فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى لا يأخذها من لا يستحق

( بابٌُ هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلَا يَدَعُهَا تَضِيعُ حتَّى لَا يأخُذُها مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: هَل يَأْخُذ الْمُلْتَقط اللّقطَة وَلَا يَدعهَا حَال كَونهَا تضيع بِتَرْكِهِ إِيَّاهَا؟ قَوْله: ( حَتَّى لَا يَأْخُذهَا) ، كَذَا هُوَ بِحرف: لَا، بعد: حَتَّى، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: حَتَّى يَأْخُذهَا، بِدُونِ حرف: لَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وأظن الْوَاو سَقَطت من قبل: حَتَّى، وَالْمعْنَى: لَا يَدعهَا تضيع وَلَا يَدعهَا يَأْخُذهَا من لَا يسْتَحق.
قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الظَّن، وَلَا إِلَى تَقْدِير الْوَاو، لِأَن الْمَعْنى صَحِيح وَالتَّقْدِير لَا يَتْرُكهَا ضائعة، يَنْتَهِي إِلَى أَخذهَا من لَا يسْتَحق، وَكلمَة: هَل، هُنَا لَيست على معنى الِاسْتِفْهَام، بل هِيَ بِمَعْنى: قد، للتحقيق، وَالْمعْنَى: بابُُ يذكر فِيهِ قد يَأْخُذ اللّقطَة ... إِلَى آخِره، وَلِهَذَا لَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب.
وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من كره أَخذ اللّقطَة.
روى ذَلِك عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنه كره أَخذهَا، والآبق فَإِن أَخذ ذَلِك وضاعت وأبق من غير تضييعه لم يضمن، وَكره أَحْمد أَخذهَا أَيْضا، وَمن حجتهم فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن أبي الْعَلَاء يزِيد بن عبد الله بن الشخير عَن أبي مُسلم الجذمي عَن الْجَارُود، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار) .
وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن أبي دَاوُد عَن الْمثنى بن سعيد عَن قَتَادَة عَن يزِيد بن عبد الله عَن أبي مُسلم الجذمي عَن الْجَارُود نَحوه.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا.
قلت: سُلَيْمَان بن حَرْب شيخ البُخَارِيّ وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
وَأَبُو مُسلم الجذمي، بِفَتْح الْجِيم والذال الْمُعْجَمَة: نِسْبَة إِلَى جذيمة عبد الْقَيْس، لَا يعرف اسْمه، والجارود هُوَ ابْن الْمُعَلَّى الْعَبْدي، واسْمه: بشر، والجارود: لقب بِهِ لِأَنَّهُ أغار فِي الْجَاهِلِيَّة على بكر بن وَائِل فَأَصَابَهُمْ وجردهم، وَفد على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة عشر فِي وَفد عبد الْقَيْس، فَأسلم وَكَانَ نَصْرَانِيّا، ففرح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْلَامِهِ وأكرمه وقربه.
والضالة: هِيَ الضائعة من كل مَا يقتنى من الْحَيَوَان وَغَيره، يُقَال: ضل الصَّبِي، إِذا ضَاعَ، وضل عَن الطَّرِيق إِذا حَار وَقد: مر الْكَلَام فِيهِ مرّة.
قَوْله: ( حرق النَّار) ، بِفتْحَتَيْنِ وَقد تسكن الرَّاء، وَحرق النَّار لهيبها، وَالْمعْنَى: أَن ضَالَّة الْمُسلم إِذا أَخذهَا إِنْسَان ليتملكها إدته إِلَى النَّار، وَهَذَا تَشْبِيه بليغ.
وحرف التَّشْبِيه مَحْذُوف لأجل الْمُبَالغَة، وَهُوَ من تَشْبِيه المحسوس بالمحسوس.
.

     وَقَالَ  الْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَأحمد فِي رِوَايَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا يحرم أَخذ الضوال، وَعَن الشَّافِعِي فِي قَول وَأحمد فِي رِوَايَة: ندب تَركهَا، وَعَن الشَّافِعِي فِي قَول: يجب رَفعهَا،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: كلا الْأَمريْنِ، مُبَاح، وَالْأَفْضَل أَخذهَا.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي مرّة: أَخذهَا أفضل، وَمرَّة قَالَ: الْوَرع تَركهَا.
وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن الحَدِيث الْمَذْكُور أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَخذهَا لغير التَّعْرِيف، وَقد بَين ذَلِك مَا رُوِيَ عَن الْجَارُود أَيْضا أَنه قَالَ: قد كُنَّا أَتَيْنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن على إبل عجاف، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله إِنَّا قد نمر بالحرف فنجد إبِلا فنركبها؟ فَقَالَ: إِن ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار، وَكَانَ سُؤَالهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَخذهَا لِأَن يركبوها، لَا لِأَن يعرفوها، فأجابهم: بِأَن قَالَ: ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار، أَي: إِن ضَالَّة الْمُسلم حكمهَا أَن تحفظ على صَاحبهَا حَتَّى تُؤَدّى إِلَى صَاحبهَا، لَا لِأَن ينْتَفع بهَا لركوب، وَلَا لغير ذَلِك، فَبَان بذلك معنى الحَدِيث.

[ قــ :2332 ... غــ :2437 ]
- حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَلَمةَ بنِ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ سُوَيْدَ بنَ غَفَلَةَ قَالَ كُنْتُ معَ سَلْمانَ بنِ رَبِيعَةَ وزيْدِ بنِ صُوحَانَ فَي غَزاةٍ فوَجَدْتُ سَوْطاً فَقَالَ لي ألْقِهِ قلتُ لَا ولاكِنْ إنْ وجَدْتُ صاحِبَهُ وإلاَّ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ فلَمَّا رَجَعْنا حَجَجْنا فمَرَرْتُ بالْمَدِينَةِ فسألْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقَالَ وجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيها مِائَةُ دِينارٍ فأَتَيْتُ بِها النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلاً فعَرَّفْتُها حَوْلاً ثُمَّ أتَيْتُ فَقَالَ عرِّفْها حَوْلاً فعرَّفْتُها حَوْلاً ثُمَّ أتَيْتُهُ قَالَ عَرِّفْهَا حَوْلاً فعرَّفْتُها حَوْلاً ثُمَّ أتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَها وَوِعَاءَها فإنْ جاءَ صاحِبُها وإلاَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِيَّاه بالتعريف، يدل على أَن أَخذ اللّقطَة مَشْرُوع لِئَلَّا تضيع إِذا تَركهَا وَتَقَع فِي يَد غير مستحقها.
والْحَدِيث مضى فِي أول كتاب اللّقطَة، وَلكنه أخرجه هَهُنَا من طَرِيق آخر مَعَ زِيَادَة فِيهِ.

وَرِجَاله قد ذكرُوا مَعَ تَرْجَمَة سُوَيْد بن غَفلَة هُنَاكَ، وسلمان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ، يُقَال: لَهُ صُحْبَة، وَيُقَال لَهُ: سلمَان الْخَيل، لخبرته بهَا، وَكَانَ أَمِيرا على بعض الْمَغَازِي فِي فتوح الْعرَاق سنة ثَلَاثِينَ، فِي عهد عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ أول من تولى قَضَاء الْكُوفَة، وَاسْتشْهدَ فِي خِلَافَته فِي فتوح الْعرَاق، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وَزيد بن صوحان، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا حاء مُهْملَة وَبعد الْألف نون: الْعَبْدي، تَابِعِيّ كَبِير مخضرم أَيْضا، وَزعم ابْن الْكَلْبِيّ: أَن لَهُ صُحْبَة.
وروى أَبُو يعلى من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: من سره أَن ينظر إِلَى من سبقه بعض أَعْضَائِهِ إِلَى الْجنَّة فَلْينْظر إِلَى زيد بن صوحان، وَكَانَ قدوم زيد فِي عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَشهد الْفتُوح، وروى ابْن مَنْدَه من حَدِيث بُرَيْدَة، قَالَ: سَاق النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة فَقَالَ زيد: زيد الْخَيْر: فَسئلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ رجل سبقه يَده إِلَى الْجنَّة فَقطعت يَد زيد بن صوحان فِي بعض الْفتُوح، وَقتل مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم الْجمل.

قَوْله: ( فِي غزَاة) ، زَاد أَحْمد من طَرِيق سُفْيَان عَن سَلمَة: حَتَّى إِذا كُنَّا بالعذيب، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الدَّال الْمُعْجَمَة: وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة مصغر عذب: وَهُوَ مَوضِع، قَالَه بعض الشُّرَّاح وَسكت.
قلت: عذيب وادٍ بِظَاهِر الْكُوفَة،.

     وَقَالَ  إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد فِي ( شَرحه لشعر أبي الطّيب) عِنْد قَوْله:
( تذكرت مَا بَين العذيب وبارق)

العذيب: مَاء لبني تَمِيم، وَكَذَلِكَ: بارق.
قَالَ الرشاطي والبكري: ديار بني تَمِيم بِالْيَمَامَةِ، وعذيبة تَأْنِيث الَّذِي قبله مَوضِع فِي طَرِيق مَكَّة بَين الْجَار وينبع.
قَوْله: ( ألقه) ، أَمر من الْإِلْقَاء، وَهُوَ الرَّمْي.
قَوْله: ( قلت: لَا) ، أَي: لَا ألقيه.
قَوْله: ( الرَّابِعَة) ، هِيَ رَابِعَة بِاعْتِبَار مَجِيئه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وثالثة بِاعْتِبَار التَّعْرِيف،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: تقدم أول اللّقطَة أَنَّهَا الثَّالِثَة؟ قلت: التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يدل على نفي الزَّائِد.
انْتهى.
والأصوب مَا قُلْنَاهُ.
قَوْله: ( عدتهَا) ، أَي: عَددهَا.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هَذَا يدل على تَأْخِير الْمعرفَة عَن التَّعْرِيف، يَعْنِي.
قَوْله: ( أعرف عدتهَا) ، وَالرِّوَايَات السَّابِقَة بِالْعَكْسِ.
قلت: مضى الْجَواب عَن هَذَا عَن قريب، وَهُوَ أَنه مَأْمُور بمعرفتين، يعرف أَولا ليعلم صدق وصفهَا، وَيعرف ثَانِيًا معرفَة زَائِدَة على الأولى، من قدرهَا وجودتها على سَبِيل التَّحْقِيق، ليردها على صَاحبهَا بِلَا تفَاوت.

حدَّثنا عبْدَانُ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ عنْ سلَمَةَ بِهاذَا قَالَ فَلَقَيْته بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ لاَ أدْرِي أثَلاثَةَ أحْوَالٍ أوْ حَوْلاً واحِداً
عَبْدَانِ: اسْمه عبد الله، وعبدان لقب عَلَيْهِ، وَأَبُو عُثْمَان بن جبلة، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة المفتوحتين: الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وَسَلَمَة هُوَ ابْن كهيل.

قَوْله: ( بِهَذَا) ، أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.
قَوْله: ( قَالَ: فَلَقِيته) ، أَي: قَالَ سُوَيْد بن غَفلَة: فَلَقِيت أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ( بِمَكَّة فَقَالَ لَا أَدْرِي) أَي: لَا أعلم ... إِلَى آخِره، وَرَوَاهُ مُسلم، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة.
وحَدثني أَبُو بكر بن نَافِع، وَاللَّفْظ لَهُ، حَدثنَا غنْدر حَدثنَا شُعْبَة عَن سَلمَة بن كهيل، قَالَ: سَمِعت سُوَيْد بن غَفلَة، قَالَ: خرجت أَنا وَزيد بن صوحان وسلمان بن ربيعَة غازين، فَوجدت سَوْطًا فَأَخَذته، فَقَالَا لي: دَعه، فَقلت: لَا، وَلَكِنِّي أعرف بِهِ، فَإِن جَاءَ صَاحبه وإلاَّ استمتعت بِهِ.
قَالَ: فأبيت عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَجعْنَا من غزاتنا قضي لي أَنِّي حججْت، فَأتيت الْمَدِينَة، فَلَقِيت أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأَخْبَرته بشأن السَّوْط، وبقولهما، فَقَالَ: إِنِّي وجدت صرة فِيهَا مائَة دِينَار على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأتيت بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: عرفهَا حولا، قَالَ: فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته.
فَقَالَ: عرفهَا حولا فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته.
فَقَالَ: عرفهَا حولا، فَلم أجد من يعرفهَا، فَقَالَ: إحفظ عَددهَا ووعاءها ووكاءها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فاستمتع بهَا، فاستمتعت بهَا، فَلَقِيته بعد ذَلِك بِمَكَّة، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، بِثَلَاثَة أَحْوَال أَو حول وَاحِد.
انْتهى.
وَإِنَّمَا سقت حَدِيث مُسلم هَذَا بِطُولِهِ لِأَنَّهُ كالشرح لرِوَايَة البُخَارِيّ هَذِه.
<