فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب غسل المذي والوضوء منه

(بابُُ غَسْلِ المَذْىٍ وَالوُضُوءِ مِنْهُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم غسل الْمَذْي وَحكم الْوضُوء مِنْهُ، والمذي، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وبكسر الذل وَتَشْديد الْيَاء، حُكيَ ذَلِك عَن ابْن الْأَعرَابِي: وَهُوَ مَا يخرج من الذّكر عِنْد الملاعبة والتقبيل، يُقَال مذي الرجل، بِالْفَتْح، وأمذى بِالْألف مثله، وَيُقَال: كل ذكر يمذي وكل أُنْثَى تقذي من قذت الشَّاة، إِذا أَلْقَت من رَحمهَا بَيَاضًا،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: الْمَذْي البلل اللزح الَّذِي يخرج من الذّكر عِنْد ملاعبة النِّسَاء، وَرجل مذاه، فعال بِالتَّشْدِيدِ، للْمُبَالَغَة فِي كَثْرَة الْمَذْي وَفِي (الْمطَالع) هُوَ مَاء رَقِيق يخرج عِنْد التَّذَكُّر أَو الملاعبة يُقَال: مذى وأمذى ومذى، وَقد لَا يحس بِخُرُوجِهِ.

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبابُُ الأول بَيَان حكم الْمَنِيّ، وَفِي هَذَا الْبابُُ بَيَان حكم الْمَذْي، وَهُوَ من تَوَابِع الْمَنِيّ، وَمثله فِي النجاسية غير أَن فِي الْمَنِيّ الْغسْل، وَفِي الْمَذْي الْوضُوء.



[ قــ :265 ... غــ :269 ]
- حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قالَ حدّثنا زَائِدَةُ عَنْ أبي حَصِينٍ عَنْ أبي عَبْدِ الرَّحْمنِ عَنْ عَليّ قالَ كُنْتُ رَجخلاً مَدَّاءً فَأَمَرْتُ رَجُلاً أنْ يَسْأَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمَكانٍ ابْنَتِهِ فَسَأَلَ فقالَ تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ.

(انْظُر الحَدِيث 132 وطرفه) .

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي هُنَا مَا محصله أَن الحَدِيث الَّذِي فِي هَذَا الْبابُُ يدل على وجوب غسل الذّكر بِتَمَامِهِ.
والترجمة تدل على غسل الْمَذْي، ومحصل الْجَواب أَنه رُوِيَ أَيْضا؛ (تَوَضَّأ وغسله) وَالضَّمِير يرجع إِلَى الْمَذْي، فَيظْهر من هَذَا أَن المُرَاد مِمَّا ورد وجوب غسل مَا ظهر من الْمَذْي لَا غير، على مَا يَجِيء تَحْقِيقه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام الطَّيَالِسِيّ، تكَرر ذكره.
الثَّانِي: زَائِدَة بن قحدامة، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة الثَّقَفِيّ أَبُو الصَّلْت الْكُوفِي، صَاحب سنة ورعاً صَدُوقًا مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة غازياً فِي الرّوم.
الثَّالِث: أَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم الْكُوفِي التَّابِعِيّ، ثِقَة تقدم فِي آخر بابُُ، ثمَّ من كذب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الرَّابِع: أَبُو عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن حبيب السّلمِيّ، بِضَم السِّين المهلمة وَفتح اللَّام مقرىء، الْكُوفَة أحد أَعْلَام التَّابِعين.
صَامَ ثَمَانِينَ رمضاناً مَاتَ سنة خمس وَمِائَة.
الْخَامِس: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي، فَأَبُو الْوَلِيد بَصرِي والبقية كوفيون.

بَيَان ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن أبي الْوَلِيد وَأخرجه مُسلم فِي الْعلم من مُسَدّد عَن عبد الله بن دَاوُد، وَفِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة عَن جرير، قَالَ: وَرَوَاهُ شُعْبَة، ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش عَن مُنْذر الثَّوْريّ عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع وَأبي مُعَاوِيَة وهشيم ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَعَن يحيى بن حبيب عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث بِهِ.

ذكر الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث وطرقه والسائل الَّذِي فِيهِ.
أما أَولا: فَهَذَا الحَدِيث أخرجه الْجَمَاعَة فَلفظ البُخَارِيّ، مر الْآن بالسند الْمَذْكُور.
وَأخرجه النَّسَائِيّ،.

     وَقَالَ : أخبرنَا هناد بن السّري عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن أبي حُصَيْن عَن أبي عبد الرَّحْمَن.
قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
(كنت رجلا مذاء وَكَانَت ابْنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحتي، فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأله، فَقلت لرجل جَالس إِلَى جَنْبي: سَله فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) .
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن رَجَاء، قَالَ: حَدثنَا زاشئة بن قدامَة عَن أبي حُصَيْن عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كنت رجلا مذاءً وَكَانَت عِنْدِي ابْنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأرْسلت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَقَالَ: تَوَضَّأ واغسله) .
وَفِي رِوَايَة للطحاوي عَن عَليّ، قَالَ: (سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي قَالَ: فِيهِ الْوضُوء، وَفِي الْمَنِيّ الْغسْل) وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن هانىء بن هانىء عَن عَليّ.
قَالَ: (كنت رجلا مذاء وَكنت إِذا أمذيت اغْتَسَلت، فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وَبِنَحْوِ إِسْنَاده رَوَاهُ أَحْمد وَلَفظه (كنت رجلا مذاءً فَإِذا أمذيت اغْتَسَلت، فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَضَحِك، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق زاشدة عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ، قَالَ: (سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي، فَقَالَ: من الْمَذْي الْوضُوء، وَمن الْمَنِيّ الْغسْل) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن أَبِيه، قَالَ: كنت أجد مذياً فَأمرت الْمِقْدَاد أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأله لِأَن ابْنَته عِنْدِي، فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِن كل فَحل يمذي، فَإِذا كَانَ الْمَنِيّ فَفِيهِ الْغسْل، وَإِذا كَانَ الْمَذْي فَفِيهِ الْوضُوء) .
وَأخرجه مُسلم أَيْضا نَحوه عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، وَلَفظه: (فَكنت أستحي أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَكَان ابْنَته، فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ) وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث رَافع بن خديج.
(أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَمر عماراً أَن يسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي قَالَ: يغسل مذاكيره وَيتَوَضَّأ) وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا نَحوه، وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس.
قَالَ: عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
(قد كنت رجلا مذاءٍ فَأمرت رجلا فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وَأخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَفظه: (أرْسلت الْمِقْدَاد بن الْأسود إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلَهُ عَن الْمَذْي يخرج من الْإِنْسَان، كَيفَ يفعل: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تَوَضَّأ وانضح فرجك) وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث حُصَيْن بن قبيصَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَالَ: (كنت رجلا مذاءً فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِذا رَأَيْت الْمَذْي فَتَوَضَّأ واغسل ذكرك، وَإِذا رَأَيْت الْمَنِيّ فاغتسل) وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث حُصَيْن بن قبيصَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كنت رجلا مذاءً، فَجعلت اغْتسل حَتَّى تشقق ظَهْري قَالَ: فَذكرت ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو ذكر لَهُ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تفعل إِذا رَأَيْت الْمَذْي فاغسل ذكرك وَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة فَإِذا فضخت المَاء فاغتسل) الفضخ، بِالْفَاءِ وبالمعجمتين، الدفق، وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا وَفِي رِوَايَة أَحْمد (فليغسل ذكره وأنثييه) وَأخرجه النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَهَذَا كَمَا رَأَيْت هَذَا الِاخْتِلَاف فِيهِ، وَلَكِن لَا خلاف فِي وجوب الْوضُوء، وَلَا خلاف فِي عدم وجوب الْغسْل.

وَأما الِاخْتِلَاف فِي السَّائِل فقد ذكر فِيمَا سقنا من الْأَحَادِيث أَن فِي بَعْضهَا السَّائِل هُوَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِنَفسِهِ وَفِي بَعْضهَا السَّائِل غَيره، وَلكنه حَاضر، وَفِي بَعْضهَا هُوَ الْمِقْدَاد، وَفِي بَعْضهَا هُوَ عمارد وَجمع ابْن حبَان بَين هَذَا الِاخْتِلَاف أَن عليا سَأَلَ عماراً أَن يسْأَل، ثمَّ أَمر الْمِقْدَاد بذلك.
ثمَّ سَأَلَ بِنَفسِهِ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن عائش بن أنس قَالَ تَذَاكر عَليّ والمقداد وعمار الْمَذْي، فَقَالَ عَليّ: إِنَّنِي رجل مذاء فاسألا عَن ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلَهُ أحد الرجلَيْن:.

     وَقَالَ  ابْن شكوال: إِن الَّذِي تولى السُّؤَال عَن ذَلِك هُوَ الْمِقْدَاد، وَصَححهُ.

     وَقَالَ  بَعضهم: وعَلى هَذَا فنسبه عمار إِلَى أَنه سَأَلَ عَن ذَلِك مَحْمُولَة على الْمجَاز لكَونه قَصده، لَكِن تولى الْمِقْدَاد الْخطاب.
قلت: كِلَاهُمَا كَانَا مشتركين فِي هَذَا السُّؤَال غير أَن أَحدهمَا قد سبق بِهِ، فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الْمِقْدَاد، وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ عماراً، وَتَصْحِيح ابْن شكوال على أَنه هُوَ الْمِقْدَاد يحْتَاج إِلَى برهَان، وَدلّ مَا ذكر فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة أَن كلاًّ مِنْهُمَا قد سَأَلَ، وَأَن عليا سَأَلَ، فَلَا يحْتَاج بعد هَذَا إِلَى زِيَادَة حَشْو فِي الْكَلَام فَافْهَم.

ذكر مَعَانِيه قَوْله: (مذاء) صِيغَة مُبَالغَة.
يَعْنِي: كثير الْمَذْي.
قَوْله: (فَأمرت رجلا) قَالَ الشُّرَّاح المُرَاد بِهِ الْمِقْدَاد قلت: يجوز أَن يكون عماراً وَيجوز أَن يكون غَيرهمَا قَوْله: (لمَكَان ابْنَته) أَي بِسَبَب أَن ابْنَته فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت تَحت نِكَاحه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن الْحَنَفِيَّة، عَن عَليّ من أجل فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام.
قَوْله: (تَوَضَّأ) أَمر مجزوم، خطاب للرجل الَّذِي فِي قَوْله: (فَأمرت رجلا) على الِاخْتِلَاف فِي تَفْسِير الرجل.
قَوْله: (واغسل ذكرك) هَكَذَا وَقع هَاهُنَا بِتَقْدِيم الْأَمر بِالْوضُوءِ على غسله، وَوَقع فِي الْعُمْدَة عَكسه مَنْسُوبا ألى البُخَارِيّ، وَاعْترض عَلَيْهِ، وَلَا يرد لِأَن، الْوَاو لَا تدل على التَّرْتِيب على أَنه قد وَقع فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ تَقْدِيم الْغسْل على الْوضُوء فِي رِوَايَة رَافع بن خديج عَن عَليّ، وَقد ذَكرنَاهَا.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز الاستتابة فِي الاستفتاء، وَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز دَعْوَى الْوَكِيل بِحَضْرَة مُوكله.
وَمِنْهَا: قبُول خبر الْوَاحِد، والاعتماد على الْخَبَر المظنون مَعَ الْقُدْرَة على الْمَقْطُوع بِهِ، فَإِن عليا اقْتصر على قَول الْمِقْدَاد مَعَ تمكنه من سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِنْهَا: اسْتِحْبابُُ حسن الْعشْرَة مَعَ الأصهار، وَأَن الزَّوْج يسْتَحبّ لَهُ أَن لَا يذكر شَيْئا يتَعَلَّق بجماع النِّسَاء والاستمتاع بِهن بِحَضْرَة أَبِيهَا وأخيها وَابْنهَا وَغَيرهم من أقاربها، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ: رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن عِنْدِي ابْنَته وَأَنا استحي.
وَمِنْهَا: أَن الْمَذْي يُوجب الْوضُوء وَلَا يُوجب الْغسْل، والبا وضوع لَهُ.
وَمِنْهَا: كَانَ الصَّحَابَة عَلَيْهِ من حفظ حُرْمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتوقيره.
وَمِنْهَا: اسْتِعْمَال الْأَدَب فِي ترك المواجهة بِمَا يستحي مِنْهُ عرفا.
وَمِنْهَا: أَن قَوْله: (أغسل ذكرك) هَل يَقْتَضِي غسل جَمِيع الذّكر أَو مخرج الْمَذْي , فَهَذَا اخْتلفُوا فِيهِ، فَذهب بَعضهم، مِنْهُم الزُّهْرِيّ، إِلَى أَنه يجب غسل جَمِيع الذّكر كُله لظَاهِر الْخَبَر، وَمِنْهُم من أوجب غسل مخرج الْمَذْي وَحده.

وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة.
اخْتلفت الرِّوَايَة فِي حكمه، فَروِيَ أَنه لَا يُوجب الِاسْتِنْجَاء وَالْوُضُوء، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة يجب غسل الذّكر والأنثيين مَعَ الْوضُوء،.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: اخْتلف أَصْحَابنَا فِي الْمَذْي: هَل يجزىء مِنْهُ الِاسْتِجْمَار كالبول أَو لَا بُد من المَاء؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل يجب غسل جَمِيع الذّكر؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل يفْتَقر إِلَى النِّيَّة فِي غسل ذكره أم لَا؟.

     وَقَالَ  أَبُو عرم: الْمَذْي عِنْد جَمِيعهم يُوجب الْوضُوء مَا لم يكن خَارِجا عَن عِلّة أَو بردة أَو زمانة، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ أَيْضا كالبول عِنْد جَمِيعهم، فَإِن كَانَ سلساً لَا يَنْقَطِع فَحكمه حكم سَلس الْبَوْل عِنْد جَمِيعهم أَيْضا إلاَّ أَن طَائِفَة توجب الْوضُوء على من كَانَت هَذِه حَاله لكل صَلَاة، قِيَاسا على الْمُسْتَحَاضَة عِنْدهم، وَطَائِفَة تستحبه وَلَا توجبه.
وَأما الْمَذْي الْمَعْهُود الْمُتَعَارف، وَهُوَ الْخَارِج عِنْد ملاعبة الرجل أَهله لما يجْرِي من اللَّذَّة، أَو لطول عزبة، فعلى هَذَا الْمَعْنى خرج السُّؤَال فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَلِيهِ يَقع الْجَواب، وَهُوَ مَوضِع إِجْمَاع لَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي إِيجَاب الْوضُوء مِنْهُ، وَإِيجَاب غسله لنجاسته انْتهى.

وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلي) الْمَذْي تَطْهِيره بِالْمَاءِ يغسل مخرجه من الذّكر وينضح بِالْمَاءِ مَا مَسّه من الثَّوْب انْتهى قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: لم يكن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِغسْل ذكره لإِيجَاب غسله كُله، وَلكنه ليتقلص، أَي: لينزوي وينضم، وَلَا يخرج، كَمَا إِذا كَانَ لَهُ هدى وَله لين فَإِنَّهُ ينضح ضرعه بِالْمَاءِ ليتقلص ذَلِك فِيهِ فَلَا يخرج.
قلت: من خاصية المَاء الْبَارِد أَن يقطع اللين وَيَردهُ إِلَى دَاخل الضَّرع، وَكَذَلِكَ إِذا أصَاب الْأُنْثَيَيْنِ رد الْمَذْي وكسره.
ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد جَاءَت الْآثَار متواترة فِي ذَلِك، فروى مِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَعَن غير ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ قَالَ: فَلَا ترى أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما ذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أوجب عَلَيْهِ فِي ذَلِك ذكر وضوء الصَّلَاة فَثَبت بذلك أَن مَا كَانَ سوى وضوء الصَّلَاة مِمَّا أمره بِهِ فَإِنَّمَا كَانَ لغير الْمَعْنى الَّذِي أوجب وضوء الصَّلَاة، ثمَّ قَالَ: وَقد روى سهل بن حنيف عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قد دلّ على هَذَا أَيْضا حَدثنَا نصر بن مَرْزُوق وَسليمَان بن شُعَيْب قَالَا: حَدثنَا يحيى بن حسان.
قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن سعيد بن عبيد السباق عَن أَبِيه عَن سهل بن حنيف (أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء).

     وَقَالَ  أَبُو جَعْفَر: فَأخْبر أَن مَا يجب فِيهِ هُوَ الْوضُوء، وَذَلِكَ يَنْفِي أَن يكون عَلَيْهِ مَعَ الْوضُوء غَيره وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَيْضا هَذَا الحَدِيث من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق إِلَخ وَلَفظه (كنت ألْقى من الْمَذْي شدَّة وعناء، فَكنت أَكثر مِنْهُ الْغسْل فَذكرت ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَأَلته عَنهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا يجْزِيك من ذَلِك الْوضُوء قلت: يَا رَسُول الله! كَيفَ بِمَا يُصِيب ثوبي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيك أَن تَأْخُذ كفا من مَاء فتنضح بِهِ ثَوْبك حَيْثُ ترى أَنه أصَاب مِنْهُ) ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
(وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا بِنَحْوِهِ) فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ: (إِذا وجدت المَاء فاغسل فرجك وانثييك وَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة، قَالَه لِسُلَيْمَان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ، وَكَانَ قد تزوج امْرَأَة من بني عقيل، فَكَانَ يَأْتِيهَا فيلاعبها فيمذي، فَسَأَلَ ذَلِك عَنهُ) قلت: يحْتَمل جَوَاب ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ من حَدِيث رَافع بن خديج، ثمَّ شيد الطَّحَاوِيّ مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ الْمَنِيّ والمذي والودي فَأَما الْمَذْي والودي فَإِنَّهُ يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ وَأما الْمَنِيّ فَفِيهِ الْغسْل.
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيقين حسنين جَيِّدين وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا نَحوه وَرُوِيَ أَيْضا عَن الْحسن أَنه، يغسل فرجه وَيتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: إِذا أمذى الرجل غسل الْحَشَفَة وَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا نَحوه ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، ثمَّ اعْلَم أَن ابْن دَقِيق الْعِيد اسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على تعين المَاء فِيهِ دون الْأَحْجَار وَنَحْوهَا، أخذا بِالظَّاهِرِ، وَوَافَقَهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك فِي (شرح مُسلم) وَخَالفهُ فِي بَاقِي كتبه، وَحمل الْأَمر بِالْغسْلِ على الِاسْتِحْبابُُ.

وَمن أَحْكَام هَذَا الحَدِيث دلَالَته على نَجَاسَة الْمَذْي وَهُوَ ظَاهر، وَنقل عَن ابْن عقيل الْحَنْبَلِيّ أَنه خرج من قَول بَعضهم: أَن الْمَذْي من أَجزَاء الْمَنِيّ رِوَايَة بِطَهَارَتِهِ ورد عَلَيْهِ أَنه لَو كَانَ كَذَلِك لوَجَبَ الْغسْل مِنْهُ.