه أهل الشَّام يَوْم الْحرَّة.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هذاالحديث: أَن الْمُتَعَارف بَين النَّاس مثل النَّص عَلَيْهِ، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: والمأمور بِالصَّدَقَةِ إِذا أعْطى مَا يتعارفه النَّاس جَازَ وَنفذ، فَإِن أعْطى أَكثر مِمَّا يتعارفه النَّاس يتَوَقَّف ذَلِك على رضَا صَاحب المَال، فَإِن أجَاز ذَلِك وإلاَّ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِقْدَار ذَلِك، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه لَو أمره أَن يُعْطي فلَانا قَفِيزا فَأعْطَاهُ قفيزين ضمن الزِّيَادَة بِالْإِجْمَاع.