فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من أحيا أرضا مواتا

( بابُُ منْ أحْيا أرْضاً مَوَاتاً)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم من أحيى أَرضًا مواتاً، بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الْوَاو، وَهُوَ الأَرْض الخراب، وَعَن الطَّحَاوِيّ هُوَ مَا لَيْسَ بِملك لأحد وَلَا هُوَ من مرافق الْبَلَد وَكَانَ خَارج الْبَلَد سَوَاء قرب مِنْهُ أَو بعد فِي ظَاهر الرِّوَايَة، وَعَن أبي يُوسُف: أَرض الْموَات هِيَ الْبقْعَة الَّتِي لَو وقف رجل على أدناه من العامر ونادى بِأَعْلَى صَوته لم يسمعهُ أقرب من فِي العامر إِلَيْهِ،.

     وَقَالَ  الْقَزاز: الْموَات الأَرْض الَّتِي لم تعمر، شبهت الْعِمَارَة بِالْحَيَاةِ وتعطيلها بفقد الْحَيَاة، وإحياء الْموَات أَن يعمد الشَّخْص لأرض لَا يعلم تقدم ملك عَلَيْهَا لأحد فيحييها بالسقي أَو الزَّرْع أَو الْغَرْس أَو الْبناء، فَيصير بذلك ملكه، سَوَاء فِيمَا قرب من الْعمرَان أم بعد، وَسَوَاء أذن لَهُ الإِمَام بذلك أم لم يَأْذَن عِنْد الْجُمْهُور، وَعند أبي حنيفَة: لَا بُد من إِذن الإِمَام مُطلقًا، وَعند مَالك فِيمَا قرب، وَضَابِط الْقرب مَا بِأَهْل الْعمرَان إِلَيْهِ حَاجَة من رعي وَنَحْوه، وَعَن قريب يَأْتِي بسط الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

ورَأي ذَلِكَ عَلِيٌّ فِي أرْضِ الخَرَابِ بِالكُوفَةِ مَوَاتٌ
أَي: رأى الْإِحْيَاء عَليّ بن أبي طَالب فِي أَرض الخراب بِالْكُوفَةِ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: فِي أَرض الْموَات.

وَقَالَ عُمَرُ مَنْ أحْيَا أرْضاً مَيِّتَةً فَهْيَ لَهُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه مثله، وروى أَبُو عبيد بن سَلام فِي كتاب الْأَمْوَال بِإِسْنَادِهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله الثَّقَفِيّ، قَالَ: كتب عمر بن الْخطاب أَن من أحيى مواتاً فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَعَن الْعَبَّاس بن يزِيد أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: من أحيى أَرضًا مواتاً لَيْسَ فِي يَد مُسلم وَلَا معاهد فَهِيَ لَهُ، وَعَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَ النَّاس يتحجرون على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: من أحيى أَرضًا فَهِيَ لَهُ.
قَالَ يحيى: كَأَنَّهُ لم يَجْعَلهَا لَهُ بالتحجير حَتَّى يُحْيِيهَا، وَفِي لفظ: وَذَلِكَ أَن قوما كَانُوا يتحجرون أَرضًا ثمَّ يدعونها وَلَا يحيونها، وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب، قَالَ: أقطع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَاسا من مزينة أَو جُهَيْنَة أَرضًا، فعطلوها، فجَاء قوم فأحيوها، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَو كَانَت قطيعة مني أَو من أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لرددتها، وَلَكِن من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:.

     وَقَالَ  عِنْد ذَلِك: من عطل أَرضًا ثَلَاث سِنِين لم يعمر فجَاء غَيره فعمرها فَهِيَ لَهُ، وَفِي لفظ: حَتَّى يمْضِي ثَلَاث سِنِين فأحياها غَيره فَهُوَ أَحَق بهَا.
قَوْله: ( ميتَة) ، قَالَ شَيخنَا: هُوَ بتَشْديد الْيَاء، وَأَصله: ميوتة، اجْتمعت الْيَاء وَالْوَاو وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فأبدلت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، وَلَا يُقَال هُنَا: أَرضًا ميتَة، بِالتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَو خففت لحذف التَّأْنِيث، كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِي: أَنه يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، قَالَ الله تَعَالَى: { لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا} ( الْفرْقَان: 94) .
وَلم يقل: ميتَة.

ويُرْوَى عنْ عُمَرَ وابنِ عَوْفٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: يرْوى عَن عَمْرو بن عَوْف بن يزِيد الْمُزنِيّ الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله.

وَقَالَ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ ولَيْسَ لِعِرْقٍ ظالِمٍ فِيهِ حَقٌّ
أَي: قَالَ عَمْرو بن عَوْف الْمَذْكُور، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه زَاده،.

     وَقَالَ : من أحيى أَرضًا ميتَة فِي غير حق مُسلم فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم فِيهِ حق، وَوَصله الطَّبَرَانِيّ وَابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة كثير بن عبد الله عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وَفِي رِوَايَة لَهُ: من أحيى مواتاً من الأَرْض فِي غير حق مُسلم فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وَرَوَاهُ أَيْضا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَامر الْعَقدي عَن كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف حَدثنِي أبي أَن أَبَاهُ حَدثهُ أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من أحيى أَرضًا مواتاً من غير أَن يكون فِيهَا حق مُسلم، فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وَكثير هَذَا ضَعِيف، وَلَيْسَ لجده عَمْرو بن عَوْف فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ غير عَمْرو بن عَوْف الْأنْصَارِيّ الْبَدِيِّ الَّذِي يَأْتِي حَدِيثه فِي الْجِزْيَة وَغَيرهَا،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي عقيب قَوْله:.

     وَقَالَ : أَي: عَمْرو، وَفِي بعض الرِّوَايَات: عمر، أَي ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَابْن عَوْف، أَي: عبد الرَّحْمَن ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: فَذكر عمر يكون تَكْرَارا.
قلت: فِيهِ فَوَائِد.
الأولى: أَنه تَعْلِيق بِصِيغَة الْقُوَّة وَهَذَا بِصِيغَة التمريض، وَهُوَ بِدُونِ الزِّيَادَة، وَهَذَا مَعهَا، وَهُوَ غير مَرْفُوع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا مَرْفُوع، انْتهى.
قلت: عمر، هُنَا بِدُونِ الْوَاو يَعْنِي: عمر بن الْخطاب، قَالُوا: إِنَّه تَصْحِيف، فَلَمَّا جعلُوا عمر بِدُونِ الْوَاو جعلُوا الْوَاو وَاو عطف، وَقَالُوا: وَابْن عَوْف، وَأَرَادُوا بِهِ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
وَذكر الْكرْمَانِي مَا ذكره ثمَّ ذكر فِيهِ فَوَائِد: الأولى: الْمَذْكُورَة، فَلَا حَاجَة إِلَيْهَا لِأَن مَا ذكره لَيْسَ بِصَحِيح فِي الأَصْل، وَمَعَ هَذَا هُوَ قَالَ فِي آخر كَلَامه: وَالصَّحِيح هُوَ الأول، يَعْنِي أَنه: عَمْرو، بِالْوَاو، وَهُوَ: ابْن عَوْف الْمُزنِيّ لَا أَنه عمر بن الْخطاب وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
قَوْله: ( وَلَيْسَ لعرق ظَالِم فِيهِ حق) ، روى: لعرق، بِالتَّنْوِينِ وبالإضافة أَي: من غرس فِي أَرض غَيره بِدُونِ إِذْنه فَلَيْسَ لَهُ فِي الْإِبْقَاء فِيهَا حق، فَإِن أضيف فَالْمُرَاد بالظالم الغارس، وَسمي ظَالِما لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك الْغَيْر بِلَا اسْتِحْقَاق، وَإِن وصف بِهِ فالمغروس سمي بِهِ لِأَنَّهُ الظَّالِم أَو لِأَن الظُّلم وصل بِهِ على الْإِسْنَاد الْمجَازِي، وَقيل: مَعْنَاهُ: لعرق ذِي ظلم، قَالَ ابْن حبيب: بَلغنِي عَن ربيعَة أَنه قَالَ: الْعرق الظَّالِم عرقان ظَاهر وباطن، فالباطن مَا احتفره الرجل من الْآبَار، وَالظَّاهِر الْغَرْس، وَعنهُ: الْعُرُوق أَرْبَعَة: عرقان فَوق الأَرْض وهما: الْغَرْس والنبات، وعرقان فِي جوفها: الْمِيَاه والمعادن.
وَفِي ( الْمعرفَة) للبيهقي: قَالَ الشَّافِعِي: جماع الْعرق الظَّالِم كل مَا حفر أَو غرس أَو بنى ظلما فِي حق امرىء بِغَيْر خُرُوجه مِنْهُ.
وَفِي كتاب ( الْخراج) لِابْنِ آدم: عَن الثَّوْريّ، وَسُئِلَ عَن الْعرق الظَّالِم، فَقَالَ: هُوَ المنتزى.
قلت: من انتزى على أرضي إِذا أَخذهَا وَهُوَ من بابُُ الافتعال من: النزو، بالنُّون وَالزَّاي، وَهُوَ: الوثبة، وَعند النَّسَائِيّ، عَن عُرْوَة بن الزبير: هُوَ الرجل يعْمل الأَرْض الخربة وَهِي للنَّاس وَقد عجزوا عَنْهَا فتركوها حَتَّى خربَتْ.

ويُرْوَى فيهِ عنْ جابِر عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: يرْوى فِي هَذَا الْبابُُ عَن جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: وَإِنَّمَا لم يذكر الْمَرْوِيّ بِعَيْنِه لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِهِ، بل لَيْسَ صَحِيحا عِنْده، وَلِهَذَا قَالَ: يرْوى، ممرضاً.
قلت: نفس الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يحيى بن أَيُّوب بن إِبْرَاهِيم عَن الثَّقَفِيّ وَعَن عَليّ بن مُسلم عَن عباد بن عباد عَن هِشَام بن عُرْوَة، وَلَفظه: من أحيى أَرضًا ميتَة فَلهُ فِيهَا أجر، وَمَا أكلت العوافي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث سعيد بن زيد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا، وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من أحَاط حَائِطا على أَرض فَهِيَ لَهُ، وروى ابْن عدي من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهُوَ أَحَق بهَا، وَإِسْنَاده ضَعِيف، وروى ابْن عدي أَيْضا من حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من عمر أَرضًا خراباً فَأكل مِنْهَا سبع أَو طَائِر أَو شَيْء كَانَ لَهُ ذَلِك صَدَقَة، وَفِي إِسْنَاده سَلمَة بن سُلَيْمَان الضَّبِّيّ، قَالَ: ابْن عدي مُنكر الحَدِيث عَن الثِّقَات، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) من حَدِيث مَرْوَان بن الحكم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْبِلَاد بِلَاد الله والعباد عباد الله.
وَمن أحَاط على حَائِط فَهُوَ لَهُ.
وروى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِيهِ من حَدِيث عبد الله بن عمر،.

     وَقَالَ : قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أسمر بن مُضرس من رِوَايَة عقيلة بنت أسمر عَن أَبِيهَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من سبق إِلَى مَا لم يسْبقهُ إِلَيْهِ مُسلم فَهُوَ لَهُ.

[ قــ :2238 ... غــ :2335 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ جَعْفَرٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمانِ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أعْمرَ أرْضاً لَيْسَتْ لأحَدٍ فَهُوَ أحَقُّ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبيد الله بن أبي جَعْفَر وَاسم أبي جَعْفَر: يسَار الْأمَوِي الْقرشِي الْمصْرِيّ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْأسود يَتِيم عُرْوَة بن الزبير، وَقد تقدما فِي الْغسْل.
وَنصف الْإِسْنَاد الأول مصريون وَالنّصف الثَّانِي مدنيون.

وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.

قَوْله: ( أعمر) بِفَتْح الْهمزَة من بابُُ الْأَفْعَال من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ،.

     وَقَالَ  عِيَاض: كَذَا وَقع، وَالصَّوَاب عمر ثلاثياً قَالَ تَعَالَى: { وعمروها أَكثر مِمَّا عمروها} ( الرّوم: 9) .
وَكَذَا قَالَ فِي ( الْمطَالع) .

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَيحْتَمل أَن يكون أَصله: من اعْتَمر أَرضًا، وَسَقَطت التَّاء من الأَصْل.
قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا الْكَلَام مَعَ مَا فِيهِ من توهم الْغَلَط، لِأَن صَاحب ( الْعين) ذكر: أعمرت الأَرْض،.

     وَقَالَ  غَيره: يُقَال: أعمر الله بابُُ مَنْزِلك، فَالْمُرَاد من أعمر أَرضًا بِالْإِحْيَاءِ فَهُوَ أَحَق، أَي: أَحَق بِهِ من غَيره، وَإِنَّمَا حذف هَذَا الَّذِي قدرناه للْعلم بِهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: من أعمر، على بِنَاء الْمَجْهُول أَي: من أعْمرهُ غَيره، فَالْمُرَاد من الْغَيْر الإِمَام، وَهَذَا يدل على أَن إِذن الإِمَام لَا بُد مِنْهُ، وَوَقع فِي ( جمع الْحميدِي) : من عمر، ثلاثياً، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجه آخر: عَن يحيى بن بكير شيخ البُخَارِيّ فِيهِ.
قَوْله: ( فَهُوَ أَحَق) ، زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ: ( فَهُوَ أَحَق بهَا) ، أَي: من غَيره، وَاحْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد على أَنه لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى إِذن الإِمَام فِيمَا قرب وَفِيمَا بعد، وَعَن مَالك: فِيمَا قرب لَا بُد من إِذن الإِمَام وَإِن كَانَ فِي فيافي الْمُسلمين والصحارى وَحَيْثُ لَا يتشاح النَّاس فِيهِ فَهِيَ لَهُ بِغَيْر إِذْنه،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: لَيْسَ لأحد أَن يحيي مواتاً إلاَّ بِإِذن الإِمَام فِيمَا بَعدت وَقربت، فَإِن أَحْيَاهُ بِغَيْر إِذْنه لم يملكهُ، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول مَكْحُول وَابْن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ.

وَاحْتج أَبُو حنيفَة بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا حمى إلاَّ لله وَلِرَسُولِهِ) فِي ( الصَّحِيحَيْنِ) والحمى: مَا حمي من الأَرْض فَدلَّ أَن حكم الْأَرْضين إِلَى الْأَئِمَّة لَا إِلَى غَيرهم.
فَإِن قلت: احْتج الطَّحَاوِيّ لِلْجُمْهُورِ مَعَ حَدِيث الْبابُُ بِالْقِيَاسِ على مَاء الْبَحْر وَالنّهر، وَمَا يصاد من طير وحيوان، فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على أَن مَا أَخذه أَو صَاده ملكه، سَوَاء قرب أَو بعد، وَسَوَاء أذن الإِمَام أم لم يَأْذَن.
قلت: هَذَا قِيَاس بالفارق، فَإِن الإِمَام لَا يجوز لَهُ تمْلِيك مَاء نهر لأحد، وَلَو ملك رجلا أَرضًا ملكه، وَلَو احْتَاجَ الإِمَام إِلَى بيعهَا فِي نَوَائِب الْمُسلمين جَازَ بَيْعه لَهَا، وَلَا يجوز ذَلِك فِي مَائِهِمْ وَلَا صيدهم وَلَا نهرهم، وَلَيْسَ للْإِمَام بيعهَا وَلَا تمليكها لأحد، وَإِن الإِمَام فِيهَا كَسَائِر النَّاس.
وَاحْتج بَعضهم لأبي حنيفَة بِحَدِيث معَاذ يرفعهُ: ( إِنَّمَا للمرء مَا طابت بِهِ نفس إِمَامه) .
قلت: هَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث بَقِيَّة عَن رجل لم يسمه عَن مَكْحُول عَنهُ،.

     وَقَالَ : هَذَا مُنْقَطع فِيمَا بَين مَكْحُول وَمن فَوْقه، وَفِيه رجل مَجْهُول، وَلَا حجَّة فِي مثل هَذَا الْإِسْنَاد.
فَإِن قلت: رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث عَمْرو بن وَاقد عَن مُوسَى بن يسَار عَن مَكْحُول عَن جُنَادَة بن أبي أُميَّة عَن معَاذ؟ قلت: قَالَ: عَمْرو مَتْرُوك بِاتِّفَاق.

وَأجِيب: عَن أَحَادِيث الْبابُُ بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهَا: من أَحْيَاهَا على شَرَائِط الْإِحْيَاء فَهِيَ لَهُ، وَمن شَرَائِطه: تحظيرها، وَإِذن لَهُ فِي ذَلِك، وتمليكه إِيَّاهَا.
وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَعَن الطَّحَاوِيّ: عَن مُحَمَّد بن عبيد الله بن سعيد أبي عون الثَّقَفِيّ الْأَعْوَر الْكُوفِي التَّابِعِيّ، قَالَ: خرج رجل من أهل الْبَصْرَة يُقَال لَهُ: أَبُو عبد الله إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِن بِأَرْض الْبَصْرَة أَرضًا لَا تضر بِأحد من الْمُسلمين وَلَيْسَ بِأَرْض خراج.
فَإِن شِئْت أَن تقطعنيها اتخذها قضباً وَزَيْتُونًا! فَكتب عمر إِلَى أبي مُوسَى: إِن كَانَت حمى فاقطعها إِيَّاه، أفَلاَ تَرى أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يَجْعَل لَهُ أَخذهَا وَلَا جعل لَهُ ملكهَا إلاَّ بإقطاع خَليفَة ذَلِك الرجل إِيَّاهَا وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ يَقُول لَهُ: وَمَا حَاجَتك إِلَى إقطاعي إياك تحميها وتعمرها فتملكها فَدلَّ ذَلِك أَن الْإِحْيَاء عِنْد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ مَا أذن الإِمَام فِيهِ للَّذي يَتَوَلَّاهُ ويملكه إِيَّاه.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد دلّ على ذَلِك أَيْضا مَا حَدثنَا بِهِ ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا أَزْهَر السمان عَن ابْن عون عَن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لنا رِقَاب الأَرْض، فَدلَّ ذَلِك على أَن رِقَاب الْأَرْضين كلهَا إِلَى أَئِمَّة الْمُسلمين، وَأَنَّهَا لَا تخرج من أَيْديهم إلاَّ بإخراجهم إِيَّاهَا إِلَى من رَأَوْا على حسن النّظر مِنْهُم للْمُسلمين إِلَى عمَارَة بِلَادهمْ، وصلاحها.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَهَذَا قَول أبي حنيفَة، وَبِه نَأْخُذ.

قَالَ عُرْوَةُ قَضَىَ بِهِ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فِي خِلافَتِهِ
أَي: قَالَ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام: قضى بالحكم الْمَذْكُور وَهُوَ أَن من: أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَيَّام خِلَافَته، وَقد تقدم فِي أول الْبابُُ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ.
وَقد ذكرنَا أَن مَالِكًا وَصله، وَهَذَا قَوْله، وَالَّذِي رَوَاهُ عُرْوَة فعله، وَفِي ( كتاب الْخراج) ليحيى بن آدم: من طَرِيق مُحَمَّد بن عبيد الله الثَّقَفِيّ، قَالَ: كتب عمر بن الْخطاب: من أحيى مواتاً من الأَرْض فَهُوَ أَحَق بِهِ، وروى من وَجه آخر عَن عَمْرو بن شُعَيْب أَو غَيره: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: من عطل أَرضًا ثَلَاث سِنِين لم يعمرها فجَاء غَيره فعمرها فَهِيَ لَهُ، وَعنهُ قَالَ أَصْحَابنَا: إِنَّه إِذا حجر أَرضًا وَلم يعمرها ثَلَاث سِنِين أَخذهَا الإِمَام وَدفعهَا إِلَى غَيره، لِأَن التحجير لَيْسَ بإحياء ليتملكها بِهِ، لِأَن الإحيار هُوَ الْعِمَارَة، والتحجير للإعلام.
وَذكر فِي ( الْمُحِيط) أَنه يصير ملكا للمحجر، وَذكر خُوَاهَر زادة: أَن التحجير يُفِيد ملكا مؤقتاً إِلَى ثَلَاث سِنِين، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأَصَح، وَأحمد.
وَالْأَصْل عندنَا: أَن من أحيى مواتاً هَل يملك رقبَتهَا؟ قَالَ بَعضهم: لَا يملك رقبَتهَا، وَإِنَّمَا يملك استغلالها، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي قَول.
وَعند عَامَّة الْمَشَايِخ، يملك رقبَتهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَثَمَرَة الْخلاف فِيمَن أَحْيَاهَا ثمَّ تَركهَا فزرعها غَيره، فعلى قَول الْبَعْض: الثَّانِي أَحَق بهَا، وعَلى قَول الْعَامَّة الأول يَنْزِعهَا من الثَّانِي كمن أخرب دَاره أَو عطل بستانه وَتَركه حَتَّى مرت عَلَيْهِ سنُون، فَإِنَّهُ لَا يخرج عَن ملكه، وَلَكِن إِذا حجرها وَلم يعمرها ثَلَاث سِنِين يَأْخُذهَا الإِمَام كَمَا ذكرنَا، وَتَعْيِين الثَّلَاث بأثر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ عندنَا: يملكهُ الذِّمِّيّ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسلمِ، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة: لَا يملكهُ فِي دَار الْإِسْلَام، وَسَوَاء فِي ذَلِك الْحَرْبِيّ وَالذِّمِّيّ والمستأمن، وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي بِحَدِيث أسمر بن مُضرس، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِعُمُوم الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبابُُ، وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الْأُسْتَاذ أبي طَاهِر: أَن الذِّمِّيّ يملك بِالْإِحْيَاءِ إِذا كَانَ بِإِذن الإِمَام.
<

بابُ

قد ذكرنَا غير مرّة أَن لَفْظَة بابُُ، إِذا ذكرت مُجَرّدَة عَن التَّرْجَمَة تكون بِمَعْنى الْفَصْل من الْبابُُ السَّابِق، وَلَيْسَ فِيهِ تَنْوِين، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد والتركيب، أللهم إلاَّ إِذا قُلْنَا: هَذَا بابُُ، فَيكون حِينَئِذٍ منوناً مَرْفُوعا على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.



[ قــ :39 ... غــ :336 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرَ عنْ مُوسَى بنِ عقْبَةَ عنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرِيَ وهْوَ فِي مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ فِي بَطْنِ الوَادِي فَقِيلَ لَهُ إنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ فَقَالَ موسَى وقَدْ أناخَ بِنا سالِمٌ بالمُناخِ الَّذِي كانَ عبدُ الله يُنِيخُ بِهِ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ أسْفَلُ مِنَ المَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الوَادِي بَيْنَهُ وبَيْنَ الطَّرِيقِ وسَطٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبابُُ من حَيْثُ إِنَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن ذَا الحليفة لَا يملك بِالْإِحْيَاءِ لما فِيهِ من منع النَّاس النُّزُول فِيهِ، وَأَن الْموَات يجوز الِانْتِفَاع بِهِ، وَأَنه غير مَمْلُوك لأحد، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ فِي وَجه الْمُطَابقَة، وَقد تكلم الْمُهلب فِيهِ بِمَا لَا يجدي، ورد عَلَيْهِ ابْن بطال بِمَا لَا ينفع، وَجَاء آخر نصر الْمُهلب فِي ذَلِك، وَالْكل لَا يشفي العليل وَلَا يروي الغليل، فَلذَلِك تَرَكْنَاهُ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْحَج فِي: بابُُ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العقيق وادٍ مبارك، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن أبي بكر عَن فُضَيْل بن سُلَيْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة إِلَى آخِره.
وَأخرجه هُنَاكَ: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أبي إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمُؤَدب الْمَدِينِيّ عَن مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمَدِينِيّ ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: ( أرى) على بِنَاء الْمَجْهُول من الْمَاضِي من الإراءة، والمناخ بِضَم الْمِيم.
قَوْله: ( أَسْفَل) بِالرَّفْع وَالنّصب، والمعرس، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة: مَوضِع التَّعْرِيس، وَهُوَ النُّزُول فِي آخر اللَّيْل.





[ قــ :40 ... غــ :337 ]
- حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرَنا شُعَيْبُ بنُ إسْحَاقَ عنِ الأوْزَاعِيِّ قَالَ حدَّثني يَحْيَى عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اللَّيْلَةَ أتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي وهْوَ بالْعَقِيقِ أنْ صَلِّ فِي هذَا الوَادِي المُبَارَكِ وقُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ.
( انْظُر الحَدِيث 4351 وطرفه) .


هَذَا أَيْضا مضى فِي كتاب الْحَج فِي الْبابُُ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن الْوَلِيد وَبشر بن بكر التنيسِي، قَالَا: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ ... إِلَى آخِره، نَحوه وَهنا أخرجه: عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن رَاهَوَيْه عَن شُعَيْب بن إِسْحَاق الدِّمَشْقِي عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.