فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: إذا باع الوكيل شيئا فاسدا، فبيعه مردود

( بابٌُ إذَا باعَ الوَكِيلُ شَيْئاً فاسِداً فَبَيعُهُ مَرْدُودٌ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا بَاعَ الْوَكِيل شَيْئا من الْأَشْيَاء الَّتِي وكل فِيهَا بيعا فَاسِدا فبيعه مَرْدُود.



[ قــ :2216 ... غــ :2312 ]
- حدَّثنا إسْحاقُ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ صَالِحٍ قَالَ حَدثنَا مُعَاوِيَةُ هوَ ابنُ سَلاَّمٍ عنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بنَ عبدِ الْغافِرِ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ جاءَ بِلالٌ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ أيْنَ هَذَا قَالَ بِلالٌ كانَ عِنْدَنا تَمرٌ رَدِيءٌ فبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصاعٍ لِنُطْعِمَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ ذَلِكَ أوَّهُ أوهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبا لاَ تَفْعَلْ ولَكِنْ إذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْع آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: ( عين الرِّبَا لَا تفعل) لِأَن من الْمَعْلُوم أَن بيع الرِّبَا مِمَّا يجب رده.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِالرَّدِّ، بل فِيهِ إِشْعَار بِهِ، وَلَعَلَّه أَشَارَ بذلك إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه، فَعِنْدَ مُسلم من طَرِيق أبي نَضرة عَن أبي سعيد فِي نَحْو هَذِه الْقِصَّة فَقَالَ: هَذَا الرِّبَا فَردُّوهُ.
انْتهى.
قلت: الَّذِي يعلم بِالرَّدِّ من الحَدِيث فَوق الْعلم بتصريح الرَّد، لِأَن فِيهِ الرَّد بِمرَّة وَاحِدَة، وَالْمَفْهُوم من متن الحَدِيث بمرات.
الأولى: قَوْله: ( أوه أوه) ، بالتكرار، وَالثَّانِي: قَوْله: ( عين الرِّبَا) ، وَالثَّالِثَة: قَوْله: ( لَا تفعل) ، وَالرَّابِعَة: قَوْله: ( وَلَكِن) إِلَى آخِره.

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق، اخْتلف فِيهِ، فَقَالَ أَبُو نعيم: هُوَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه،.

     وَقَالَ  أَبُو عَليّ الجياني: إِسْحَاق هَذَا لم ينْسبهُ أحد من شُيُوخنَا فِيمَا بَلغنِي، قَالَ: وَيُشبه أَن يكون إِسْحَاق بن مَنْصُور، فقد روى مُسلم عَن إِسْحَاق ابْن مَنْصُور عَن يحيى بن صَالح هَذَا الحَدِيث،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَجزم أَبُو عَليّ الجياني بِأَنَّهُ ابْن مَنْصُور.
قلت: من أَيْن هَذَا الْجَزْم من أبي عَليّ الجياني؟ بل قَوْله يدل على أَنه مُتَرَدّد فِيهِ لقَوْله: وَيُشبه أَن يكون إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَلَا يلْزم من إِخْرَاج مُسلم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن يحيى بن صَالح هَذَا الحَدِيث أَن يكون رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا كَذَلِك.
الثَّانِي: يحيى ابْن صَالح أَبُو زَكَرِيَّا الوحاظي، ووحاظ بطن من حمير.
الثَّالِث: مُعَاوِيَة بن سَلام، بتَشْديد اللَّام: أَبُو سَلام.
الرَّابِع: يحيى ابْن أبي كثير، وَقد تكَرر ذكره.
الْخَامِس: عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف: ابْن عبد الغافر العوذي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالذال الْمُعْجَمَة، قتل فِي الجماجم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ.
السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، واسْمه: سعد بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: السماع فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شَيْخه إِن كَانَ ابْن رَاهَوَيْه فَهُوَ مروزي سكن نيسابور، وَإِن كَانَ ابْن مَنْصُور فَهُوَ أَيْضا مروزي انْتقل بآخرة إِلَى نيسابور، وَيحيى بن صَالح حمصي وَمُعَاوِيَة بن سَلام الحبشي الْأسود، وَيحيى بن أبي كثير يمامي طائي.
وَفِيه: أَن شَيْخه ذكر غير مَنْسُوب.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن يحيى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هِشَام بن عمار.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( برني) ، بِفَتْح الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر النُّون بعْدهَا يَاء مُشَدّدَة: وَهُوَ ضرب من التَّمْر أصفر مدور، وَهُوَ أَجود التمور، قَالَه صَاحب ( الْمُحكم) : قَالَ بَعضهم: قيل لَهُ ذَلِك لِأَن كل تَمْرَة تشبه البرنية.
قلت: كَلَامه يشْعر أَن الْيَاء فِيهِ للنسبة، وَلَيْسَت الْيَاء فِيهِ للنسبة، فَكَأَنَّهُ مَوْضُوع، هَكَذَا مثل كرْسِي وَنَحْوه.
قَوْله: ( كَانَ عندنَا) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: كَانَ عِنْدِي.
قَوْله: ( رَدِيء) ، قَالَ بَعضهم: رَدِيء، بِالْهَمْزَةِ على وزن: عَظِيم.
قلت: نعم هُوَ مَهْمُوز اللَّام من: ردىء الشَّيْء يردأ رداءة، فَهُوَ رَدِيء، أَي: فَاسد، وأردأته أَي: أفسدته، وَلَكِن لما كثر اسْتِعْمَاله حسن فِيهِ التَّخْفِيف بِأَن قلبت الْهمزَة يَاء لانكسار مَا قبلهَا وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَت: رديّ بتَشْديد الْيَاء.
قَوْله: ( لنطعم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: لأجل أَن نطعم، وَاللَّام فِيهِ مَكْسُورَة وَالنُّون مَضْمُومَة من الْإِطْعَام، وَلَفظ النَّبِي مَنْصُوب بِهِ، هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: ليطعم، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْعين من: طعم يطعم، وَلَفظ النَّبِي مَرْفُوع بِهِ.
قَوْله: ( عِنْد ذَلِك) ، أَي: عِنْد قَول بِلَال.
قَوْله: ( أوه) مرَّتَيْنِ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْوَاو وَسُكُون الْهَاء، وَهِي كلمة تقال عِنْد الشكاية والحزن.
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: بِالْقصرِ وَالتَّشْدِيد وَسُكُون الْهَاء، وَكَذَا روينَاهُ، وَقيل: بِمد الْهمزَة.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: وَقد يُقَال بِالْمدِّ لتطويل الصَّوْت بالشكاية، وَقيل بِسُكُون الْوَاو وَكسر الْهَاء، وَمن الْعَرَب من يمد الْهمزَة وَيجْعَل بعْدهَا واوين: آووه، وَكله بِمَعْنى: التحزن،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: إِنَّمَا تأوه ليَكُون أبلغ فِي الزّجر،.

     وَقَالَ هُ إِمَّا للتألم من هَذَا الْفِعْل، وَإِمَّا من سوء الْفَهم.
قَوْله: ( عين الرِّبَا) ، بالتكرار أَيْضا أَي: هَذَا البيع نفس الرِّبَا حَقِيقَة، وَوَقع فِي مُسلم مرّة وَاحِدَة.
قَوْله: ( وَلَكِن إِذا أردْت أَن تشتري) ، أَي: أَن تشتري التَّمْر الْجيد.
قَوْله: ( فبع التَّمْر) ، أَي: فبع التَّمْر الرَّدِيء بِبيع آخر، أَي: بِبيع شَيْء آخر، بِأَن تبيعه بحنطة أَو شعير مثلا.
قَوْله: ( ثمَّ اشتره) ، أَي: ثمَّ اشْتَرِ التَّمْر الْجيد، ويروى: ثمَّ اشْتَرِ بِهِ، أَي: بِثمن الرَّدِيء، فعلى هَذِه الرِّوَايَة مفعول: اشترِ مَحْذُوف تَقْدِيره: ثمَّ اشْتَرِ الْجيد بِثمن الرَّدِيء، وَيدل على مَا قُلْنَاهُ مَا قد رُوِيَ عَن بِلَال فِي هَذَا الْخَبَر: انْطلق فَرده على صَاحبه وَخذ تمرك وبعه بحنطة أَو شعير ثمَّ اشْتَرِ بِهِ من هَذَا التَّمْر، ثمَّ جئني بِهِ، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن بِلَال، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَلَكِن إِذا أردْت أَن تشتري التَّمْر فبعه بِبيع آخر ثمَّ اشترِه، أَي: إِذا أردْت أَن تشتري التَّمْر الْجيد فبع التَّمْر الرَّدِيء بِبيع آخر ثمَّ اشْتَرِ الْجيد، وَبَين التركيبين مُغَايرَة ظَاهرا، وَلَكِن فِي الْحَقِيقَة يرجعان إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ أَن لَا يَشْتَرِي الْجيد بِضعْف الرَّدِيء، بل إِذا أَرَادَ أَن يَشْتَرِي الْجيد يَبِيع ذَلِك الردي، بِشَيْء، وَيَأْخُذ ثمنه، ثمَّ يَشْتَرِي بِهِ التَّمْر الْجيد، حَتَّى لَا يَقع الرِّبَا فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابه الْكَرِيم: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الربوا} .
إِلَى قَوْله: { فلكم من رُؤُوس أَمْوَالكُم} ( الْأَعْرَاف: 72) .
قد أَمر الله برد عقد الرِّبَا، ورد رَأس المَال وَلَا خلاف أَيْضا أَن من بَاعَ بيعا فَاسِدا أَن بَيْعه مَرْدُود.

واستفيد من حَدِيث الْبابُُ حُرْمَة الرِّبَا وَعظم أمره، وَقد تقدم الْبَحْث فِيهِ فِي: بابُُ مَا إِذا أَرَادَ بيع تمر بِتَمْر خير مِنْهُ، وَهُوَ فِي كتاب الْبيُوع.