فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب صب الخمر في الطريق

(بابُُ صَبِّ الْخَمْرِ فِي الطَّرِيقِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان صب الْخمر فِي طَرِيق النَّاس، هَل يَنْبَغِي ذَلِك أم لَا؟ فَقيل: لَا يمْنَع من ذَلِك، لِأَنَّهُ للإعلان برفضها، وليشتهر تَركهَا، وَذَلِكَ أَنه أرجح فِي الْمصلحَة من التأذي بصبها فِي الطَّرِيق، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُهلب، وَقيل: يمْنَع من ذَلِك، فَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا الَّذِي فِي الحَدِيث كَانَ فِي أول الْإِسْلَام قبل أَن ترَتّب الْأَشْيَاء وتنظف، فَأَما الْآن فَلَا يَنْبَغِي صب النَّجَاسَات فِي الطّرق خوفًا أَن يُؤْذِي الْمُسلمين، وَقد منع سَحْنُون أَن يصب المَاء من بِئْر وَقعت فِيهِ فَأْرَة فِي الطَّرِيق.
قَوْله: (فِي الطَّرِيق) ، ويروى: فِي الطّرق.



[ قــ :2359 ... غــ :2464 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيى قَالَ أخبرنَا عَفَّانُ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا ثابِتٌ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كنتُ ساقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أبِي طَلْحَةَ وكانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فأمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُنادِياً يُنادي ألاَ إنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ فقالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فأهْرِقْها فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُها فجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وهْيَ فِي بُطُونِهِمْ فأنْزَلَ الله { لَيْسَ علَى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا} (الْمَائِدَة: 39) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَهَرَقْتهَا فجرت فِي سِكَك الْمَدِينَة) ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم أَبُو يحيى هُوَ الْمَعْرُوف بصاعقة، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعَفَّان هُوَ ابْن مُسلم الصفار، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز بِدُونِ الْوَاسِطَة.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَنهُ بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَنهُ نَحوه.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كنت ساقي الْقَوْم فِي منزل أبي طَلْحَة) ، وَأَبُو طَلْحَة زوج أم أنس، واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة وبدراً وأحداً وَسَائِر الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء، وعاش بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ سنة، وَمَات بِالشَّام، قَالَه أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي.
وَعَن أنس: أَنه غزا الْبَحْر فَمَاتَ فِيهِ، فَمَا وجدوا جَزِيرَة فدفنوه فِيهَا إِلَّا بعد سَبْعَة أَيَّام، وَلم يتَغَيَّر، وَفِي الْقَوْم كَانَ أَبُو عُبَيْدَة وَأبي بن كَعْب، على مَا يَأْتِي فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: إِنِّي لقائم أسقيها أَبَا طَلْحَة، وَأَبا أَيُّوب ورجالاً من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: إِنِّي لقائم على الْحَيّ على عمومتي أسقيهم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: كنت أَسْقِي أَبَا طَلْحَة وَأَبا دُجَانَة ومعاذ بن جبل فِي رَهْط من الْأَنْصَار، وَفِي رِوَايَة لَهُ: إِنِّي لأسقي أَبَا طَلْحَة وَأَبا دُجَانَة وَسُهيْل بن بَيْضَاء من مزادة.
قَوْله: (وَكَانَ خمرهم يَوْمئِذٍ الفضيخ) ، أصل الْخمر من المخامرة، وَهِي المخالطة، سميت بهَا لمخالطتها الْعقل، وَمن التخمير وَهُوَ التغطية، سميت بهَا لتغطيتها الْعقل، يذكر وَيُؤَنث، وَجزم ابْن التِّين بالتأنيث،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: هِيَ مَا أسكر من عصير الْعِنَب، والأعرف فِيهَا التَّأْنِيث، وَقد يذكر، وَالْجمع: خمور.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمسيب، فِيمَا حكا النّحاس فِي (ناسخه) سميت بذلك لِأَنَّهَا صعد صفوها ورسب كدرها،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي: لِأَنَّهَا تركت فَاخْتَمَرت، واختمارها تغير رِيحهَا، وَجعلهَا أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي من الْحُبُوب، وَأَظنهُ تسمحاً مِنْهُ، لِأَن حَقِيقَة الْخمر إِنَّمَا هِيَ للعنب دون سَائِر الْأَشْيَاء، وَعند أبي حنيفَة الإِمَام: الْخمر هِيَ النيء من مَاء الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ، وَلها عدَّة أَسمَاء نَحْو الْمِائَتَيْنِ، ذَكرنَاهَا فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) والفضيخ، بفاء مَفْتُوحَة وضاد وخاء معجمتين: شراب يتَّخذ من الْبُسْر من غير أَن تمسه النَّار،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: هُوَ شراب يتَّخذ من الْبُسْر المفضوخ، يَعْنِي: المشدوخ.
وَفِي (مجمع الغرائب) : ويروى عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: لَيْسَ بالفضيخ، وَلكنه الفضوخ.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة عَن الْأَعْرَاب: هُوَ مَا اعتصر من الْعِنَب اعتصاراً، فَهُوَ الفضيخ، وَكَذَلِكَ فضيخ الْبُسْر.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: يهشم الْبُسْر وَيجْعَل مَعَه المَاء،.

     وَقَالَ هُ اللَّيْث أَيْضا.
قَوْله: (فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منادياً يُنَادي) ، وَفِي رِوَايَة: فَأَتَاهُم آتٍ، يَعْنِي: أَن الْآتِي أخْبرهُم بالنداء، والنداء عَن الْأَمر يتنزل فِي الْعَمَل بِهِ منزلَة سَماع.
قَوْله: (فَأَهْرقهَا) الْهَاء فِيهِ زَائِدَة وَأَصله: أراقها من الإراقة، وَهِي الإسالة والصب، وَيُقَال: أراق وهراق.
قَوْله: (فِي سِكَك الْمَدِينَة) أَي: فِي طرقها، جمع: سكَّة بِالْكَسْرِ.
قَوْله: (فَأنْزل الله تَعَالَى { لَيْسَ على الَّذين آمنُوا ... } (الْمَائِدَة: 39) .
الْآيَة.
.

     وَقَالَ  الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا الْأسود بن عَامر أَنبأَنَا إِسْرَائِيل عَن سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما حرمت الْخمر قَالَ أنَاس: يَا رَسُول الله { أَصْحَابنَا الَّذين مَاتُوا وهم يشربونها؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: { لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} (الْمَائِدَة: 39) .
قَالَ: وَلما حولت الْقبْلَة، قَالَ أنَاس: يَا رَسُول الله}
أَصْحَابنَا الَّذين مَاتُوا وهم يصلونَ إِلَى بَيت الْمُقَدّس؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: { وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} (الْبَقَرَة: 341) .
.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء بن عَازِب، قَالَ: لما نزل تَحْرِيم الْخمر، قَالُوا: كَيفَ بِمن كَانَ يشْربهَا قبل أَن تحرم؟ فَنزلت { لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا ... } (الْمَائِدَة: 39) .
الْآيَة، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة نَحوه،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: تَحْرِيم الْخمر، وَذكر ابْن سعد وَغَيره أَن تَحْرِيم الْخمر كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة بعد غَزْوَة أحد.
وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد.
وَفِيه: حُرْمَة إِِمْسَاكهَا، وَنقل النَّوَوِيّ اتِّفَاق الْجُمْهُور عَلَيْهِ.
وَفِيه: قَول من قَالَ: قتل قوم وَهِي فِي بطونهم، صدر عَن غَلَبَة خوف وشفقة، أَو عَن غَفلَة عَن الْمَعْنى، لِأَن الْخمر كَانَت مُبَاحَة أَولا، وَمن فعل مَا أُبِيح لَهُ لم يكن لَهُ وَلَا عَلَيْهِ شَيْء، لِأَن الْمُبَاح مستوى الطَّرفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْع.
وَفِيه: فجرت فِي سِكَك الْمَدِينَة، وَاسْتدلَّ بِهِ ابْن حزم على طَهَارَة الْخمر، لِأَن الصَّحَابَة كَانَ أَكْثَرهم يمشي حافياً، فَمَا يُصِيب قدمه لَا ينجس بِهِ.
قلت: هَذِه جَرَاءَة عَظِيمَة، لِأَن الْقُرْآن أخبر بنجاستها.