فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب النهبى بغير إذن صاحبه

( بابُُ النُّهْبَى بِغَيْرِ إذْنِ صاحِبِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم النهبى، بِضَم النُّون على وزن فعلى: من النهب، وَهُوَ أَخذ الشَّيْء من أحد عيَانًا قهرا.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: النهبى اسْم مَبْنِيّ من النهب، كالعمرى من الْعُمر.
قَوْله: ( بِغَيْر إِذن صَاحبه) ، أَي: صَاحب المنهوب بِقَرِينَة.
قَوْله: ( النهبى) ، فَلَا يكون إضماراً قبل الذّكر، وَمَفْهُوم هَذَا أَنه إِذا أذن بالنهب جَازَ.

وَقَالَ عُبَادَةُ بَايَعْنا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ لَا نَنْتَهِبَ

عبَادَة هُوَ ابْن الصَّامِت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث أخرجه فِي مَوَاضِع، مِنْهَا قد مر فِي كتاب الْإِيمَان فِي بابُُ حَدثنَا أَبُو الْيَمَان، قَالَ: حَدثنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرنَا أَبُو إِدْرِيس عَائِذ الله بن عبد الله أَن عبَادَة ابْن الصَّامِت، وَكَانَ شهد بَدْرًا ... الحَدِيث، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الانتهاب، وَإِنَّمَا ذكره فِي رِوَايَة الصنَابحِي فِي: بابُُ وُفُود الْأَنْصَار، وَلَفظه: بَايَعْنَاهُ على أَن لَا نشْرك بِاللَّه شَيْئا وَلَا نَسْرِق وَلَا نزني وَلَا نقْتل النَّفس الَّتِي حرم الله وَلَا ننتهب ... الحَدِيث، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي كتاب الْإِيمَان.



[ قــ :2369 ... غــ :2474 ]
- حدَّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَدِيُّ بنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عبْدَ الله بنَ يَزِيدَ الأنْصَارِيَّ وهْوَ جَدُّهُ أبُو أُمِّه قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ النُّهْبَى والمثْلَةِ.

( الحَدِيث 4742 طرفه فِي: 6155) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن معنى التَّرْجَمَة: بابُُ النَّهْي بِغَيْر إِذن صَاحبه لَا يجوز، لِأَن نهب مَال الْغَيْر حرَام.
قَوْله: ( عبد الله بن يزِيد) ، بِالْيَاءِ فِي أَوله من الزِّيَادَة، وَهُوَ هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده: عبد الله ابْن زيد، بِدُونِ الْيَاء فِي أَوله، وَهُوَ غير صَحِيح.
قَوْله: ( وَهُوَ) ، يَعْنِي عبد الله بن يزِيد.
قَوْله: ( جده) ، يَعْنِي: جد عدي بن ثَابت لأمه، وَاسم أمه فَاطِمَة، وتكنى أم عدي، وَعبد الله بن يزِيد بن حُصَيْن بن عَمْرو بن الْحَارِث بن خطمة واسْمه عبد الله ابْن جشم بن مَالك بن الْأَوْس الْأنْصَارِيّ، أَبُو مُوسَى الخطمي، مضى ذكره فِي الاسْتِسْقَاء، وَلَيْسَ لَهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَله فِيهِ عَن الصَّحَابَة غير هَذَا، وَقد اخْتلف فِي سَمَاعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن مُصعب بن الزبير قَالَ: لَيْسَ لَهُ صُحْبَة،.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُد: لَهُ رُؤْيَة،.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ صَغِيرا على عَهده، فَإِن صحت رِوَايَته فَذَاك، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: ( والمثلة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَيجوز فتح الْمِيم وَضم الثَّاء، وَيجمع على: مثلات، وَهِي الْعقُوبَة فِي الْأَعْضَاء: كجدع الْأنف وَالْأُذن وفقء الْعين وَنَحْوهَا،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: الانتهاب الْمحرم هُوَ مَا كَانَت الْعَرَب عَلَيْهِ من الغارات، وَعَلِيهِ وَقعت الْبيعَة فِي حَدِيث عبَادَة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: النهبة الْمُحرمَة أَن ينهب مَال الرجل بِغَيْر أُذُنه، وَهُوَ لَهُ كَارِه، وَأما الْمَكْرُوه فَهُوَ مَا أذن صَاحبه للْجَمَاعَة وأباحه لَهُم، وغرضهم تساويهم فِيهِ أَو تقاربهم، فيغلب الْقوي على الضَّعِيف.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ، مَعْلُوم أَن أَمْوَال الْمُسلمين مُحرمَة، فيؤول هَذَا فِي الْجَمَاعَة يغزون، فَإِذا غنموا انتهبوا وَأخذ كل وَاحِد مَا وَقع بِيَدِهِ مستأثراً بِهِ من غير قسْمَة، وَقد يكون ذَلِك فِي الشَّيْء تشاع الْهِبَة فِيهِ، فينتهبون على قدر قوتهم، وَكَذَلِكَ الطَّعَام يقدم إِلَيْهِم، فَلِكُل وَاحِد أَن يَأْكُل مِمَّا يَلِيهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا ينتهب وَلَا يستلب من عِنْد غَيره، وَكَذَلِكَ كره من كره أَخذ النثار فِي عُقُود الْأَمْلَاك وَنَحْوه،.

     وَقَالَ  الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة: معنى الحَدِيث النهبة الْمُحرمَة، وَهِي أَن يينتهب مَال الرجل بِغَيْر إِذْنه.

وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَا ينثر على رُؤُوس الصّبيان وَفِي الأعراس، فَتكون فِيهَا النهبة، فكرهه مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَإِنَّمَا كره لِأَنَّهُ قد يَأْخُذ مِنْهُ من لَا يحب صَاحب الشَّيْء أَخذه، وَيجب أَخذ غَيره، وَمَا حُكيَ عَن الْحسن بِأَنَّهُ كَانَ لَا يرى بَأْسا بالنهب فِي العرسات والولائم، وَكَذَلِكَ الشّعبِيّ فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَنهُ: فَلَيْسَ من النهبة الْمُحرمَة، وَكَذَا حَدِيث عبد الله بن قرط عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي الْبدن الَّتِي نحرها: ( من شَاءَ اقتطع) ، قَالَ الشَّافِعِي: صَار ملكا للْفُقَرَاء، لِأَنَّهُ خلى بَينه وَبينهمْ.
فَإِن قلت: روى عَن عون بن عمَارَة وعصمة بن سُلَيْمَان عَن لمازة بن الْمُغيرَة عَن ثَوْر بن يزِيد عَن خَالِد بن معدان عَن معَاذ ابْن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ( أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي أَمْلَاك، فَجَاءَت الْجَوَارِي مَعَهُنَّ الأطباق عَلَيْهَا اللوز وَالسكر، فَأمْسك الْقَوْم أَيْديهم، فَقَالَ: أَلا تنتهبون؟ قَالُوا: إِنَّك كنت نَهَيْتنَا عَن النهبة.
قَالَ: تِلْكَ نهبة العساكر، فَأَما العرسان فَلَا، قَالَ: فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجاذبهم ويجاذبونه)
.
قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: عون وعصمة لَا يحْتَج بحديثهما، ولمازة مَجْهُول، وَابْن معدان عَن معَاذ مُنْقَطع.
قلت: خَالِد بن معدان، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلكنه لم يسمع من معَاذ بن جبل.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: فَإِن أَخذ آخذ لَا تجرح شَهَادَته أَن كثيرا يزْعم أَن هَذَا مُبَاح، لِأَن مَالِكه إِنَّمَا طَرحه لمن يَأْخُذهُ، وَأما أَنا فأكرهه لمن أَخذه، وَكَانَ أَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ يكرههُ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَمَالك، وَذكر ابْن قدامَة أَنه يجب الْقطع على المنتهب قبل الْقِسْمَة، وَحكى عَن دَاوُد أَنه يرى الْقطع على من أَخذ مَال الْغَيْر، سَوَاء أَخذه من حرز أَو من غير حرز.



[ قــ :370 ... غــ :475 ]
- حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ أبِي بَكْرِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَزْنِي الزَّانِي حينَ يَزْنِي وهْوَ مُؤْمِنٌ ولاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وهْوَ مُؤْمِنٌ ولاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهْوَ مُؤْمِنٌ ولاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُها وهْوَ مُؤْمِنٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَلَا ينتهب نهبة) إِلَى آخِره، قيل: لَا مُطَابقَة هُنَا، لِأَن التَّرْجَمَة مُقَيّدَة بِغَيْر الْإِذْن.
والْحَدِيث مُطلق، وَأجِيب: بِأَن الحَدِيث أَيْضا مُقَيّد بِعَدَمِ الْإِذْن، وَذَلِكَ لِأَن رفع الْبَصَر إِلَيْهِ لَا يكون عَادَة إلاَّ عِنْد عدم الْإِذْن.
وَهَذَا هُوَ فَائِدَة ذكر الرّفْع، وَهَذَا الْجَواب من الْكرْمَانِي أَخذه بَعضهم وَلم ينْسبهُ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: النهب لَا يتَصَوَّر إلاَّ بِغَيْر إِذن صَاحبه، فَمَا فَائِدَة التَّقْيِيد بِهِ فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: المُرَاد الْإِذْن الإجمالي حَتَّى يخرج مِنْهُ انتهاب مشَاع الْهِبَة وَنَحْوه من الموائد.

وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحُدُود عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخِره.
وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الْملك بن شُعَيْب عَن اللَّيْث عَن أَبِيه عَن جده بِإِسْنَادِهِ نَحوه.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْأَشْرِبَة، وَفِي الرَّجْم عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث.
.
إِلَى آخِره، نَحوه، وَفِي الْبابُُ عَن أبي دَاوُد من حَدِيث ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من انتهب نهبة فَلَيْسَ منا) ، وَعند ابْن حبَان من حَدِيث الْحسن عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مثله، وَعند التِّرْمِذِيّ عَن أنس قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من انتهب نهبة فَلَيْسَ منا) ،.

     وَقَالَ : حَدِيث حسن صَحِيح، وَعند أَحْمد عَن زيد بن خَالِد، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن النهبة، وَعند ابْن حبَان عَن ثَعْلَبَة عَن الحكم، قَالَ: انتهينا غنما لِلْعَدو فنصبنا قدورنا، فَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقدور فَأمر بهَا فأكفئت، ثمَّ قَالَ: إِن النهبة لَا تحل.
وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه: أَخْبرنِي رجل من الصَّحَابَة، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غزَاة، فأصابتنا مجاعَة وأصبنا غنما فانتهبناها قبل أَن يقسم فِينَا، فَأَتَانَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متوكئاً على قَوس، فأكفأ قدورنا بقوسه،.

     وَقَالَ : لَيست النهبة بأحل من الْميتَة.
قَوْله: ( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي) أَي: لَا يَزْنِي الشَّخْص الَّذِي يَزْنِي.
قَوْله: ( حِين يَزْنِي) ، نصب على الظّرْف.
قَوْله: ( وَهُوَ مُؤمن) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، قيل: مَعْنَاهُ وَالْحَال أَنه مُسْتَكْمل شرائع الْإِيمَان.
وَقيل: يَزُول مِنْهُ الثَّنَاء بِالْإِيمَان لَا نفس الْإِيمَان، وَقيل: يَزُول إيمَانه إِذا اسْتمرّ على ذَلِك الْفِعْل، وَقيل: إِذا فعله مستحلاً يَزُول عَنهُ الْإِيمَان فيكفر،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: قَالَ البُخَارِيّ: ينْزع مِنْهُ نور الْإِيمَان.
قَوْله: ( وَلَا يشرب) ، فَاعله مَحْذُوف، قَالَ ابْن مَالك: فِيهِ حذف الْفَاعِل، أَي: لَا يشرب الشَّارِب، وَرُوِيَ: لَا يشرب الْخمر، بِكَسْر الْبَاء على معنى النَّهْي، يَعْنِي: إِذا كَانَ مُؤمنا فَلَا يفعل.
قَوْله: ( وَلَا يسرق) ، الْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي لَا يَزْنِي.
قَوْله: ( إِلَيْهِ) أَي: إِلَى المنتهب، يدل عَلَيْهِ قَوْله: وَلَا ينتهب.
قَوْله: ( فِيهَا) ، أَي: فِي النهبة.
قَوْله: ( أَبْصَارهم) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول: يرفع النَّاس.
قَوْله: ( حِين ينتهبها) ، نصب على الظّرْف، أَي: وَقت انتهابها.
قَوْله: ( وَهُوَ مُؤمن) ، جملَة حَالية.
وروى ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن أبي أوفى، يرفعهُ: وَلَا ينتهب نهبة ذَات شرف يرفع الْمُسلمُونَ إِلَيْهَا رؤوسهم وَهُوَ مُؤمن، وروى مُسلم من حَدِيث يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة، وَسَعِيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( لَا يَزْنِي الزَّانِي) الحَدِيث، وَفِيه قَالَ ابْن شهَاب: فَأَخْبرنِي عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن: أَن أَبَا بكر كَانَ يُحَدِّثهُمْ هَؤُلَاءِ عَن أبي هُرَيْرَة، ثمَّ يَقُول: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يلْحق مَعَهُنَّ: وَلَا ينتهب نهبة ذَات شرف يرفع النَّاس إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارهم حِين ينتهبها وَهُوَ مُؤمن.
ثمَّ روى من حَدِيث عقيل بن خَالِد، قَالَ: قَالَ ابْن شهَاب: وَأَخْبرنِي أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( لَا يَزْنِي الزَّانِي) وَاقْتصر الحَدِيث يذكر مَعَ ذكر النهبة، وَلم يقل: ذَات شرف، ثمَّ قَالَ:.

     وَقَالَ  ابْن هِشَام: حَدثنِي سعيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثل حَدِيث أبي بكر هَذَا إلاَّ النهبة.
قَوْله: ( وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يلْحق) ، بِضَم الْيَاء من الْإِلْحَاق.
قَوْله: ( مَعَهُنَّ) ، أَي: مَعَ قَوْله: ( لَا يَزْنِي) ، وَقَوله: ( وَلَا يشرب) ، وَقَوله: ( وَلَا يسرق) ، قَوْله: ( وَلَا ينتهب) ، فِي مَحل المفعولية لقَوْله: ( وَيلْحق) ، على سَبِيل الْحِكَايَة،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: ظَاهر هَذَا أَنه من كَلَام أبي هُرَيْرَة مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَلَكِن جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى تدل على أَنه من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجمع الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح بِمَا يؤول إِلَيْهِ ملخص كَلَامه: أَن معنى قَول أبي هُرَيْرَة: يلْحق مَعَهُنَّ وَلَا ينتهب ... إِلَى آخِره، يَعْنِي يلْحقهَا رِوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا من عِنْد نَفسه، واختصاص أبي بكر بِهَذَا لكَونه بلغه أَن غَيره لَا يَرْوِيهَا.
قَوْله: ( ذَات شرف) ، فِي الْأُصُول الْمَشْهُورَة المتداولة بالشين الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، وَمَعْنَاهُ: ذَات قدر عَظِيم، وَقيل: ذَات استشراف، ليستشرف النَّاس لَهَا ناظرين إِلَيْهَا رافعين أَبْصَارهم.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْجُوَيْنِيّ بِالسِّين الْمُهْملَة،.

     وَقَالَ  الشَّيْخ أَبُو عَمْرو: وَكَذَا قَيده بَعضهم فِي كتاب مُسلم،.

     وَقَالَ : مَعْنَاهُ أَيْضا: ذَات قدر عَظِيم.
فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا الحَدِيث حَدِيث أبي ذَر: من قَالَ لَا إلاه إلاَّ الله ... دخل الْجنَّة، وَإِن زنى وَإِن سرق، وَالْأَحَادِيث الَّتِي نَظَائِره مَعَ قَوْله تَعَالَى: { أَن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} ( آل عمرَان: 611) .
مَعَ إِجْمَاع أهل الْحق على أَن الزَّانِي وَالسَّارِق وَالْقَاتِل وَغَيرهم من أَصْحَاب الْكَبَائِر، غير الشّرك لَا يكفرون بذلك؟ قلت: هَذَا الَّذِي دعاهم إِلَى أَن قَالُوا هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي تطلق على نفي الشَّيْء يُرَاد نفي كَمَاله، كَمَا يُقَال: لَا علم إلاَّ بِمَا نفع، وَلَا مَال إِلَّا الْإِبِل، وَلَا عَيْش إلاَّ عَيْش الْآخِرَة، ثمَّ إِن مثل هَذَا التَّأْوِيل ظَاهر شَائِع فِي اللُّغَة يسْتَعْمل كثيرا، وَبِهَذَا يحصل الْجمع بَينه وَبَين مَا ذكر من الحَدِيث وَالْآيَة، وتأوله بعض الْعلمَاء على من فعل ذَلِك مستحلاً مَعَ علمه بورود الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ.

وعنْ سَعيدٍ وَأبي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَهُ إلاَّ النُّهْبَةَ
سعيد هُوَ ابْن الْمسيب، وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن سعيداً وَأَبا سَلمَة رويا هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور مثل مَا ذكر، إلاَّ النهبة، يَعْنِي: لم يذكرَا حكم الانتهاب، بل ذكر الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالشرب فَقَط.
وَقد ذكرنَا آنِفا عَن مُسلم أَنه أخرج فِي حَدِيثه:.

     وَقَالَ  ابْن شهَاب: حَدثنِي سعيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمثل حَدِيث أبي بكر هَذَا إلاَّ النهبة.
وَذكر مُسلم أَيْضا من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ أَن الزُّهْرِيّ روى عَن ابْن الْمسيب وابي سَلمَة وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث وَفِيه: وَذكر النهبة وَلم يقل ذَات شرف.

قَالَ الفِرَبْرَيُّ وجدْتُ بِخَطِّ أبِي جَعْفَرٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله تفْسِيرُهُ أنْ يُنْزَعَ مِنْهُ يُرِيدُ الإيمانَ
الْفربرِي، هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر الرَّاوِي عَن البُخَارِيّ وَأَبُو جَعْفَر هُوَ ابْن أبي حَاتِم، ورَّاق البُخَارِيّ وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه.
قَوْله: ( تَفْسِيره) ، أَي: تَفْسِير قَوْله: ( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن) ، أَن ينْزع مِنْهُ نور الْإِيمَان، وَالْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بالجنان وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ ونوره الْأَعْمَال الصَّالِحَة والاجتناب عَن الْمعاصِي، فَإِذا زنى أَو شرب الْخمر أَو سرق يذهب نوره وَيبقى صَاحبه فِي الظلمَة، وَالْإِشَارَة فِيهِ إِلَى أَنه لَا يخرج عَن الْإِيمَان.
قيل: إِن فِي هَذَا الحَدِيث تَنْبِيها على جَمِيع أَنْوَاع الْمعاصِي والتحذير مِنْهَا.
فنبه بِالزِّنَا على جَمِيع الشَّهَوَات وبالخمر على جَمِيع مَا يصد عَن الله تَعَالَى وَيُوجب الْغَفْلَة عَن حُقُوقه، وبالسرقة على الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا والحرص على الْحَرَام، وبالنهبة على الاستخفاف بعباد الله تَعَالَى وَترك توقيرهم وَالْحيَاء مِنْهُم، وَجمع الدُّنْيَا من غير وَجههَا، وَالله تَعَالَى أعلم.