فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من باع مال المفلس - أو المعدم - فقسمه بين الغرماء - أو أعطاه - حتى ينفق على نفسه

( بابُُ مَنْ باعَ مالَ الْمُفْلِسِ أوْ الْمُعْدِمِ فقَسَمَهُ بيْنَ الغُرَماءِ أوْ أعْطَاهُ حتَّى يُنْفِقَ عَلى نفْسِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم من بَاعَ من الْحُكَّام مَال الْمُفلس أَو المعدم، بِكَسْر الدَّال، وَهُوَ الْفَقِير قَوْله ( فَقَسمهُ) أَي قسم مَال الْمُفلس بَين غُرَمَائه.
قَوْله: ( أَو أعطَاهُ) أَي: أَو أعْطى مَال المعدم لَهُ بعد أَن بَاعه لينفق على نَفسه، وَفِيه اللف والنشر، قَالَه الْكرْمَانِي: وَوَجهه مَا ذكرته.



[ قــ :2302 ... غــ :2403 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ حدَّثنا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ حدَّثنا عَطَاءُ بنُ أبي رَبَاح ٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أعْتَقَ رَجُلٌ غُلاماً لَهُ عنْ دُبُرٍ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي فاشْتَراهُ نُعَيْمُ بنُ عَبْدِ الله فأخَذَ ثَمَنَهُ فدَفَعَهُ إلَيْهِ.
.


التَّرْجَمَة جزآن: أَحدهمَا: بيع مَال الْمُفلس وقسمته بَين الْغُرَمَاء.
وَالثَّانِي: بيع مَال المعدم وَدفعه إِلَيْهِ لينفقه على نَفسه، فَلَا مُطَابقَة بَينهمَا وَبَين حَدِيث الْبابُُ بِحَسب الظَّاهِر، كَمَا قَالَه ابْن بطال بِكَلَام حَاصله نفي الْمُطَابقَة.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون بَاعه عَلَيْهِ لكَونه مدياناً، وَمَال الْمديَان إِمَّا أَن يقسمهُ الإِمَام بِنَفسِهِ أَو يُسلمهُ إِلَى الْمديَان ليقسمه، فَلهَذَا ترْجم على التَّقْدِيرَيْنِ، مَعَ أَن أحد الْأَمريْنِ يخرج من الآخر، لِأَنَّهُ إِذا بَاعه عَلَيْهِ لحق نَفسه، فَلِأَن يَبِيعهُ عَلَيْهِ لحق الْغُرَمَاء أولى،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي أَن فِي التَّرْجَمَة لفاً ونشراً، و: أَو، فِي الْمَوْضِعَيْنِ للتنويع، وَيخرج أَحدهمَا من الآخر، قلت: أما قَول الْمُجيب الأول بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون بَاعه عَلَيْهِ، لكَونه مدياناً، فَلَيْسَ بطائل أَن يُقَال بِالِاحْتِمَالِ، بل هُوَ فِي نفس الْأَمر إِنَّمَا بَاعه لكَونه مدياناً، كَمَا ثَبت ذَلِك فِي بعض طرق حَدِيث جَابر أَنه كَانَ عَلَيْهِ دين، أخرجه النَّسَائِيّ،.

     وَقَالَ : أخبرنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا محَاضِر، قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش عَن سَلمَة بن كهيل عَن عَطاء عَن جَابر، قَالَ: أعتق رجل من الْأَنْصَار غُلَاما لَهُ عَن دبر، وَكَانَ مُحْتَاجا وَكَانَ عَلَيْهِ دين، فَبَاعَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بثمانمائة دِرْهَم، فَأعْطَاهُ فَقَالَ: ( إقض دينك) .
وَأما قَول بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي أَن فِي التَّرْجَمَة لفاً ونشراً، فَلَيْسَ لَهُ وَجه أَن ينْسب ذَلِك إِلَى نَفسه، لِأَنَّهُ مَسْبُوق بِهِ، فَإِن الْكرْمَانِي قَالَ: وَالْكَلَام يحْتَمل اللف والنشر، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقَوله أَيْضا: وَيخرج أَحدهمَا من الآخر مَسْبُوق بِهِ أَيْضا، وَمَعَ هَذَا فِيهِ نظر.

والتوجيه الْحسن فِي ذكر الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث أَن يُقَال: إِن حَدِيث جَابر الْمَذْكُور لَهُ طرق: مِنْهَا: هَذَا الَّذِي أخرجه النَّسَائِيّ، ( فَفِيهِ: أَن الرجل كَانَ مديوناً وَبَاعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغُلَام الَّذِي دبره، فَدفعهُ إِلَيْهِ،.

     وَقَالَ  لَهُ: إقض دينك)
كَمَا فِي حَدِيثه، وَهَذَا يُطَابق الْجُزْء الأول للتَّرْجَمَة، غَايَة مَا فِي الْبابُُ اقْتصر فِي حَدِيث الْبابُُ على قَوْله: ( فَدفعهُ إِلَيْهِ) ، وَفِي حَدِيث النَّسَائِيّ: ( فَأعْطَاهُ، فَقَالَ: إقض دينك) .
فَإِن قلت: لَيْسَ فِي التَّرْجَمَة أَن الْمَدْيُون هُوَ الَّذِي قسمه، فَلَا مُطَابقَة.
قلت: لما أمره بِقَضَاء دينه من ثمن العَبْد فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تولى قسمته بَين غُرَمَائه، لِأَن التَّدْبِير حق من الْحُقُوق، فَلَمَّا أبْطلهُ الشَّارِع هُنَا احْتَاجَ إِلَى الحكم بِهِ، وَكَانَ من ضَرُورَة الحكم بِهِ أمره بقسمته بَين الْغُرَمَاء، لِأَن البيع لم يكن إلاَّ لأجلهم، وَمن طرق حَدِيث جَابر مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا،.

     وَقَالَ : حَدثنَا هِلَال بن الْعَلَاء، قَالَ: حَدثنَا أبي، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن عبد الْكَرِيم عَن عَطاء عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رجلا أعتق غُلَاما لَهُ من دبر، فَاحْتَاجَ مَوْلَاهُ فَأمره بِبيعِهِ فَبَاعَهُ بثمانمائة دِرْهَم، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أنفقهُ على عِيَالك فَإِنَّمَا الصَّدَقَة عَن ظهر غنى، وابدأ بِمن تعول) .
وَفِي رِوَايَة للنسائي: ( ابدأ بِنَفْسِك فَتصدق عَلَيْهَا فَإِن فضل شَيْء فلأهلك) ، الحَدِيث، وَهَذَا يُطَابق الْجُزْء الثَّانِي للتَّرْجَمَة على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
وَحَدِيث الْبابُُ مضى مُخْتَصرا فِي الْبيُوع فِي: بابُُ بيع الْمُدبر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن ابْن نمير عَن وَكِيع عَن إِسْمَاعِيل عَن سَلمَة بن كهيل عَن عَطاء عَن جَابر، قَالَ: ( بَاعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمُدبر) .

قَوْله: ( عَن دبر) ، مَعْنَاهُ قَالَ لعَبْدِهِ: أَنْت حر بعد موتى، أَو: دبرتك، وَاسم الْمُدبر، بِفَتْح الْبَاء: يَعْقُوب، وَاسم مَوْلَاهُ: أَبُو مَذْكُور، وَالثمن ثَمَانمِائَة دِرْهَم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ونعيم، بِضَم النُّون وَفتح الْعين الْمُهْملَة: ابْن عبد الله النحام، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة: الْقرشِي الْعَدوي، سمي النحام لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: دخلت الْجنَّة فَسمِعت نحمة من نعيم، والنحمة السعلة، أسلم قَدِيما بِمَكَّة، ثمَّ هَاجر عَام الْحُدَيْبِيَة وَشهد مَا بعْدهَا من الْمشَاهد، قتل يَوْم اليرموك سنة خمس عشرَة من الْهِجْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.



( بابٌُ إذَا أقْرَضَهُ إِلَى أجَلٍ مُسَمَّى أوْ أجَّلَهُ فِي البَيْعِ)

أَي: هَذَا بابُُ ذكر فِيهِ إِذا أقْرض الرجل رجلا دَرَاهِم أَو دَنَانِير أَو شَيْئا مِمَّا يَصح فِيهِ الْقَرْض إِلَى أجل مُسَمّى، أَي: إِلَى مُدَّة مُعينَة.
قَوْله: ( أَو أَجله) ، أَي: أَو أجل الثّمن فِي عقد البيع، أَو أجل العقد فِيهِ، يَعْنِي: بَاعه إِلَى أجل مُسَمّى، وَلَا يُقَال: فِيهِ إِضْمَار قبل الذّكر لِأَن الْقَرِينَة تدل عَلَيْهِ، وَهِي قَوْله: فِي البيع، وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ، وجوابهما مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ جَائِز أَو يجوز أَو نَحْو ذَلِك.
أما الْمَسْأَلَة الأولى: فَفِيهَا خلاف، فَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْخِير الدّين فِي الْقَرْض إِلَى أجل، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: سَوَاء كَانَ الْقَرْض إِلَى أجل أَو غير أجل، لَهُ أَن يَأْخُذهُ مَتى أحب، وَكَذَلِكَ الْعَارِية وَغَيرهَا، لِأَنَّهُ عِنْدهم من بابُُ الْعدة وَالْهِبَة غير مَقْبُوضَة، وَهُوَ قَول الْحَارِث العكلي وَأَصْحَابه وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ،.

     وَقَالَ  ابْن أبي شيبَة: وَبِه نَأْخُذ،.

     وَقَالَ  مَالك وَأَصْحَابه: إِذا أقْرضهُ إِلَى أجل ثمَّ أَرَادَ أَخذه قبل الْأَجَل لم يكن لَهُ ذَلِك.
أما الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: فَلَيْسَ فِيهَا خلاف بَين الْعلمَاء لجَوَاز الْآجَال فِي البيع، لِأَنَّهُ من بابُُ الْمُعَاوَضَات، فَلَا يَأْخُذهُ قبل مَحَله، وَفِي ( التَّوْضِيح) :.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: إِذا أخر الدّين الْحَال فَلهُ أَن يرجع فِيهِ مَتى شَاءَ، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك من قرض أَو غَيره.

قَالَ ابنُ عُمَرَ فِي القَرْضِ إِلَى أجلٍ لاَ بأسَ بِه وإنْ أُعْطِيَ أفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ

هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع، حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة، قَالَ: سَمِعت شَيخا يُقَال لَهُ الْمُغيرَة: قلت لِابْنِ عمر: إِنِّي أسلف جيراني إِلَى الْعَطاء، فيقضوني أَجود من دراهمي، قَالَ: لَا بَأْس مَا لم تشْتَرط، قَالَ وَكِيع: وَحدثنَا هِشَام الدستوَائي عَن الْقَاسِم ابْن أبي بزْرَة عَن عَطاء بن يَعْقُوب، قَالَ: استسلف مني ابْن عمر ألف دِرْهَم فقضاني دَرَاهِم أَجود من دراهمي،.

     وَقَالَ : مَا كَانَ فِيهَا من فضل فَهُوَ نائل مني إِلَيْك أتقبله؟ قلت: نعم.

وَقَالَ عطاءٌ وعَمْرُو بنُ دِينار هُوَ إلاى أجَلِهِ فِي القَرْضِ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنْهُمَا،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: قَول عَطاء وَعمر، وَبِه يَقُول أَبُو حنيفَة وَمَالك.
قلت: لَيْسَ هَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة، ومذهبه: كل دين يَصح تَأْجِيله إلاَّ الْقَرْض فَإِن تَأْجِيله لَا يَصح.



[ قــ :30 ... غــ :404 ]
- وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ هرْمُزَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سألَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أنْ يُسْلِفَهُ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلاى أجَلٍ مُسَمَّى الْحَدِيثَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث مطول الَّذِي يذكر فِيهِ قَضِيَّة الرجل الَّذِي أسلف ألف دِينَار فِي أَيَّام بني إِسْرَائِيل، وَقد مر فِي الْكفَالَة، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَذكره فِي هَذَا الْبابُُ فِي معرض الِاحْتِجَاج على جَوَاز التَّأْجِيل فِي الْقَرْض، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن شَرِيعَة من قبلنَا تلزمنا أم لَا؟