فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها

( بابٌُ إذَا لَمْ يُوجَدْ صاحِبُ اللقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهْيَ لِمَنْ وَجَدَهَا)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا لم يُوجد صَاحب اللّقطَة بعد التَّعْرِيف بِسنة فَهِيَ، أَي: اللّقطَة، لمن وجدهَا، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الْوَاجِد الْغَنِيّ وَالْفَقِير، وَهَذَا خلاف مَذْهَب الْجُمْهُور، فَإِن عِنْدهم: إِذا كَانَت الْعين مَوْجُودَة يجب الرَّد، وَإِن كَانَت استهلكت يجب الْبَدَل، وَلم يخالفهم فِي ذَلِك إلاَّ الْكَرَابِيسِي من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ: وَوَافَقَهُمَا البُخَارِيّ فِي ذَلِك، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الْبابُُ: فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فشأنك بهَا، وَهَذَا تَفْوِيض إِلَى اخْتِيَاره.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي حَدِيث زيد بن خَالِد عَن الدَّرَاورْدِي عَن ربيعَة بِلَفْظ: وإلاَّ فتصنع بهَا مَا تصنع بِمَالك، وَمن حجَّة الْجُمْهُور، قَوْله فِي حَدِيث الْبابُُ السَّابِق: وَكَانَت وَدِيعَة عِنْده، وَقَوله فِي رِوَايَة بشر بن سعيد بن زيد بن خَالِد: فاعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ كُلها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فأدها إِلَيْهِ فَإِن ظَاهر قَوْله: فَإِن جَاءَ صَاحبهَا ... إِلَى آخِره، بعد قَوْله: كلهَا، يَقْتَضِي وجوب ردهَا بعد أكلهَا، فَيحمل على رد الْبَدَل،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: إِذا جَاءَ صَاحب اللّقطَة بعد الحَول لزم ملتقطها أَن يردهَا إِلَيْهِ، وعَلى هَذَا إِجْمَاع أَئِمَّة الْفَتْوَى، وَزعم بعض من نسب نَفسه إِلَى الْعلم: أَنَّهَا لَا تُؤَدّى إِلَيْهِ بعد الْحول، اسْتِدْلَالا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( فشأنك بهَا) .
قَالَ: فَهَذَا يدل على ملكهَا، قَالَ: وَهَذَا القَوْل يُؤَدِّي إِلَى تنَاقض السّنَن، إِذْ قَالَ: فأدها إِلَيْهِ قلت: قَوْله فأدها إِلَيْهِ دَلِيل على أَنه إِذا استنفقها أَو تلفت عِنْده بعد التَّمَلُّك أَنه يضمنهَا لصَاحِبهَا إِذا جَاءَ، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله فِي رِوَايَة بشر بن سعيد عَن زيد: ثمَّ كلهَا، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فأدها ... أمره بأدائها بعد الْهَلَاك إِذا كَانَ قد يملكهَا أما إِذا أتلفت عِنْده بِغَيْر تَفْرِيط مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يضمنهَا لصَاحِبهَا إِذا جَاءَ، لِأَن يَده عَلَيْهَا يَد أَمَانَة فَصَارَت كَالْوَدِيعَةِ.



[ قــ :2326 ... غــ :2429 ]
- حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ يَزِيدَ مَوْلاى الْمُنْبَعِثِ عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ رَجُلٌ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألَهُ عنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ عِفَاصَها ووِكاءَها ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فإنْ جاءَ صاحِبُها وإلاَّ فَشأْنُكَ بِها قَالَ فَضالَّةُ الغَنَمِ قَالَ هِيَ لَكَ أوْ لِأَخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ قَالَ فَضالَّةُ الإبلِ قَالَ مالَكَ ولَهَا مَعَها سِقَاؤُها وحِذَاؤُها تَردُ الْمَاءَ وتَأْكُلُ الشَّجَرَ حتَّى يَلْقَاها ربُّهَا.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فشأنك بهَا) بِنصب النُّون، أَي: إلزم شَأْنك ملتبساً بهَا،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: قيل: إِنَّه مَنْصُوب على الْمصدر، يُقَال: شأنت شَأْنه مَعهَا ... الخ أَي: قصدت قَصده، وأشأن شَأْنك أَي: إعمل مَا تُحسنهُ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قَوْله: ( فشأنك) بِالنّصب وبالرفع، فَقَالَ فِي النصب: أَي: إلزم شَأْنك، وَلم يبين الرّفْع، وَوَجهه أَن يكون مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: فشأنك مُبَاح أَو جَائِز أَو نَحْو ذَلِك، والشأن: الْخطب وَالْأَمر وَالْحَال.
قَوْله: ( مَالك وَلها؟) أَي: مَالك وَأَخذهَا وَالْحَال أَنَّهَا مُسْتَقلَّة بِأَسْبابُُ تعيشها، فَيكون قَوْله: ( مَعهَا سقاؤها) ، على تَقْدِير الْحَال، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت.


( بابٌُ إذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي الْبَحْرِ أوْ سَوْطاً أوْ نَحْوَهُ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا وجد شخص خَشَبَة فِي الْبَحْر أَو وجد سَوْطًا فِي مَوضِع أَو وجد شَيْئا وَنَحْو ذَلِك مثل عَصا وحبل وَمَا أشبههما، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: مَاذَا يصنع بِهِ؟ هَل يَأْخُذهُ أَو يتْركهُ؟ فَإِذا أَخذه هَل يَتَمَلَّكهُ أَو سَبيله سَبِيل اللّقطَة؟ فَفِيهِ اخْتِلَاف الْعلمَاء.
فروى ابْن عبد الحكم عَن مَالك: إِذا ألْقى الْبَحْر خَشَبَة فَتَركهَا أفضل،.

     وَقَالَ  ابْن شعْبَان: فِيهَا قَول آخر: إِن وجدهَا يَأْخُذهَا، فَإِن جَاءَ رَبهَا غرم لَهُ قيمتهَا.
ورخصت طَائِفَة فِي أَخذ اللّقطَة الْيَسِيرَة وَالِانْتِفَاع بهَا وَترك تَعْرِيفهَا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ عمر وَعلي وَابْن عمر وَعَائِشَة، وَهُوَ قَول عَطاء وَالنَّخَعِيّ وطاووس،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: روينَا عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي اللّقطَة: لَا بَأْس بِمَا دون الدِّرْهَم أَن يسْتَمْتع بِهِ.
وَعَن جَابر كَانُوا يرخصون فِي السَّوْط وَالْحَبل وَنَحْوه أَن ينْتَفع بِهِ.
.

     وَقَالَ  عَطاء: لَا بَأْس للْمُسَافِر إِذا وجد السَّوْط والسقاء والنعلين أَن ينْتَفع بهَا، اسْتدلَّ من يُبِيح ذَلِك بِحَدِيث الْخَشَبَة، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخبر أَنه أَخذهَا حطباً لأَهله وَلم يَأْخُذهَا ليعرفها، وَلم يقل أَنه فعل مَا لَا يَنْبَغِي.

وَفِي ( الْهِدَايَة) : وَإِن كَانَت اللّقطَة مِمَّا يعلم أَن صَاحبهَا لَا يتطلبها: كالنواة وقشور الرُّمَّان فإلقاؤه إِبَاحَة أَخذه فَيجوز الِانْتِفَاع بِهِ من غير تَعْرِيف، وَلكنه يبْقى على ملك مَالِكه، لِأَن التَّمْلِيك من الْمَجْهُول لَا يَصح،.

     وَقَالَ  ابْن رشد الأَصْل فِي ذَلِك مَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بتمرة فِي الطَّرِيق، ( فَقَالَ: لَوْلَا أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها) ، وَلم يذكر فِيهَا تعريفاً، وَهَذَا مثل الْعَصَا وَالسَّوْط، وَإِن كَانَ أَشهب قد اسْتحْسنَ تَعْرِيف ذَلِك، فَإِن كَانَ يَسِيرا، إلاَّ أَن لَهُ قدرا وَمَنْفَعَة فَلَا خلاف فِي تَعْرِيفه سنة، وَقيل: أَيَّامًا وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يبقي فِي يَد ملتقطه ويخشى عَلَيْهِ التّلف، فَإِن هَذَا يَأْكُلهُ الْمُلْتَقط فَقِيرا كَانَ أَو غَنِيا، وَهل يضمن؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَشْهر أَن لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ مِمَّا يسْرع إِلَيْهِ الْفساد فِي الْحَاضِرَة، فَقيل: لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَقيل: عَلَيْهِ الضَّمَان، وَقيل: بِالْفرقِ أَن يتَصَدَّق بِهِ أَو يَأْكُلهُ، أَعنِي: إِنَّه يضمن فِي الْأكل وَلَا يضمن فِي الصَّدَقَة، وَفِي ( الْوَاقِعَات) : الْمُخْتَار فِي القشود والنواة يملكهَا، وَفِي الصَّيْد لَا يملكهُ، وَإِن جمع سنبلاً بعد الْحَصاد فَهُوَ لَهُ لإِجْمَاع النَّاس على ذَلِك، وَإِن سلخ شَاة ميتَة فَهُوَ لَهُ ولصاحبها أَن يَأْخُذهَا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الحكم فِي صوفها.



[ قــ :36 ... غــ :430 ]
- وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ هُرْمُزَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وساقَ الْحَدِيثَ فَخَرَجَ يَنْطُر لعَلَّ مَرْكباً قَدْ جاءَ بِمَالِه فإذَا هُوَ بالْخَشَبَةِ فأخَذَها لَأَهْلِهِ حَطَباً فلَمَّا نَشرَهَا وجَدَ الْمَالَ والصَّحِيفَةَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَإِذا هُوَ بالخشبة فَأَخذهَا) ، وَقيل: لَيْسَ فِي الْبابُُ ذكر السَّوْط.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ استنبطه بطرِيق الْإِلْحَاق.
وَقيل: كَأَنَّهُ فَاتَهُ عَنهُ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَشَارَ بِالسَّوْطِ إِلَى أثر يَأْتِي بعد أَبْوَاب فِي حَدِيث أبي بن كَعْب، أَو أَشَارَ إِلَى مَا أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر، قَالَ: رخص لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْط وَالْحَبل، وأشباهه، يلتقطه الرجل ينْتَفع بِهِ.
انْتهى.
قلت: لَو أَشَارَ بِالسَّوْطِ إِلَى أثر يَأْتِي ... إِلَى آخِره، على مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل، كَانَ الأصوب أَن يذكر السَّوْط هُنَاكَ، وَذكره هُنَا وإشارته إِلَى هُنَاكَ فِيهِ مَا فِيهِ، وَقَوله: أَو أَشَارَ إِلَى مَا أخرجه أَبُو دَاوُد ... إِلَى آخِره، لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ كثيرا مَا يذكر تَرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ أَو أَكثر، وَلَا يذكر لبعضها حَدِيثا أَو أثرا، فيجاب عَنهُ بِأَنَّهُ ذكره على أَن يجد شَيْئا صَحِيحا فيذكره، وَلَكِن لم يجده فَسكت عَنهُ، وَهَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد ضَعِيف، وَاخْتلف فِي رَفعه وَوَقفه، فَكيف يرضى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ؟ وَقد مضى الحَدِيث بِتَمَامِهِ فِي الْكفَالَة، وَقد ذكره هُنَا أَيْضا تَعْلِيقا عَن اللَّيْث، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: ( وجد المَال) أَي: الَّذِي بَعثه الْمُسْتَقْرض إِلَيْهِ، والصحيفة الَّتِي كتبهَا الْمُسْتَقْرض إِلَيْهِ يذكر فِيهَا بعث مَال الْقَرَاض.