فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: إذا وجد ماله عند مفلس في البيع، والقرض والوديعة، فهو أحق به

( بابٌُ إذَا وجَدَ مالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِي البَيْعِ والقَرْضِ والوَدِيعَةِ فَهْوَ أحَقُّ بِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: إِذا وجد شخص مَالا عِنْد مُفلس، وَهُوَ الَّذِي حكم الْحَاكِم بإفلاسه.
قَوْله: ( فِي البيع) ، يتَعَلَّق بقوله: وجد صورته: أَن يَبِيع رجل مَتَاعا لرجل ثمَّ أفلس الرجل الَّذِي اشْتَرَاهُ، وَوجد البَائِع مَتَاعه الَّذِي بَاعه عِنْده، فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره من الْغُرَمَاء، وَفِيه خلاف نذكرهُ عَن قريب.
قَوْله: ( وَالْقَرْض) ، صورته أَن يقْرض لرجل مِمَّا يَصح فِيهِ الْقَرْض، ثمَّ أفلس الْمُسْتَقْرض، فَوجدَ الْمقْرض مَا أقْرضهُ عِنْده فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره، وَفِيه الْخلاف أَيْضا.
قَوْله: ( والوديعة) ، صورته أَن يودع رجل عِنْد رجل وَدِيعَة ثمَّ أفلس المودَع فالمودِع بِكَسْر الدَّال أَحَق بِهِ من غَيره بِلَا خلاف.
وَقيل: إِدْخَال البُخَارِيّ الْقَرْض والوديعة مَعَ الدّين إِمَّا لِأَن الحَدِيث مُطلق، وَإِمَّا أَنه وَارِد فِي البيع، وَالْحكم فِي الْقَرْض والوديعة أولى.
أما الْوَدِيعَة فَملك رَبهَا لم ينْتَقل، وَأما الْقَرْض فانتقال ملكه عَنهُ مَعْرُوف، وَهُوَ أَضْعَف من تمْلِيك الْمُعَاوضَة، فَإِذا أبطل التَّفْلِيس ملك الْمُعَاوضَة الْقوي بِشَرْطِهِ فالضعيف أولى.
قلت: قَوْله: وَالْحكم فِي الْقَرْض والوديعة أولى، غير مسلَّم فِي الْقَرْض، لِأَنَّهُ انْتقل من ملك المقرِض وَدخل فِي ملك الْمُسْتَقْرض، فَكيف يكون الْمقْرض أولى من غَيره، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ ملك؟ واعترف هَذَا الْقَائِل أَيْضا أَن الْقَرْض انْتقل من ملك الْمقْرض.
قَوْله: ( فَهُوَ أَحَق بِهِ) ، جَوَاب: إِذا، الَّتِي تَضَمَّنت معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت الْفَاء فِي جوابها، وَالضَّمِير فِي: بِهِ، يرجع إِلَى قَوْله: مَاله، يَعْنِي: أَحَق بِهِ من غَيره، من غُرَمَاء الْمُفلس.

وَقَالَ الحسَنُ إذَا أفْلعسَ وتبَيَّنَ لَمْ يَجُزّ عِتْقُهُ ولاَ بَيْعُهُ ولاَ شِرَاؤهُ
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ.
قَوْله: ( إِذا أفلس) ، أَي: رجل أَو شخص، فالقرينة تدل عَلَيْهِ.
قَوْله: ( وَتبين) ، أَي: ظهر إفلاسه عِنْد الْحَاكِم، فَلَا يجوز عتقه إِلَى آخِره، وَقيد بِهِ لِأَنَّهُ مَا لم يتَبَيَّن إفلاسه عِنْد الْحَاكِم يجوز تصرفه فِي الْأَشْيَاء كلهَا، وَأما عِنْد التبين فَفِيهِ خلاف، فَعِنْدَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: بيع الْمَحْجُور وابتياعه جَائِز، وَعند أَكثر الْعلمَاء: لَا يجوز إلاَّ إِذا وَقع مِنْهُ البيع لوفاء الدّين، وَعند الْبَعْض يُوقف، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي قَول: وَاخْتلفُوا فِي إِقْرَاره، فالجمهور على قبُوله.

وَقَالَ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ قَضاى عُثْمَانُ مَنِ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أنْ يُفْلِسَ فَهْوَ لَهُ ومَنْ عَرَفَ مَتاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهْوَ أحَقُّ بِهِ
عُثْمَان هُوَ ابْن عَفَّان.
قَوْله: ( من اقْتضى من حَقه) ، مَعْنَاهُ: أَن من كَانَ لَهُ حق عِنْد أحد فَأَخذه قبل أَن يفلسه الْحَاكِم فَهُوَ لَهُ لَا يتَعَرَّض إِلَيْهِ أحد من غُرَمَائه خَاصَّة، بل كل من أثبت عَلَيْهِ حَقًا يُطَالِبهُ بِخِلَاف مَا إِذا عرف أحد مَتَاعه بِعَيْنِه أَنه عِنْده فَإِنَّهُ أَحَق بِهِ من غَيره من سَائِر الْغُرَمَاء، وَبِه أَخذ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد على مَا يَجِيء بَيَانه، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو عبيد فِي كتاب الْأَمْوَال عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة عَن سعيد بن الْمسيب، قَالَ: أفلس مولى لأم حَبِيبَة فاختصم فِيهِ إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقضى أَن من كَانَ اقْتضى من حَقه شَيْئا قبل أَن يتَبَيَّن إفلاسه فَهُوَ لَهُ، وَمن عرف مَتَاعه بِعَيْنِه فَهُوَ لَهُ.



[ قــ :2301 ... غــ :2402 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يونُسَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى ابنُ سَعِيدٍ قَالَ أخبرَني أَبُو بَكْرِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حزْمٍ أنَّ عُمر بنَ عَبْدِ العَزِيزِ أخْبَرَهُ أنَّ أبَا بَكْرِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ الحَرث بنِ هِشامٍ قَالَ أخبرهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ مَنْ أدْرَكَ مالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أوْ إنْسَانٍ قَدْ أفْلَسَ فَهْوَ أحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة لَا تطابق إلاَّ بقوله فِي البيع، لِأَن أَحَادِيث هَذَا الْبابُُ تدل على أَن حَدِيث الْبابُُ وَارِد فِي البيع.
مِنْهُم: مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الرجل الَّذِي يعْدم إِذا وجد عِنْده الْمَتَاع لم يعرفهُ أَنه لصَاحبه الَّذِي بَاعه.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من رِوَايَة يحيى بن سعيد بِإِسْنَاد حَدِيث الْبابُُ بِلَفْظ: ( إِذا ابْتَاعَ الرجل سلْعَة ثمَّ أفلس وَهِي عِنْده بِعَينهَا فَهُوَ أَحَق بهَا من الْغُرَمَاء) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق هِشَام بن يحيى المَخْزُومِي عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: ( إِذا أفلس الرجل فَوجدَ البَائِع سلْعَته) وَالْبَاقِي مثله.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ مَالك عَن ابْن شهَاب عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث مُرْسلا: ( أَيّمَا رجل بَاعَ سلْعَة فأفلس الَّذِي ابتاعه وَلم يقبض البَائِع من ثمنه شَيْئا، فَوَجَدَهُ بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ) .
قيل: يلْتَحق بِهِ الْقَرْض والوديعة.
قلت: قد ردينا هَذَا عَن قريب بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة.

ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس، هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي.
الثَّانِي: زُهَيْر مصغر الزهر بن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، مر فِي الْوضُوء.
الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
الرَّابِع: أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي، مر فِي الْوَحْي.
الْخَامِس: عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان الْخَلِيفَة الْعَادِل الْقرشِي الْأمَوِي.
السَّادِس: أَبُو بكر ابْن عبد الرَّحْمَن الَّذِي يُقَال لَهُ: رَاهِب قُرَيْش لِكَثْرَة صلَاته.
السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: السماع فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى جده وَأَنه وزهيراً كوفيان والبقية مدنيون.
وَفِيه: أَرْبَعَة من التَّابِعين يحيى وَثَلَاثَة بعده.
وَفِيه: أَن يحيى وَمن بعده كلهم ولوا الْقَضَاء على الْمَدِينَة.
وَفِيه: أَن يحيى وَأَبا بكر بن مُحَمَّد وَعمر بن عبد الْعَزِيز من طبقَة وَاحِدَة.
وَفِيه: شكّ أحد الروَاة بَين قَوْله: قَالَ رَسُول الله، وَقَوله: سَمِعت رَسُول الله، قَالَ بَعضهم: أَظُنهُ من زُهَيْر.
قلت: الظَّن لَا يجدي شَيْئا، لِأَن الِاحْتِمَال فِي غَيره قَائِم.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أَحْمد بن يُونُس بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَيحيى بن حبيب وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن ابْن أبي عمر وَعَن ابْن أبي حُسَيْن.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن النُّفَيْلِي وَعَن مُحَمَّد بن عَوْف وَعَن القعْنبِي عَن مَالك وَعَن سُلَيْمَان بن دَاوُد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد وَإِبْرَاهِيم بن الْحسن، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ وَعَن هِشَام بن عمار.

ذكر حكم هَذَا الحَدِيث فِي الِاحْتِجَاج بِهِ: احْتج بِهِ عَطاء بن أبي رَبَاح وَعُرْوَة بن الزبير وطاووس وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَعبيد الله بن الْحسن وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد، فَإِنَّهُم ذَهَبُوا إِلَى ظَاهر هَذَا الحَدِيث وَقَالُوا: إِذا أفلس الرجل وَعِنْده مَتَاع قد اشْتَرَاهُ وَهُوَ قَائِم بِعَيْنِه فَإِن صَاحبه أَحَق بِهِ من غَيره من الْغُرَمَاء.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: أجمع فُقَهَاء الْحجاز وَأهل الْأَثر على القَوْل بجملته، أَي بجملة الحَدِيث الْمَذْكُور، وَإِن اخْتلفُوا فِي أَشْيَاء من فروعه.
ثمَّ قَالَ: وَاخْتلف مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْمُفلس يَأْبَى غرماؤه دفع السّلْعَة إِلَى صَاحبهَا، وَقد وجدهَا بِعَينهَا، ويريدون دفع الثّمن إِلَيْهِ من قبل أنفسهم كَمَا لَهُم فِي قبض السّلْعَة من الْفضل، فَقَالَ مَالك: لَهُم ذَلِك وَلَيْسَ لصَاحِبهَا أَخذهَا إِذا دفع إِلَيْهِ الْغُرَمَاء الثّمن.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَيْسَ للْغُرَمَاء فِي هَذَا مقَال.
قَالَ: وَإِذا لم يكن للْمُفلس وَلَا لوَرثَته أَخذ السّلْعَة فالغرماء أبعد من ذَلِك، وَإِنَّمَا الْخِيَار لصَاحب السّلْعَة إِن شَاءَ أَخذهَا وَإِن شَاءَ تَركهَا، وَضرب مَعَ الْغُرَمَاء لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل صَاحبهَا أَحَق بهَا مِنْهَا، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَأحمد وَجَمَاعَة، وَاخْتلف مَالك وَالشَّافِعِيّ أَيْضا إِذا اقْتضى صَاحب السّلْعَة من ثمنهَا شَيْئا.
فَقَالَ ابْن وهب وَغَيره عَن مَالك: إِن أحب صَاحب السّلْعَة أَن يرد مَا قبض من لثمن وَيقبض سلْعَته كَانَ ذَلِك لَهُ.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَو كَانَت السّلْعَة عبدا فَأخذ نصف ثمنه ثمَّ أفلس الْغَرِيم كَانَ لَهُ نصف العَبْد لِأَنَّهُ بِعَيْنِه، وَيبِيع النّصْف الثَّانِي الَّذِي بَقِي للْغُرَمَاء وَلَا يرد شَيْئا مِمَّا أَخذ، لِأَنَّهُ مستوفٍ لما أَخذ، وَبِه قَالَ أَحْمد.
وَاخْتلف مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْمُفلس يَمُوت قبل الحكم عَلَيْهِ وَقبل توقيفه، فَقَالَ مَالك: لَيْسَ حكم الْمُفلس كَحكم الْمَيِّت، وبائع السّلْعَة إِذا وجدهَا بِعَينهَا أُسْوَة للْغُرَمَاء فِي الْمَوْت بِخِلَاف التَّفْلِيس، وَبِه قَالَ أَحْمد.
وَفِي ( التَّوْضِيح) مُقْتَضى الحَدِيث رُجُوعه أَي: رُجُوع صَاحب السّلْعَة وَلَو قبض بعض الثّمن لإِطْلَاق الحَدِيث، وَهُوَ الْجَدِيد من قَول الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَخَالف فِي الْقَدِيم، فَقَالَ: يضارب بباقي الثّمن فَقَط، واستدلت الشَّافِعِيَّة بقوله: من أدْرك مَاله بِعَيْنِه على أَن شَرط اسْتِحْقَاق صَاحب المَال دون غَيره أَن يجد مَاله بِعَيْنِه لم يتَغَيَّر وَلم يتبدل، وإلاَّ فَإِن تَغَيَّرت الْعين فِي ذَاتهَا بِالنَّقْصِ مثلا أَو فِي صفة من صفاتها فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء.

وَبسط بعض الشَّافِعِيَّة الْكَلَام هُنَا، وَجعله على وُجُوه: الأول: لَا بُد فِي الحَدِيث من اضمار وَلم يكن البَائِع قبض ثمنهَا لِأَنَّهُ إِذا قَبضه فَلَا رُجُوع لَهُ فِيهِ إِجْمَاعًا.
الثَّانِي: خصص مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول قديم لَهُ رُجُوعه فِي الْعين بِمَا إِذا لم يكن قبض من ثمنهَا شَيْئا، فَإِن قبض بعضه صَار فِي بَقِيَّته أُسْوَة الْغُرَمَاء، وَقد قُلْنَا آنِفا: إِن الشَّافِعِي لم يفرق فِي الْجَدِيد بَين قبض بعض الثّمن وَبَين عدم قَبضه لعُمُوم الحَدِيث.
الثَّالِث: اسْتدلَّ الشَّافِعِي وَأحمد بِرِوَايَة عمر بن خلدَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من أفلس أَو مكات فَوجدَ رجل مَتَاعه ... .
الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره على التَّسْوِيَة بَين حالتي الإفلاس حَيا وَمَيتًا أَن لصَاحب السّلْعَة الرُّجُوع، وَفرق مَالك بَينهمَا،.

     وَقَالَ : هُوَ فِي حَالَة الْمَوْت أُسْوَة الْغُرَمَاء.
الرَّابِع: اسْتدلَّ بقوله: أدْرك مَاله بِعَيْنِه، على أَنَّهَا إِذا هَلَكت أَو أخرجهَا عَن ملكه بِبيع أَو هبة أَو عتق أَو نَحوه أَنه لَا يرجع فِيهَا، لِأَنَّهَا لَيست على يَد المُشْتَرِي.
الْخَامِس: اسْتدلَّ بِهِ على أَن التَّصَرُّف الَّذِي لَا يزِيل الْملك لَا يبطل حق الرُّجُوع للْبَائِع كالتدبير، واستيلاد أم الْوَلَد، وَهُوَ كَذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُدبر عِنْد من يجوز بَيْعه، وَهُوَ الصَّحِيح، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى أم الْوَلَد فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوع فِيهَا على الصَّوَاب.
قَالَ شَيخنَا: وَأما مَا وَقع فِي فَتَاوَى النَّوَوِيّ من أَنه يرجع فَهُوَ غلط، وَقد عبَّر هُوَ فِي ( تَصْحِيح التَّنْبِيه) بِأَن الصَّوَاب أَنه لَا يرجع.
السَّادِس: مَا المُرَاد بالمفلس الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَفِي قَول الْفُقَهَاء؟ قَالَ الرَّافِعِيّ نقلا عَن الْأَئِمَّة: إِن الْمُفلس من عَلَيْهِ دُيُون لَا تفي بِمَالِه، وَاعْترض عَلَيْهِ بأمرين: أَحدهمَا: أَنه لَا بُد من تَقْيِيد ذَلِك بِضَرْب الْحَاكِم الْحجر عَلَيْهِ، فَإِن من هَذِه حَاله وَلم يضْرب عَلَيْهِ الْحجر يَصح بَيْعه وشراؤه بِلَا خلاف.
وَالثَّانِي: أَنه تتقيد الدُّيُون بديون الْعباد، أما دُيُون الله تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَنَحْوهَا، فَإِنَّهُ لَا يضْرب عَلَيْهِ الْحجر بعجز مَاله عَنْهَا إِذا كَانَ مَاله يَفِي بديون الْعباد، كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب ( الْإِيمَان) .
السَّابِع: قَوْله: مَاله بِعَيْنِه، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَغَيره: فَوجدَ الرجل سلْعَته عِنْده بِعَينهَا، دَلِيل على أَنه لَا يخْتَص ذَلِك بِالْبيعِ، بل لَو أقْرضهُ دَرَاهِم ثمَّ أفلس فَوجدَ الرجل الدَّرَاهِم بِعَينهَا فَهُوَ أَحَق بهَا من بَقِيَّة الْغُرَمَاء، لِأَن السّلْعَة لُغَة الْمَتَاع.
قَالَه الْجَوْهَرِي، وَفِي بعض طرقه فِي ( الصَّحِيح) أَيْضا: فَوجدَ الرجل مَتَاعه أَو مَاله.
الثَّامِن: لَو أجره شَيْئا بمنجل وتفلس الْمُسْتَأْجر قبل فيض الْأُجْرَة أَنه يفْسخ الْإِجَارَة وَيرجع بِالْعينِ الْمُسْتَأْجرَة، وَقد صرح بِهِ الرَّافِعِيّ، قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وإدراجه تَحت لفظ الحَدِيث مُتَوَقف على الْمَنَافِع، هَل يُطلق عَلَيْهَا إسم الْمَتَاع وَالْمَال؟ قَالَ: وَإِطْلَاق المَال عَلَيْهَا أقوى.
قلت: يُطلق عَلَيْهَا اسْم الْمَتَاع لُغَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْمَتَاع السّلْعَة، وَالْمَتَاع الْمَنْفَعَة.
التَّاسِع: يدْخل تَحت ظَاهر الحَدِيث مَا الْتزم فِي ذمَّته نقل مَتَاع من مَكَان إِلَى مَكَان، ثمَّ أفلس، وَالْأُجْرَة بِيَدِهِ قَائِمَة، فَإِنَّهُ يثبت حق الْفَسْخ وَالرُّجُوع إِلَى الْأُجْرَة، قَالَه ابْن دَقِيق الْعِيد.
الْعَاشِر: فِيهِ حجَّة لأحد الْوَجْهَيْنِ أَن الْمُفلس الْمَضْرُوب عَلَيْهِ الْحجر يحل الدُّيُون المؤجلة عَلَيْهِ، وَالصَّحِيح أَنه لَا يحل.
الْحَادِي عشر: قد يسْتَدلّ بِهِ لأصح الْوَجْهَيْنِ: أَن الْغُرَمَاء إِذا قدمُوا صَاحب الْعين الْقَائِمَة بِثمنِهَا لم يسْقط حَقه من الرُّجُوع فِي الْعين.
الثَّانِي عشر: قد يسْتَدلّ بِهِ على أَن لصَاحب الْعين الاستبداد فِي الرُّجُوع فِي عينه، وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ، وَقيل: لَيْسَ ذَلِك إلاَّ بالحاكم.
الثَّالِث عشر: قد يسْتَدلّ بِهِ لأصح الْوَجْهَيْنِ أَنه: لَو امْتنع المُشْتَرِي من تَسْلِيم الثّمن أَو هرب، أَو امْتنع الْوَارِث من تَسْلِيم الثّمن وَحجر الْحَاكِم عَلَيْهِ أَنه لصَاحب الْعين الرُّجُوع إِلَى حَقه لقَوْله: أَيّمَا امرىء أفلس، فَهَذَا مَفْهُوم شَرط وَصفَة، فَيَقْتَضِي أَنه لَا رُجُوع فِي حق غير الْمُفلس.
الرَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ لأصح الْوَجْهَيْنِ أَنه إِذا بَاعه عَبْدَيْنِ فَتلف أَحدهمَا رَجَعَ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ، وَقيل: يرجع فِيهِ بِكُل الثّمن.
الْخَامِس عشر: اسْتدلَّ بِهِ لأحد الْوَجْهَيْنِ أَنه إِذا وجد رب السّلْعَة سلْعَته عِنْد الْمُفلس بعد أَن خرجت: ثمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِغَيْر عوض أَنه يرجع كالميراث وَالْهِبَة، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الرَّافِعِيّ فِي ( الشَّرْح الصَّغِير) ، وَصحح النَّوَوِيّ من زياداته فِي ( الرَّوْضَة) عدم الرُّجُوع لِأَنَّهُ تَلقاهُ من مَالك آخر غير صَاحب الْعين.
السَّادِس عشر: اسْتدلَّ بِهِ على رُجُوع البَائِع، وَإِن كَانَ للْمُفلس ضَامِن بِالثّمن، وَقد فرق صَاحب ( التَّتِمَّة) بَين أَن يضمن بِإِذن المُشْتَرِي أَو لَا، فَإِن ضمن بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخ، وَإِن ضمن بِغَيْر إِذْنه فَوَجْهَانِ.
السَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ من ذهب إِلَى أَن البَائِع يرجع فِيهِ، وَإِن كَانَ الْمَبِيع شخصا مشفوعاً وَلم يعلم الشَّفِيع حَتَّى حجر على المُشْتَرِي، وَهُوَ وَجه، وَالصَّحِيح أَنه يَأْخُذهُ الشَّفِيع وَيكون الثّمن بَين الْغُرَمَاء، وَقيل: يَأْخُذهُ الشَّفِيع ويخص البَائِع بِالثّمن جمعا بَين الْحَقَّيْنِ.
الثَّامِن عشر: فِيهِ أَنه يرجع، وَإِن وجده معيبا.
التَّاسِع عشر: فِيهِ أَنه لَا يرجع بالزوائد الْمُنْفَصِلَة لِأَنَّهَا لَيست مَتَاعه.
الْعشْرُونَ: اسْتدلَّ بِهِ على أَن البَائِع لَهُ الرُّجُوع، وَإِن كَانَ المُشْتَرِي قد بنى وغرس فِيهَا، وَفِيه خلاف وتفصيل مَعْرُوف فِي كتب الْفِقْه.
انْتهى.

قلت: ذهب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ فِي رِوَايَة، ووكيع بن الْجراح وَعبد الله بن شبْرمَة قَاضِي الْكُوفَة.
وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر: إِلَى أَن بَائِع السّلْعَة أُسْوَة للْغُرَمَاء، وَصَحَّ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَن من اقْتضى من ثمن سلْعَته شَيْئا ثمَّ أفلس فَهُوَ والغرماء فِيهِ سَوَاء، وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ، وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَحْو مَا ذهب إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وروى قَتَادَة عَن خلاس بن عَمْرو عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: هُوَ فِيهَا أُسْوَة الْغُرَمَاء إِذا وجدهَا بِعَيْنِه، وَبِهَذَا يرد على ابْن الْمُنْذر فِي قَوْله: وَلَا نعلم لعُثْمَان فِي هَذَا مُخَالفا من الصَّحَابَة.
وَقَول عُثْمَان مر عَن قريب فِي أَوَائِل الْبابُُ.
وروى الثَّوْريّ عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: هُوَ والغرماء فِيهِ شرعا سَوَاء، وروى ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) : حَدثنَا ابْن فُضَيْل عَن عَطاء بن السَّائِب عَن الشّعبِيّ، وَسَأَلَهُ رجل أَنه وجد مَاله بِعَيْنِه، فَقَالَ: لَيست لَك دون الْغُرَمَاء.

وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن حَدِيث الْبابُُ أَن الْمَذْكُور فِيهِ: من أدْرك مَاله بِعَيْنِه، وَالْمَبِيع لَيْسَ هُوَ عين مَاله، وَإِنَّمَا هُوَ عين مَال قد كَانَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَاله بِعَيْنِه يَقع على الْمَغْصُوب والعواري والودائع وَمَا أشبه ذَلِك، فَذَلِك مَاله بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ من سَائِر الْغُرَمَاء، وَفِي ذَلِك جَاءَ هَذَا الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث سَمُرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن حجاج عَن سعيد بن زيد بن عقبَة عَن أَبِيه عَن سَمُرَة بن جُنْدُب: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من سرق لَهُ مَتَاع، أَو ضَاعَ لَهُ مَتَاع فَوَجَدَهُ عِنْد رجل بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِعَيْنِه، وَيرجع المُشْتَرِي على البَائِع بِالثّمن.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، فَهَذَا يبين أَن المُرَاد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنه على الودائع والعواري وَالْمَغْصُوب وَنَحْوهَا، وَأَن صَاحب الْمَتَاع أَحَق بِهِ إِذا وجده فِي يَد رجل بِعَيْنِه، وَلَيْسَ للْغُرَمَاء فِيهِ نصيب لِأَنَّهُ بَاقٍ على ملكه، لِأَن يَد الْغَاصِب يَد التَّعَدِّي وَالظُّلم، وَكَذَلِكَ السَّارِق، فخلاف مَا إِذا بَاعه وَسلمهُ إِلَى المُشْتَرِي فَإِنَّهُ يخرج عَن ملكه وَإِن لم يقبض الثّمن.

قلت: حَدِيث سَمُرَة هَذَا فِيهِ الْحجَّاج بن أَرْطَأَة وَالنَّخَعِيّ فِيهِ مقَال.
قلت: مَا للحجاج وَقد روى عَنهُ مثل الإِمَام أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَشعْبَة وَابْن الْمُبَارك؟.

     وَقَالَ  الْعجلِيّ: كَانَ فَقِيها.
.

     وَقَالَ  أحد مفتي الْكُوفَة: وَكَانَ جَائِز الحَدِيث،.

     وَقَالَ  أَبُو زرْعَة: صَدُوق مُدَلّس،.

     وَقَالَ  ابْن حبَان: صَدُوق يكْتب حَدِيثه،.

     وَقَالَ  الْخَطِيب: أحد الْعلمَاء بِالْحَدِيثِ والحفاظ ل.
وَفِي ( الْمِيزَان) : أحد الْأَعْلَام.
وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير، وَسَعِيد بن زيد وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَأَبوهُ زيد بن عقبَة وَثَّقَهُ الْعجلِيّ وَالنَّسَائِيّ.

فَإِن وَقد تكلم جمَاعَة مِمَّن يلوح مِنْهُم لوائح التعصب بِمَا فِيهِ ترك مُرَاعَاة حسن الْأَدَب، فَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي ( الْمُفْهم) ؛ تعسف بعض الْحَنَفِيَّة فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث بتأويلات لَا تقوم على أساس،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وتأولوه بتأويلات ضَعِيفَة مَرْدُودَة.

     وَقَالَ  ابْن بطال: قَالَ الْحَنَفِيَّة: البَائِع أُسْوَة للْغُرَمَاء، ودفعوا حَدِيث التَّفْلِيس بِالْقِيَاسِ، وَقَالُوا: السّلْعَة مَال المُشْتَرِي وَثمنهَا فِي ذمَّته، وَالْجَوَاب: أَنه لَا مدْخل للْقِيَاس إلاَّ إِذا عدمت السّنة، أما مَعَ وجودهَا فَهِيَ حجَّة على من خالفها، فَإِن قَالَ الْكُوفِيُّونَ: نؤوله بِأَنَّهُ مَحْمُول على الْمُودع والمقرض دون البَائِع.
قُلْنَا: هَذَا فَاسد، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جعل لصَاحب الْمَتَاع الرُّجُوع إِذا وجده بِعَيْنِه، وَالْمُودع أَحَق بِعَيْنِه سَوَاء كَانَ على صفته أَو قد تغير عَنْهَا، فَلم يجز حمل الْخَبَر عَلَيْهِ، وَوَجَب حمله على البَائِع لِأَنَّهُ إِنَّمَا يرجع بِعَيْنِه إِذا وجده بِصفتِهِ لم يتَغَيَّر، فَإِذا تغير فَإِنَّهُ لَا يرجع.

وَقَالَ الْكرْمَانِي:.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَذَا التَّأْوِيل غير صَحِيح إِذْ لَا خلاف أَن صَاحب الْوَدِيعَة أَحَق بهَا، سَوَاء وجدهَا عِنْد مُفلس أَو غَيره، وَقد شَرط الإفلاس فِي الحَدِيث،.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) ؛ وَحمل أَبُو حنيفَة الحَدِيث على الْغَصْب والوديعة لِأَنَّهُ لم يذكر البيع فِيهِ، وأوَّلَ الحَدِيث بتأويلات ضَعِيفَة مَرْدُودَة، وَتعلق بِشَيْء يرْوى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، وَلَيْسَ بِثَابِت عَنْهُمَا، وَتركُوا الحَدِيث بِالْقِيَاسِ بِأَن يَده قد زَالَت كيد الرَّاهِن.

وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: فِي الحَدِيث الْمَذْكُور حجَّة على أبي حنيفَة حَيْثُ قَالَ: هُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بأجوبة.

أَحدهَا: أَنهم قَالُوا: هَذَا الحَدِيث مُخَالف لِلْأُصُولِ الثَّابِتَة، فَإِن الْمُبْتَاع قد ملك السّلْعَة وَصَارَت فِي ضمانة فَلَا يجوز أَن ينْقض عَلَيْهِ ملكه، قَالُوا: والْحَدِيث إِذا خَالف الْقيَاس يشْتَرط فِيهِ فقه الرَّاوِي، وَأَبُو هُرَيْرَة لَيْسَ كَذَلِك.
وَالثَّانِي: أَن المُرَاد الغصوب والعواري والودائع والبيوع الْفَاسِدَة وَنَحْوهَا.
وَالثَّالِث: أَنه مَحْمُول على البيع قبل الْقَبْض.

وَهَذِه الْأَجْوِبَة فَاسِدَة.
أما الأول: فَإِن كل حَدِيث أصل بِرَأْسِهِ، فَلَا يجوز أَن يعْتَرض عَلَيْهِ بِسَائِر الْأُصُول الْمُخَالفَة لَهُ، وَقد ينْقض ملك الْمَالِك فِي غير مَوضِع: كالشفعة وَالطَّلَاق قبل الدُّخُول بعد أَن ملكت الصَدَاق، وَتَقْدِيم صَاحب الرَّهْن على الْغُرَمَاء، وَاخْتِلَاف المتبايعني وتعجيز الْمكَاتب وَغير ذَلِك، وَقد أخذت الْحَنَفِيَّة بِحَدِيث القهقهة فِي الصَّلَاة مَعَ كَونه مُخَالفا لِلْأُصُولِ وَضَعفه أَيْضا.
وَأما الثَّانِي: فيبطله قَوْله: أَيّمَا امرىء أفلس فَإِن الْمَغْصُوب مِنْهُ وَمن ذكر مَعَه أَحَق بمتاعه من الْمُفلس وَغَيره.
وَأما الثَّالِث: فيبطله، وَوجد الرجل سلْعَته عِنْده وَهِي قبل الْقَبْض لَيست عِنْد الْمُفلس، وَلَا يُقَال: وجدهَا صَاحبهَا وأدركها، وَهِي عِنْده.

قلت: هَؤُلَاءِ كلهم صدرُوا عَن مكرع وَاحِد، أما الْقُرْطُبِيّ وَالنَّوَوِيّ فَإِنَّهُمَا ادّعَيَا: بِأَن تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة ضَعِيف مَرْدُود، وَلم يبينا وَجه ذَلِك، وَأما ابْن بطال فَإِنَّهُ قَالَ: الْحَنَفِيَّة دفغوا حَدِيث الْمُفلس بِالْقِيَاسِ، وَلَا مدْخل للْقِيَاس إِلَّا إِذا عدمت السّنة، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، لأَنهم مَا دفعُوا الحَدِيث بِالْقِيَاسِ، بل عمِلُوا بهما.
أما عَمَلهم بِالْحَدِيثِ فَظَاهر قطعا، لِأَنَّهُ قَالَ: من أدْرك مَاله بِعَيْنِه، وَإِدْرَاك المَال بِعَيْنِه لَا يتَصَوَّر إلاَّ فِيمَا قَالُوا نَحْو الغصوب والعواري والودائع، وَنَحْو ذَلِك، لِأَن مَاله فِي هَذِه الْأَشْيَاء مُحَقّق وَلم يخرج عَن ملكه بِوَجْه من الْوُجُوه، فَلَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد.
وَأما عَمَلهم بِالْقِيَاسِ فَظَاهر قطعا أَيْضا، لِأَن الْمَبِيع خرج عَن ملك البَائِع وَدخل فِي ملك المُشْتَرِي، فَإِن لم يكن الثّمن مَقْبُوضا فَكيف يجوز تَخْصِيص البَائِع بِهِ وَمنع تشريك غَيره من أَصْحَاب الْحُقُوق الَّتِي هِيَ مُتَعَلقَة بِذِمَّة المُشْتَرِي؟ فَهَذَا لَا يقبله النَّقْل والقاس، على أَنه نقل عَن إِمَامه مَالك بن أنس: أَن الْقيَاس مقدم على خبر الْوَاحِد.
حَيْثُ يَقُول: إِن الْقيَاس حجَّة بِإِجْمَاع الصَّحَابَة.
وَفِي اتِّصَال خبر الْوَاحِد بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتِمَال وَكَانَ الْقيَاس الثَّابِت بِالْإِجْمَاع اقوى وَنحن نقُول اجماع الصَّحَابَة على التَّقْدِيم خبر الْوَاحِد على الْقيَاس، وَخبر الْوَاحِد حجَّة بِالْإِجْمَاع، والشبهة بِالْقِيَاسِ فِي الأَصْل وَفِي الْخَبَر، فِي الِاتِّصَال، فَيرجع الْخَبَر عَلَيْهِ، ودعواه بِأَن تَأْوِيل الْكُوفِيّين فَاسد لِأَنَّهُ جعل لصَاحب الْمَتَاع إِذا وجده بِعَيْنِه فَاسِدَة لأَنا لَا نكرر جعله لصَاحب الْمَتَاع إِذا وجده بِعَيْنِه، فَكل من كَانَ صَاحب الْمَتَاع فَلهُ الرُّجُوع، وَالْبَائِع هُنَا خرج عَن كَونه صَاحب الْمَتَاع، لِأَن الْمَتَاع خرج من ملكه، وتبدل الصّفة هُنَا كتبدل الذَّات، فَصَارَ الْمَبِيع غير مَاله، وَقد كَانَ عين مَاله أَولا.

فَإِن قلت: أَنْت ذكرت عقيب ذكر الحَدِيث: أَن أَحَادِيث الْبابُُ تدل على أَن حَدِيث الْبابُُ وَارِد فِي البيع، ثمَّ ذكرت عَن مُسلم وَغَيره مَا يدل على ذَلِك؟ قلت: إِنَّمَا ذكرت ذَلِك لأجل بَيَان تَرْجَمَة البُخَارِيّ حَيْثُ قَالَ: بابُُ إِذا وجد مَاله عِنْد مُفلس فِي البيع ... إِلَى آخِره، وَذَلِكَ أَن مذْهبه مثل مَذْهَب من يَجْعَل البَائِع أُسْوَة الْغُرَمَاء، فَذكرت مَا ذكرت لأجل بَيَان ذَلِك، وَلأَجل الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث.

وَأما حَدِيث أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث فَإِنَّهُ مُضْطَرب، لِأَن مَالِكًا رَوَاهُ فِي ( موطئِهِ) عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا،.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُد: هُوَ أصح مِمَّن رَوَاهُ عَن مَالك مُسْندًا،.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: وَلَا يثبت هَذَا عَن الزُّهْرِيّ مُسْندًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُرْسل.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: كَذَا هُوَ مُرْسل فِي جَمِيع ( الموطآت) الَّتِي رَأينَا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ جمَاعَة الروَاة عَن مَالك فِيمَا علمنَا مُرْسلا إلاَّ عبد الرَّزَّاق، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن مَالك: عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر عَن أبي هُرَيْرَة فأسنده، وَقد اخْتلف فِي ذَلِك عَن عبد الرَّزَّاق.
قلت: الْمُرْسل حجَّة عنْدكُمْ؟ قلت: نعم، وَلَكِن الْمسند أقوى لِأَن عَدَالَة الرَّاوِي شَرط قبُول الحَدِيث، وَهِي مَعْلُومَة فِي الْمسند بالتصريح، وَفِي الْمُرْسل مشكوكة أَو مَعْلُومَة بِالدّلَالَةِ، والصريح أقوى من الدّلَالَة، وَالْعجب من هَؤُلَاءِ أَنهم لَا يرَوْنَ الْمُرْسل حجَّة ثمَّ يعْملُونَ بِهِ فِي مَوَاضِع.
وَأما قَول صَاحب ( التَّوْضِيح) ؛ تعلق أَبُو حنيفَة بِشَيْء يرْوى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَلَيْسَ بِثَابِت عَنْهُمَا، لَيْسَ كَذَلِك، لأَنا قد ذكرنَا فِيمَا مضى: أَن قَتَادَة روى عَن خلاس بن عَمْرو عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أُسْوَة الْغُرَمَاء إِذا وجدهَا بِعَيْنِه، وَصَححهُ ابْن حزم، وَأما نقلهم عَن الْحَنَفِيَّة بِأَنَّهُم قَالُوا: والْحَدِيث إِذا خَالف الْقيَاس يشْتَرط فقه الرَّاوِي، وَأَبُو هُرَيْرَة لَيْسَ كَذَلِك، فَهَذَا تشنيع مِنْهُم عَلَيْهِم، لِأَن الشَّيْخ أَبَا الْحسن الْكَرْخِي قَالَ: لَيْسَ فقه الرَّاوِي شرطا لتقديم خَبره على الْقيَاس، بل يقبل خبر كل عدل فَقِيها كَانَ أَو غَيره، إِذا لم يكن مُعَارضا بِدَلِيل أقوى مِنْهُ، وَتَبعهُ على ذَلِك جمَاعَة من الْمَشَايِخ،.

     وَقَالَ  صدر الْإِسْلَام: وَإِلَيْهِ مَال أَكثر الْعلمَاء، وَالَّذِي ذَكرُوهُ هُوَ مَذْهَب عِيسَى بن أبان وَبَعض الْمُتَأَخِّرين، مَعَ أَن أحدا مِنْهُم لم يذكر أَبَا هُرَيْرَة بِمَا نسبه إِلَيْهِ من قلَّة الْفِقْه، وَكَيف لم يكن فَقِيها وَكَانَ يُفْتِي فِي زمن الصَّحَابَة وَلم تكن الْفَتْوَى فِي زمانهم إلاَّ للفقهاء؟ وَقد دَعَا لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحِفْظِ فَاسْتَجَاب الله دعاءه فِيهِ، حَتَّى انْتَشَر فِي الْعَالم ذكره.

وَأما قَوْلهم: كل حَدِيث أصل بِرَأْسِهِ، فسلمنا ذَلِك إِذا كَانَ كل وَاحِد مُتَعَلقا بِأَصْل غير الأَصْل الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ الآخر، وَأما إِذا كَانَ حديثان أَو أَكثر ومخرجهما وَاحِد فَلَا يفرق حِينَئِذٍ بَينهمَا.
وَأما قَوْلهم: وَقد ينْقض ملك الْمَالِك كالشفعة.
.
إِلَى آخِره، غير صَحِيح، لِأَن مُشْتَرِي الدَّار لَا يثبت لَهُ الْملك مَعَ وجود الشَّفِيع، وَلَو قبضهَا فملكه على شرف السُّقُوط، وَلَا يتم لَهُ الْملك إلاَّ بترك الشَّفِيع شفعته، وَالْمَرْأَة لَا تملك الصَدَاق قبل الدُّخُول ملكا تَاما، وَهُوَ أَيْضا على شرف السُّقُوط، وَلِهَذَا لَو قبضت صَدَاقهَا وَطَلقهَا زَوجهَا يرجع عَلَيْهَا بِنصْف الصدْق، وَالْملك فِي الصُّورَتَيْنِ غير تَامّ، فَكيف يُقَال: وَقد ينْقض ملك الْمَالِك.
وَأما الرَّهْن فَإِن يَد الْمُرْتَهن يَد اسْتِيفَاء لَا يَد ملك، وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَن يتَصَرَّف فِيهِ تصرف الْملاك.
وَأما عِنْد اخْتِلَاف الْمُتَبَايعين فَلَا يثبت الْملك لأَحَدهمَا إلاَّ بعد الِاتِّفَاق على الْإِتْمَام أَو على الْفَسْخ، وَأما الْمكَاتب فَإِنَّهُ عبد وَلَو بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم، فَمَتَى يملك نَفسه حَتَّى يُقَال ينْقض ملكه عِنْد الْعَجز؟ وَأما قَوْلهم: وَقد أخذت الْحَنَفِيَّة بِحَدِيث القهقهة فِي الصَّلَاة مَعَ كَونه مُخَالفا لِلْأُصُولِ، وَضَعفه أَيْضا، فَإِنَّمَا أخذُوا بِهِ لكَون رَاوِيه مَعْرُوفا بِالْعَدَالَةِ، وَالْمَعْرُوف بِالْعَدَالَةِ يقبل قَوْله، وَإِن لم يكن مَعْرُوفا بالفقه، سَوَاء وَافق خَبره الْقيَاس أَو خَالفه.
وَأما تضعيفهم خبر القهقهة فَغير صَحِيح، لِأَنَّهُ رَوَاهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة الْفُقَهَاء كَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَجَابِر وَعمْرَان وَسَلَمَة بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد اتقنا الْكَلَام فِيهِ فِي ( شرحنا للهداية) .