فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل سقي الماء

( بابُُ فَضْلِ سَقْيِ الْمَاءِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل سقِِي المَاء لكل من لَهُ حَاجَة إِلَى ذَلِك.



[ قــ :2262 ... غــ :2363 ]
- حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ بَيْنَا رَجُلٍ يَمْشِي فاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ فنَزلَ بِئْرا فَشَرِبَ منْهَا ثُمَّ خَرَجَ فإذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يأكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ فقالَ لَقدْ بلغَ هَذَا مثلُ الَّذِي بلَغَ بِي فَمَلأَ خفَّهُ ( ثمَّ أمْسكهُ بغيه) ثمَّ رَقِيَ فسَقَى الكَلْبَ فشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رسولَ الله وإنَّ لَنا فِي البَهَائِمِ أجْراً قالَ فِي كلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وسُمَي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء: مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام، وَقد مر فِي كتاب الصَّلَاة، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات، وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد مدنيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَظَالِم عَن القعْنبِي، وَفِي الْأَدَب عَن إِسْمَاعِيل.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن القعْنبِي، أربعتهم عَن مَالك.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( بَينا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن أَصله: بَين، فأشبعت فَتْحة النُّون فَصَارَ: بَينا، ويضاف إِلَى جملَة، وَهِي هُنَا قَوْله: ( رجل يمشي) .
قَوْله: ( فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ) ، الْفَاء فِيهِ وَقعت هُنَا موقع: إِذا، تَقْدِيره: بَينا رجل يمشي إِذا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطش، وَهُوَ جَوَاب: بَينا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمَظَالِم: بَيْنَمَا، وَكِلَاهُمَا سَوَاء فِي الحكم، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي الموطآت.
من طَرِيق روح عَن مَالك: يمشي بفلاة، وَله من طَرِيق ابْن وهب عَن مَالك: يمشي بطرِيق مَكَّة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة مُسلم هَذِه: الْفَاء، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن الْأَفْصَح أَن يَقع جَوَاب: بَينا وبينما بِلَا كلمة، إِذْ وَإِذا، وَلَكِن وُقُوعه بهما كثير.
قَوْله: الْعَطش، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَكَذَا فِي رِوَايَة فِي ( الْمُوَطَّأ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: العطاش، وَهُوَ دَاء يُصِيب الْإِنْسَان فيشرب فَلَا يرْوى،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَالصَّوَاب الْعَطش، قَالَ: وَقيل: يَصح على تَقْدِير أَن الْعَطش يحدث مِنْهُ دَاء فَيكون العطاش إسماً للداء كالزكام.
قَوْله: ( فَإِذا هُوَ) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة.
قَوْله: ( يَأْكُل الثرى) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة مَقْصُور يكْتب بِالْيَاءِ، وَهُوَ التُّرَاب الندي.
قَوْله: ( يَلْهَث) ، جملَة وَقعت حَالا من الْكَلْب، قَالَ ابْن قرقول: لهث الْكَلْب بِفَتْح الْهَاء وَكسرهَا إِذا أخرج لِسَانه من الْعَطش أَو الْحر، واللهاث، بِضَم اللَّام: الْعَطش، وَكَذَلِكَ الطَّائِر.
ولهث الرجل إِذا أعيى.
وَيُقَال: مَعْنَاهُ يبْحَث بيدَيْهِ وَرجلَيْهِ فِي الأَرْض، وَفِي ( الْمُنْتَهى) : هُوَ ارْتِفَاع النَّفس يَلْهَث لهثاً ولهاثاً، ولهث بِالْكَسْرِ يَلْهَث لهثاً ولهاثاً مثل: سمع سَمَاعا إِذا عَطش.
قَوْله: ( بلغ هَذَا مثل الَّذِي بلغ بِي) ، أَي: بلغ هَذَا الْكَلْب مثل الَّذِي، بِنصب اللَّام على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: بلغ هَذَا مبلغا مثلَ الَّذِي بلغ بِي، وَضَبطه الْحَافِظ الدمياطي بِخَطِّهِ بِضَم: مثل، قَالَ بَعضهم: وَلَا يخفى تَوْجِيهه.
قلت: كَأَنَّهُ لم يقف على تَوْجِيهه، وَهُوَ أَن يكون لفظ: هَذَا، مفعول بلغ، وَقَوله: مثل الَّذِي بلغ بِي، فَاعله فارتفاعه حِينَئِذٍ على الفاعلية.
قَوْله: ( فَمَلَأ خفه) فِيهِ مَحْذُوف قبله تَقْدِيره: ( فَنزل فِي الْبِئْر فَمَلَأ خفه) ، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: ( فَنزع أحد خفيه) .
قَوْله: ( ثمَّ أمْسكهُ بِفِيهِ) ، أَي: بفمه.
وَإِنَّمَا أمسك خفه بفمه لِأَنَّهُ كَانَ يعالج بيدَيْهِ ليصعد من الْبِئْر، فَدلَّ هَذَا أَن الصعُود مِنْهَا كَانَ عسراً.
قَوْله: ( ثمَّ رقي) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْقَاف على مِثَال: صعد وزنا وَمعنى، يُقَال: رقيت فِي السّلم بِالْكَسْرِ: إِذا صعدت، وَذكره ابْن التِّين بِفَتْح الْقَاف على مِثَال: مضى، وَأنْكرهُ.
.

     وَقَالَ  عِيَاض فِي ( الْمَشَارِق) : هِيَ لُغَة طيىء، يفتحون الْعين فِيمَا كَانَ من الْأَفْعَال معتل اللَّام، وَالْأول أفْصح وَأشهر.
قَوْله: ( فسقى الْكَلْب) ، وَفِي رِوَايَة عبد الله بن دِينَار عَن أبي صَالح: حَتَّى أرواه من الإرواء من الرّيّ، وَقد مَضَت هَذِه الرِّوَايَة فِي كتاب الْوضُوء فِي: بابُُ المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَنهُ إِسْحَاق عَن عبد الصَّمد عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار عَن أَبِيه عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن رجلا رأى كَلْبا يَأْكُل الثرى من الْعَطش، فَأخذ الرجل خفه فَجعل يغْرف لَهُ بِهِ حَتَّى أرواه، فَشكر الله لَهُ حَتَّى أدخلهُ الْجنَّة.
قَوْله: فَشكر الله لَهُ، أَي: أثنى عَلَيْهِ أَو قبل عمله، فغفر لَهُ، فالفاء فِيهِ للسَّبَبِيَّة، أَي: بِسَبَب قبُول عمله غفر لَهُ، كَمَا فِي قَوْلك: إِن يسلم فَهُوَ فِي الْجنَّة، أَي: بِسَبَب إِسْلَامه هُوَ فِي الْجنَّة، وَيجوز أَن تكون الْفَاء تفسيرية، تَفْسِير قَوْله: فَشكر الله لَهُ لِأَن غفرانه لَهُ هُوَ نفس الشُّكْر، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} ( الْبَقَرَة: 45) .
على قَول من فسر التَّوْبَة بِالْقَتْلِ،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: معنى قَوْله: فَشكر الله لَهُ، أَي: أظهر مَا جازاه بِهِ عِنْد مَلَائكَته،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام.
قلت: لَا يَصح هَذَا هُنَا، لِأَن شكر الله لهَذَا الرجل عبارَة عَن مغفرته إِيَّاه، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: ( قَالُوا) أَي: الصَّحَابَة، من جُمْلَتهمْ سراقَة بن مَالك ابْن جعْشم، روى حَدِيثه ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن نمير، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن مَالك بن جعْشم عَن أَبِيه عَن عَمه سراقَة بن مَالك بن جعْشم، قَالَ: سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الضَّالة من الْإِبِل تغشى حياضي قد لطتها لإبلي، فَهَل لي من أجر إِن سقيتها؟ فَقَالَ: نعم، فِي كل ذَات كبد حرى أجر.
قَوْله: ( وَإِن لنا) ، هُوَ مَعْطُوف على شَيْء مَحْذُوف تَقْدِيره: الْأَمر كَمَا ذكرت، وَإِن لنا فِي الْبَهَائِم أجرا، أَي: فِي سقيها أَو فِي الْإِحْسَان إِلَيْهَا.
قَوْله: ( فِي كل كبد) ، يجوز فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: فتح الْكَاف وَكسر الْبَاء وَفتح الْكَاف وَسُكُون الْبَاء للتَّخْفِيف، كَمَا قَالُوا فِي الْفَخْذ فَخذ، وَكسر الْكَاف وَسُكُون الْبَاء،.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: الكبد يذكر وَيُؤَنث، وَلِهَذَا قَالَ: رطبَة، وَالْجمع أكباد وأكبد وكبود.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: يَعْنِي كبد كل حَيّ من ذَوَات الْأَنْفس، وَالْمرَاد بالرطبة رُطُوبَة الْحَيَاة أَو هُوَ كِنَايَة عَن الْحَيَاة.
قَوْله: ( أجر) ، مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما قَوْله: ( فِي كل كبد) ، تَقْدِيره: أجر حَاصِل أَو كَائِن فِي إرواء كل ذِي كبد حَيّ.
وَأبْعد الْكرْمَانِي فِي سُؤَاله هُنَا حَيْثُ يَقُول: الكبد لَيست ظرفا لِلْأجرِ، فَمَا معنى كلمة الظَّرْفِيَّة؟ ثمَّ قَالَ: تَقْدِيره الْأجر ثَابت فِي إرواء أَو فِي رِعَايَة كل حَيّ وَجه الإبعاد: أَن كل من شم شَيْئا من علم الْعَرَبيَّة يعرف أَن الْجَار وَالْمَجْرُور لَا بُد أَن يتَعَلَّق بِشَيْء، إِمَّا ظَاهرا أَو مُقَدرا، فَإِذا لم يصلح الْمَذْكُور أَن يتَعَلَّق بِهِ يقدر لفظ: كَائِن أَو حَاصِل أَو نَحْوهمَا، فَلَا حَاجَة إِلَى السُّؤَال وَالْجَوَاب، ثمَّ قَالَ: أَو الْكَلِمَة للسَّبَبِيَّة، يَعْنِي: كلمة: فِي، للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِي النَّفس المؤمنة مائَة إبل، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة، وَمَعَ هَذَا الْمُتَعَلّق مَحْذُوف، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة الْوَاجِب مائَة إبل، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير هُنَا: بِسَبَب إرواء كل كبد أجر حَاصِل.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: هَذَا عَام فِي جَمِيع الْحَيَوَانَات.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبد الْملك: هَذَا الحَدِيث كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل، وَأما الْإِسْلَام فقد أَمر بقتل الْكلاب فِيهِ.
وَأما قَوْله: ( فِي كل كبد) ، فمخصوص بِبَعْض الْبَهَائِم مِمَّا لَا ضَرَر فِيهِ لِأَن الْمَأْمُور بقتْله كالخنزير لَا يجوز أَن يقوى لِيَزْدَادَ ضَرَره، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ: إِن عُمُومه مَخْصُوص بِالْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَم، وَهُوَ مَا لم يُؤمر بقتْله فَيحصل الثَّوَاب بسقيه، ويلتحق بِهِ إطعامه وَغير ذَلِك من وُجُوه الْإِحْسَان إِلَيْهِ.
قلت: الْقلب الَّذِي فِيهِ الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة يجنح إِلَى قَول الدَّاودِيّ، وَفِي الْقلب من قَول أبي عبد الْملك حزازة، وَيتَوَجَّهُ الرَّد على كَلَامه من وُجُوه: الأول: قَوْله: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل، لَا دَلِيل عَلَيْهِ، فَمَا الْمَانِع أَن أحدا من هَذِه الْأمة قد فعل هَذَا، وكوشف للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وَأخْبرهُ بذلك حثاً لأمته على فعل ذَلِك، وصدور هَذَا الْفِعْل من أحد من أمته يجوز أَن يكون فِي زَمَنه، وَيجوز أَن يكون بعده، بِأَن يفعل أحد هَذَا.
وَأعلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَنه سَيكون كَذَا وَأخْبرهُ بذلك فِي صُورَة الْكَائِن، لِأَن الَّذِي يُخبرهُ عَن الْمُسْتَقْبل كالواقع لِأَنَّهُ مخبر صَادِق، وكل مَا يُخبرهُ من المغيبات الْآتِيَة كَائِن لَا محَالة.
وَالثَّانِي: قَوْله: وَأما الْإِسْلَام، فقد أَمر بقتل الْكلاب لَا يقوم بِهِ دَلِيل على مدعاه، لِأَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل الْكلاب فِي أول الْإِسْلَام، ثمَّ نسخ ذَلِك بِإِبَاحَة الِانْتِفَاع بهَا للصَّيْد وللماشية وَالزَّرْع، وَلَا شكّ أَن الْإِبَاحَة بعد التَّحْرِيم نسخ لذَلِك التَّحْرِيم، وَرفع لحكمه.
وَالثَّالِث: دَعْوَى الْخُصُوص تحكم وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ، لِأَن تَخْصِيص الْعَام بِلَا دَلِيل إِلْغَاء لحكمه الَّذِي تنَاوله، فَلَا يجوز، وَالْعجب من النَّوَوِيّ أَيْضا أَنه ادّعى عُمُوم الحَدِيث الْمَذْكُور للحيوان الْمُحْتَرَم، وَهُوَ أَيْضا لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وأصل الحَدِيث مَبْنِيّ على إِظْهَار الشَّفَقَة لمخلوقات الله تَعَالَى من الْحَيَوَانَات، وَإِظْهَار الشَّفَقَة لَا يُنَافِي إِبَاحَة قتل المؤذي من الْحَيَوَانَات، وَيفْعل فِي هَذَا مَا قَالَه ابْن التَّيْمِيّ: لَا يمْتَنع إجراؤه على عُمُومه، يَعْنِي: فيسقي ثمَّ يقتل، لأَنا أمرنَا بِأَن نحسن القتلة ونهينا عَن الْمثلَة، فعلى قَول مدعي الْخُصُوص: الْكَافِر الْحَرْبِيّ وَالْمُرْتَدّ الَّذِي اسْتمرّ على ارتداده إِذا قدما للْقَتْل، وَكَانَ الْعَطش قد غلب عَلَيْهِمَا، يَنْبَغِي أَن يَأْثَم من يسقيهما لِأَنَّهُمَا غير محترمين فِي ذَلِك الْوَقْت، وَلَا يمِيل قلب شفوق فِيهِ رَحْمَة إِلَى منع السَّقْي عَنْهُمَا، يسقيان ثمَّ يقتلان.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ بَعضهم: فِيهِ: جَوَاز السّفر مُنْفَردا وَبِغير زَاد.
قلت: قد ورد النَّهْي عَن سفر الرجل وَحده، والْحَدِيث لَا يدل على أَن رجلا كَانَ مُسَافِرًا، لِأَنَّهُ قَالَ: ( بَينا رجل يمشي) ، فَيجوز أَن يكون مَاشِيا فِي أَطْرَاف مَدِينَة أَو عمَارَة، أَو كَانَ مَاشِيا فِي مَوضِع فِي مدينته.
وَكَانَ خَالِيا من السكان.
فَإِن قلت: قد مضى فِي أَوَائِل الْبابُُ أَن فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: يمشي بفلاة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: يمشي بطرِيق مَكَّة؟ قلت: لَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الرجل الْمَذْكُور مُسَافِرًا، وَلَئِن سلمنَا أَنه كَانَ مُسَافِرًا لَكِن يحْتَمل أَنه كَانَ مَعَه قوم فَانْقَطع مِنْهُم فِي الفلاة لضَرُورَة عرضت لَهُ، فَجرى لَهُ مَا جرى فَلَا يفهم مِنْهُ جَوَاز السّفر وَحده فَافْهَم.
وَأما السّفر بِغَيْر زَاد، فَإِن كَانَ فِي علمه أَنه يحصل لَهُ الزَّاد فِي طَرِيقه فَلَا بَأْس، وَإِن كَانَ يتَحَقَّق عَدمه فَلَا يجوز لَهُ بِغَيْر الزَّاد.
وَفِيه: الْحَث على الْإِحْسَان إِلَى النَّاس، لِأَنَّهُ إِذا حصلت الْمَغْفِرَة بِسَبَب سقِِي الْكَلْب، فسقي بني آدم أعظم أجرا.
وَفِيه: أَن سقِِي المَاء من أعظم القربات.
قَالَ بعض التَّابِعين: من كثرت ذنُوبه فَعَلَيهِ بسقي المَاء، فَإِذا غفرت ذنُوب الَّذِي سقى كَلْبا فَمَا ظنكم بِمن سقى مُؤمنا موحداً وأحياه بذلك؟.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَرُوِيَ عَنهُ مَرْفُوعا: أَنه دخل على رجل فِي السِّيَاق، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا ترى؟ فَقَالَ: أرى ملكَيْنِ يتأخران وأسودين يدنوان، وأري الشَّرّ ينمى وَالْخَيْر يضمحل، فأعني مِنْك بدعوة يَا نَبِي الله، فَقَالَ: أللهم أشكر لَهُ الْيَسِير، واعف عَنهُ الْكثير، ثمَّ قَالَ لَهُ: مَاذَا ترى؟ فَقَالَ: أرى ملكَيْنِ يدنوان والأسودين يتأخران، وَأرى الْخَيْر ينمي وَالشَّر يضمحل.
قَالَ: فَمَا وجدت أفضل عَمَلك؟ قَالَ: سقِِي المَاء.
وَفِي حَدِيث سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء.
وَفِيه: مَا احْتج بِهِ على جَوَاز الصَّدَقَة على الْمُشْركين لعُمُوم قَوْله: أجر.
وَفِيه: أَن المجازاة على الْخَيْر وَالشَّر قد يكون يَوْم الْقِيَامَة من جنس الْأَعْمَال، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل نَفسه بحديدة عذب بهَا فِي نَار جَهَنَّم،.

     وَقَالَ  بَعضهم: يَنْبَغِي أَن يكون مَحَله، مَا إِذا لم يُوجد هُنَاكَ مُسلم، فالمسلم أَحَق.
قلت: هَذَا قيد لَا يعْتَبر بِهِ، بل تجوز الصَّدَقَة على الْكَافِر، سَوَاء يُوجد هُنَاكَ مُسلم أَو لَا،.

     وَقَالَ  بَعضهم أَيْضا: وَكَذَا إِذا دَار الْأَمر بَين الْبَهِيمَة والآدمي الْمُحْتَرَم واستويا فِي الْحَاجة، فالآدمي أَحَق.
قلت: إِنَّمَا يكون أَحَق فِيمَا إِذا قسم بَينهمَا، يخَاف على الْمُسلم من الْهَلَاك، إو إِذا أَخذ جُزْءا للبهيمة يخَاف على الْمُسلم، فَأَما إِذا لم يُوجد وَاحِد مِنْهُمَا يَنْبَغِي أَن لَا تحرم الْبَهِيمَة أَيْضا، لِأَنَّهَا ذَات كبد رطبَة.

تابَعَهُ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ والرَّبِيعُ بنُ مُسْلِمٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ




[ قــ :63 ... غــ :364 ]
- حدَّثنا ابنُ أبِي مرْيَمَ حدَّثَنَا نافِعُ بنُ عُمَرَ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ عنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى صَلاةَ الكُسُوفِ فقالَ دَنَتْ مِنِّي النَّارُ حتَّى.

قُلْتُ أيْ رَبِّ وأنَا مَعَهُمْ فإذَا امْرَأَةٌ حَسِبْتُ أنَّهُ قَالَ تخْدِشُها هِرَّةٌ قَالَ مَا شأْنُ هَذِهِ قَالُوا حبَسَتْها حتَّى ماتَتْ جوعا.
( انْظُر الحَدِيث 547) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه الْمَرْأَة لما حبست هَذِه الْهِرَّة إِلَى أَن مَاتَت بِالْجُوعِ والعطش فاستحقت هَذَا الْعَذَاب، فَلَو كَانَت سقتها لم تعذب، وَمن هُنَا يعلم فضل سقِِي المَاء، وَهُوَ المطابق للتَّرْجَمَة.

وَهَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بابُُ مَا يقْرَأ بعد التَّكْبِير، وَلَكِن بأطول مِنْهُ.

وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ، وَنَافِع بن عمر بن عبد الله الجُمَحِي من أهل مَكَّة، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم: واسْمه زُهَيْر بن عبد الله الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي على عهد ابْن الزبير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: ( دنت) أَي: قربت.
قَوْله: ( أَي رَبِّي) يَعْنِي: يَا رَبِّي.
قَوْله: ( وَأَنا مَعَهم) ، فِيهِ تعجب وتعجيب واستبعاد من قربه من أهل جَهَنَّم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَيفَ قربوا مني وبيني وَبينهمْ غَايَة الْمُنَافَاة الْمُقْتَضِيَة لبعد المشرقين.
قَوْله: ( فَإِذا امْرَأَة) كلمة: إِذا، للمفاجأة.
قَوْله: ( حسبت) من كَلَام أَسمَاء.
قَوْله: ( أَنه قَالَ) ، أَي: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ.
قَوْله: ( تخدشها) أَي: تكدحها، وأصل الخدش قشر الْجلد بِعُود أَو نَحوه، من خدش يخدش خدشاً من بابُُ ضرب يضْرب.





[ قــ :64 ... غــ :365 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عبد الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ حبَسَتْها حتَّى ماتَتْ جُوعاً فدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ قَالَ فَقَالَ وَالله أعْلَمُ لَا أنْتِ أطْعَمْتِيها ولاَ سَقَيْتِيها حِينَ حَبَسْتِيها ولاَ أنْتِ أرْسَلْتِيهَا فأكَلَتْ مِنْ خَشاشِ الأرْضِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب وَفِي الْحَيَوَان عَن هَارُون بن عبد الله وَعبد الله ابْن جَعْفَر الْبَرْمَكِي.

قَوْله: ( فِي هرة) أَي: فِي شَأْن هرة أَو بِسَبَب هرة.
قَوْله: ( فَدخلت فِيهَا) أَي: بِسَبَبِهَا.
قَوْله: ( قَالَ: فَقَالَ) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ الله تَعَالَى أَو؟ مَالك خَازِن النَّار، قَوْله: ( وَالله أعلم) جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: فَقَالَ، وَبَين: لَا أَنْت ... إِلَى آخِره.
قَوْله: ( أطعمتها) يروي: ( أطعميتها) مَعَ أخواتها آلَة بإشباع كسراتها يَاء، قَوْله: ( فَأكلت) ويروى: فتأكل.
قَوْله: ( من خشَاش الأَرْض) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وخفة الشين الأولى: الحشرات، وَقد تفتح الْخَاء.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ وَقد تضم أَيْضا.
.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: الخشاش، بِالْكَسْرِ إلاَّ الطير الصَّغِير فَإِنَّهُ بِالْفَتْح.
وَفِي ( الْغَرِيب) للْمُصَنف: الخشاش شرار الطير.

قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَظَاهر الحَدِيث يدل على تملك الْهِرَّة لِأَنَّهُ أضافها للْمَرْأَة بِاللَّامِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَة فِي الْملك.
وَفِيه: أَن النَّار مخلوقة.
وَفِيه: أَن بعض النَّاس معذب الْيَوْم فِي جَهَنَّم.
وَفِيه: فِي تعذيبها بِسَبَب الْهِرَّة دلَالَة على أَن فعلهَا كَبِيرَة لِأَنَّهَا أصرت عَلَيْهِ.