فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما ينهى عن إضاعة المال

( بابُُ مَا يُنْهَى عنْ إضاعَةِ الْمَالِ وقَوْلِ الله تَعَالَى وَالله لاَ يُحِبُّ الْفسَادَ وإنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ.

     وَقَالَ  فِي قَوْلِهِ تَعالى { أصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ مَا يَعبُد آبَاؤُنَا أوْ أنْ نَفْعَلَ فِي أمْوَالِنا مَا نَشاءُ}
( هود: 78) .
.

     وَقَالَ  تَعَالَى: { ولاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أمْوَالَكُمْ} ( النِّسَاء: 5) .
والحَجْرِ فِي ذَلِكَ وَمَا يُنْهَى عنِ الخِدَاعِ) أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان النَّهْي عَن إِضَاعَة المَال.
وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، وإضاعة المَال صرفه فِي غير وَجهه، وَقيل: إِنْفَاقه فِي غير طَاعَة الله تَعَالَى، والإسراف والتبذير.

قَوْله: ( وَقَول الله) بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله.
قَوْله: ( وَالله لَا يحب الْفساد) ، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: إِن الله لَا يحب الْفساد، وَالْأول هُوَ الَّذِي وَقع فِي التِّلَاوَة، وَالثَّانِي سَهْو من النَّاسِخ، وَالْفساد خلاف الصّلاح.
قَوْله: ( وَلَا يصلح عمل المفسدين) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن شبويه والنسفي: لَا يحب، بدل: لَا يصلح، وأصل التِّلَاوَة أَن الله لَا يصلح عمل المفسدين، وَغير هَذَا سَهْو من الْكَاتِب، وَقيل: يحْتَمل أَنه لم يقْصد التِّلَاوَة.
قلت: فِيهِ بعد لَا يخفى.
قَوْله: { أصلواتك} ( هود: 78) .
فِي سُورَة هود وأولها: { قَالُوا يَا شُعَيْب أصلواتك تأمرك.
.
}
( هود: 78) .
إِلَى قَوْله: { إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} ( هود: 78) .
كَانَ شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كثير الصَّلَوَات، وَكَانَ قومه إِذا رَأَوْهُ يُصَلِّي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقَوْلهمْ: أصلواتك تأمرك؟ السخرية والهزء، وَإسْنَاد الْأَمر إِلَى الصَّلَاة على طَرِيق الْمجَاز.
قَوْله: { أَن نَتْرُك} ( هود: 78) .
أَي: بِأَن نَتْرُك، أَي: بترك مَا يعبد آبَاؤُنَا.
قَوْله: { أَو أَن نَفْعل} ( هود: 78) .
أَي: أَتَأْمُرُنَا صلواتك بِأَن نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا تشَاء أَنْت، وَهُوَ مَا كَانَ يَأْمُرهُم من ترك التطفيف والبخس.
.

     وَقَالَ  زيد بن أسلم: كَانَ مِمَّا ينهاهم شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَنهُ وعذبوا لأَجله، قطع الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم، وَكَانُوا يقرضون من أَطْرَاف الصِّحَاح لتفضل لَهُم القراضة، وَكَانُوا يتعاملون بالصحاح عددا وبالمكسور وزنا ويبخسون.
قَوْله: { إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} ( هود: 78) .
قَول: مِنْهُم، على سَبِيل الِاسْتِهْزَاء، ونسبتهم إِيَّاه إِلَى غَايَة السَّفه، وَوجه ذكر هَذِه الْآيَة فِي هَذِه التَّرْجَمَة فِي قَوْله: أَو أَن نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء، لِأَن تصرفهم فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ إِضَاعَة لِلْمَالِ، وَكَانَ شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ينهاهم عَن ذَلِك، فَلَمَّا لم يتْركُوا هَذِه الفعلة عذبهم الله تَعَالَى.
قَوْله: ( وَقَالَ) أَي:.

     وَقَالَ  الله تَعَالَى: { وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} ( النِّسَاء: 5) .
هَذِه الْآيَة فِي النِّسَاء، وتمامها: { الَّتِي جعل الله لكم قيَاما وارزقوهم فِيهَا وَاكْسُوهُمْ، وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} ( النِّسَاء: 5) .
وَوجه ذكر هَذِه الْآيَة هُنَا أَيْضا هُوَ أَن إيتَاء الْأَمْوَال للسفهاء إضاعتها.
.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: المُرَاد بالسفهاء: النِّسَاء وَالصبيان،.

     وَقَالَ  سعيد بن جُبَير: هم الْيَتَامَى،.

     وَقَالَ  قَتَادَة وَعِكْرِمَة وَمُجاهد: هم النِّسَاء،.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا صَدَقَة بن خَالِد حَدثنَا عُثْمَان بن أبي العاتكة عَن عَليّ بن يزِيد عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن النِّسَاء السُّفَهَاء إلاَّ الَّتِي أطاعت قيمها) .
.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: ذكر عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم: حَدثنَا حَرْب بن شُرَيْح عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أبي هُرَيْرَة: { وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} ( النِّسَاء: 5) .
قَالَ: الخدم وهم شياطين الْأنس.
قَوْله: ( قيَاما) ، أَي: تقوم بهَا معايشكم من التِّجَارَات وَغَيرهَا.
قَوْله: { وارزقوهم فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} ( النِّسَاء: 5) .
وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا تعمد إِلَى مَالك وَمَا خولك الله وَجعله لَك معيشة فتعطيه امْرَأَتك أَو بنيك، ثمَّ تنظر إِلَى مَا فِي أَيْديهم، وَلَكِن أمسك مَالك وَأَصْلحهُ وَأَنت الَّذِي تنْفق عَلَيْهِم من كسوتهم ومؤونتهم ورزقهم.
.

     وَقَالَ  ابْن جرير: حَدثنَا ابْن الْمثنى حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن فراس عَن الشّعبِيّ عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى، قَالَ: ثَلَاثَة يدعونَ الله فَلَا يستجيب لَهُم: رجل كَانَت لَهُ امْرَأَة سَيِّئَة الْخلق فَلم يطلقهَا، وَرجل أعْطى مَاله سَفِيها، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: { وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} ( النِّسَاء: 5) .
وَرجل كَانَ لَهُ دين على رجل فَلم يشْهد عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: { وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} ( النِّسَاء: 5) .
يَعْنِي: فِي الْبر والصلة.
قَوْله: ( وَالْحجر فِي ذَلِك) ، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: ( إِضَاعَة المَال) ، أَي: الْحجر فِي ذَلِك أَي: فِي السَّفه،.

     وَقَالَ  ابْن كثير فِي ( تَفْسِيره) : وَيُؤْخَذ الْحجر على السُّفَهَاء من هَذِه الْآيَة أَعنِي، قَوْله: { وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء} ( النِّسَاء: 5) .
وهم أَقسَام، فَتَارَة يكون الْحجر على الصَّغِير، فَإِنَّهُ مسلوب الْعبارَة، وَتارَة يكون الْحجر للجنون، وَتارَة يكون لسوء التَّصَرُّف لنَقص الْعقل أَو الدّين، وَتارَة يكون الْحجر للفلس، وَهُوَ مَا إِذا أحاطت الدُّيُون بِرَجُل وضاق مَاله عَن وفائها، فَإِذا سَأَلَ الْغُرَمَاء الْحَاكِم الْحجر عَلَيْهِ حجر عَلَيْهِ.
انْتهى.
وَالسَّفِيه: هُوَ الَّذِي يضيع مَاله ويفسده بِسوء تَدْبيره، وَالْحجر فِي اللُّغَة: الْمَنْع، وَفِي الشَّرْع: الْمَنْع من التَّصَرُّف فِي المَال،.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: السَّفه هُوَ الْعَمَل بِخِلَاف مُوجب الشَّرْع وَاتِّبَاع الْهوى، وَمن عَادَة السَّفِيه التبذير والإسراف فِي النَّفَقَة وَالتَّصَرُّف لَا لغَرَض أَو لغَرَض لَا يعده الْعُقَلَاء من أهل الدّيانَة غَرضا، مثل دفع المَال إِلَى الْمُغنِي واللعاب وَشِرَاء الْحمام الطيارة بِثمن غال والغبن فِي التِّجَارَات من غير محمدة، وَأَبُو حنيفَة لَا يرى الْحجر بِسَبَب السَّفه، وَبِه قَالَ زفر، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين،.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر: يحْجر على السَّفِيه، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَاحْتج أَبُو حنيفَة بِحَدِيث ابْن عمر الَّذِي يَأْتِي الْآن: إِذا بَايَعت فَقل: لَا خلابة، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف على أَنه كَانَ يغبن فِي الْبيُوع فَلم يمنعهُ من التَّصَرُّف وَلَا حجر عَلَيْهِ، وَحجَّة الآخرين الْآيَة الْمَذْكُورَة.
وَهِي قَوْله: { وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم.
.
}
( النِّسَاء: 5) .
الْآيَة.
قَوْله: ( وَمَا ينْهَى عَن الخداع) ، عطف على مَا قبله، وَتَقْدِيره أَي: بابُُ فِي بَيَان كَذَا وَكَذَا، وَفِي بَيَان مَا ينْهَى عَن الخداع، أَي: فِي الْبيُوع.



[ قــ :2305 ... غــ :2407 ]
- حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عبْدِ الله بنِ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنِّي أُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ إذَا بايَعْتَ فقُلْ لاَ خِلاَبَةَ فكانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل كَانَ يغبن فِي الْبيُوع، وَهُوَ من إِضَاعَة المَال والْحَدِيث قد مر فِي الْبيُوع فِي: بابُُ مَا يكره من الخداع فِي البيع، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبيد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن عبد الله بن دِينَار إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن دِينَار ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، والخلابة، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة: الخداع.





[ قــ :306 ... غــ :408 ]
- حدَّثنا عُثْمانُ قَالَ حَدثنَا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنِ الشَّعْبِيِّ عنْ ورَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ عنِ الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الله حَرَّمَ عليْكُمْ عُقوقَ الأمَّهَاتِ ووَأْدِ الْبَنَاتِ ومَنْعَ وهاتِ وكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وقالَ وكثْرَةَ السُّؤالِ وإضَاعَةَ الْمَالِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وإضاعة المَال.
وَرِجَاله ذكرُوا غير مرّة، وَعُثْمَان هُوَ ابْن أبي شيبَة، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل.

وَهَؤُلَاء كلهم كوفيون، لَكِن سكن جرير الرّيّ.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد، وهم: مَنْصُور وَالشعْبِيّ ووراد.

والْحَدِيث مر فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بابُُ قَول الله تَعَالَى: { لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافاً} ( الْبَقَرَة: 37) .
بأخصر مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن خَالِد الْحذاء عَن الشّعبِيّ.
.
إِلَى آخِره.
قَوْله: ( عقوق الْأُمَّهَات) أصل العقوق الْقطع كَأَن الْعَاق لأمه يقطع مَا بَينهمَا من الْحُقُوق، وَإِنَّمَا خص الْأُمَّهَات بِالذكر، وَإِن كَانَ عقوق الْآبَاء أَيْضا حَرَامًا، لِأَن العقوق إلَيْهِنَّ أسْرع من الْآبَاء لضعف النِّسَاء، وللتنبيه على أَن بر الْأُم مقدم على بر الْأَب فِي التلطف والحنو وَنَحْو ذَلِك، وَلِأَن ذكر أَحدهمَا يدل على أَن الآخر مثله بِالضَّرُورَةِ، وَلَكِن تعْيين الْأُم لما ذكرنَا.
قَوْله: ( ووأد الْبَنَات) ، الوأد مصدر وَأَدت الوائدة ابْنَتهَا تئدها: إِذا دفنتها حَيَّة،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين بِإِسْكَان الْهمزَة، وَضبط ابْن فَارس بِفَتْحِهَا،.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد: كَانَ أحدهم فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا جَاءَتْهُ الْبِنْت يدفنها حَيَّة حِين تولد، وَيَقُولُونَ: الْقَبْر صهر، وَنعم الصهر.
وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ غيرَة وأنفة، وَبَعْضهمْ يَفْعَله تَخْفِيفًا للمؤونة.
قَوْله: ( وَمنع) ، أَي: وَحرم عَلَيْكُم منع مَا عَلَيْكُم إِعْطَاؤُهُ.
قَوْله: ( وهات) أَي: وَحرم عَلَيْكُم طلب مَا لَيْسَ لكم أَخذه، وَقيل: نهى عَن منع الْوَاجِب من مَاله وأقواله وأفعاله وأخلاقه من الْحُقُوق اللَّازِمَة فِيهَا، وَنهى عَن استدعاء مَا لَا يجب عَلَيْهِم من الْحُقُوق، وتكليفه إيَّاهُم بِالْقيامِ بِمَا لَا يجب عَلَيْهِم، فَكَأَنَّهُ ينتصف وَلَا ينصف، وَهَذَا من أسمج الْخلال،.

     وَقَالَ  إِسْحَاق بن مَنْصُور: قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل: مَا معنى منع وهات؟ قَالَ: أَن تمنع مَا عنْدك فَلَا تَتَصَدَّق وَلَا تُعْطِي فتمد يدك فتأخذ من النَّاس.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَضبط منع، بِغَيْر ألف، وَصَوَابه: منعا، بِالْألف لِأَنَّهُ مفعول حرم.
قلت: صرح الْكرْمَانِي بقوله: منعا بِالْألف حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: كَيفَ صَحَّ عطفه أَي: عطف هَات على منعا ثمَّ أجَاب بقوله: تَقْدِيره هَات وهات، إِذْ هُوَ بِاعْتِبَار لَازم مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْأَخْذ.
انْتهى.
قلت: لِأَن معنى هَات أَعْطِنِي، وَمن لَازم الْعَطاء الْأَخْذ، تَقول: هَات يَا رجل، بِكَسْر التَّاء، وللإثنين: هاتيا، مثل إيتيا، وللجمع: هاتوا، وللمرأة: هَاتِي، بِالْيَاءِ، وللمرأتين: هاتيا وللنساء: هَاتين، مثل: عاطين.
قَوْله: قيل:.

     وَقَالَ : إِمَّا فعلان، وَإِمَّا مصدران، فَإِذا كَانَا فعلين يكون: قيل، مَجْهُول.
قَالَ الَّذِي هُوَ ماضٍ، وَالْمعْنَى على هَذَا نهي عَن فضول مَا يتحدث بِهِ المجالسون من قَوْلهم، قيل: كَذَا.

     وَقَالَ : كَذَا، وبناؤهما على كَونهمَا فعلين محكيين متضمنين للضمير، وَالْإِعْرَاب على إجرائهما مجْرى الْأَسْمَاء خلوين من الضَّمِير.
وَمِنْه قَوْلهم: الدُّنْيَا قَالَ وَقيل، وَإِدْخَال حرف التَّعْرِيف عَلَيْهِمَا لذَلِك فِي قَوْلهم: لَا تعرف القال من القيل، وَإِذا كَانَا مصدرين يكون مَعْنَاهُ: نهى عَن قيل وَقَول، يُقَال: قلت قولا وَقَالا وقيلاً.
وأصل: قَالَا: قولا قلبت الْوَاو ألفا لتحركها، وانفتاح مَا قبلهَا وأصل: قيلاً قولا قلبت الْوَاو يَاء لكسرة مَا قبلهَا، وَقيل: هَذَا النَّهْي إِنَّمَا يَصح فِي قَول لَا يَصح وَلَا يعلم حَقِيقَته، فَأَما من حكى مَا صَحَّ وَيعرف حَقِيقَته وأسنده إِلَى ثِقَة صَادِق فَلَا وَجه للنَّهْي عَنهُ، وَلَا ذمّ، وَقيل: هَذَا الْكَلَام يتَضَمَّن بِعُمُومِهِ النميمة والغيبة فَإِن تَبْلِيغ الْكَلَام من أقبح الْخِصَال والإصغاء إِلَيْهِ أقبح وأفحش.
قَوْله: ( وَكَثْرَة السُّؤَال) فِيهِ وُجُوه: أَحدهَا: السُّؤَال عَن أُمُور النَّاس وَكَثْرَة الْبَحْث عَنْهَا.
وَالثَّانِي: مَسْأَلَة النَّاس من أَمْوَالهم.
.

     وَقَالَ  التوربشتي: وَلَا أَدْرِي حمله على هَذَا، فَإِن ذَلِك مَكْرُوه وَإِن لم يبلغ حد الْكَثْرَة.
وَالثَّالِث: كَثْرَة السُّؤَال فِي الْعلم للإمتحان وَإِظْهَار المراء.
وَالرَّابِع: كَثْرَة سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَعَالَى: { لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} ( الْمَائِدَة: 101) .
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: ( وَكَثْرَة السُّؤَال) إِمَّا فِي العلميات وَإِمَّا فِي الْأَمْوَال.
قَوْله: ( وإضاعة المَال) ، قد مر تَفْسِيره فِي أول الْبابُُ،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: التَّقْسِيم الحاصر فِيهِ الْحَاوِي لجَمِيع الْأَقْسَام أَن تَقول: إِن الَّذِي يصرف إِلَيْهِ المَال إِمَّا أَن يكون وَاجِبا كَالنَّفَقَةِ وَالزَّكَاة وَنَحْوهَا، وَهَذَا لَا ضيَاع فِيهِ، وَهَكَذَا إِن كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَن يكون حَرَامًا أَو مَكْرُوها، وَهَذَا قَلِيله وَكَثِيره إِضَاعَة وسرف، وَإِمَّا أَن يكون مُبَاحا، وَلَا إِشْكَال إلاَّ فِي هَذَا الْقسم، إِذْ كثير من الْأَمْوَال يعده بعض النَّاس من الْمُبَاحَات، وَعند التَّحْقِيق لَيْسَ كَذَلِك، كتشييد الْأَبْنِيَة وتزيينها والإسراف فِي النَّفَقَة والتوسع فِي لبس الثِّيَاب والأطعمة الشهية اللذيذة، وَأَنت تعلم أَن الْقَسْوَة وغلظة الطَّبْع تتولد من لبس الرقَاق وَأكل الشهيات، وَيدخل فِيهِ تمويه الْأَوَانِي والسقوف بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَسُوء الْقيام على مَا يملكهُ من الرَّقِيق وَالدَّوَاب حَتَّى يضيع فَيهْلك، وَقِسْمَة مَا لَا ينْتَفع الشَّرِيك بِهِ: كَاللُّؤْلُؤِ وَالسيف يكسران، وَكَذَا احْتِمَال الْغبن الْفَاحِش فِي الْبياعَات، وإيتاء المَال صَاحبه وَهُوَ سَفِيه حقيق بِالْحجرِ.