فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الهبة المقبوضة وغير المقبوضة، والمقسومة وغير المقسومة

( بابُُ الهِبَةِ المقْبُوضَةِ وغيْرِ الْمَقْبُوضَةِ والمُقْسُومَة وغيرِ المقْسُومَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْهِبَة المقبوضة ... إِلَى آخِره، وَمرَاده من التَّرْجَمَة هُوَ قَوْله: وَغير المقسومة، لِأَن حكم المقبوضة قد مضى، وَغير المقبوضة قد علم مِنْهُ، وَحكم المقسومة ظَاهر، فَلم يبْق إلاَّ بَيَان حكم غير المقسومة.

وقدْ وهبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصحابُهُ لِهَوازِنَ مَا غَنِمُوا منْهُمْ وهْوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ

ذكر هَذَا لبَيَان قَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَغير المقسومة، وغرضه من هَذَا إِقَامَة الدَّلِيل على صِحَة هبة الْمشَاع، وَلَكِن لَا يتم بِهِ الِاسْتِدْلَال، لِأَن الْمَذْكُور فِيهِ لَا يُطلق عَلَيْهِ الْهِبَة الشَّرْعِيَّة لِأَن الْقَبْض شَرط فِيهَا، وَذكر عبد الرَّزَّاق فِي ( مُصَنفه) :.

     وَقَالَ : أخبرنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: لَا تجوز الْهِبَة حَتَّى يقبض.
انْتهى.
وَقَوله: ( غير مقسوم) ، يلْزم مِنْهُ أَن يكون غير مَقْبُوض أَيْضا، فَإِذا لم يكن مَقْبُوضا كَيفَ يُطلق عَلَيْهِ الْهِبَة الشَّرْعِيَّة؟ وَهَذَا الْمُعَلق يَأْتِي فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِيهِ بأتم مِنْهُ مَوْصُولا.
قَوْله: ( لهوازن) ويروى: إِلَى هوَازن، وَهِي قَبيلَة مَعْرُوفَة.
.

     وَقَالَ  الرشاطي: الهوازني فِي قيس غيلَان وَفِي خُزَاعَة.
فَفِي، قيس غيلَان: هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة ببن حَفْصَة بن قيس غيلَان، وَفِي خُزَاعَة: هوَازن بن أسلم بن أقْصَى، وهوازن هَذَا بطن،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: هوَازن ضرب من الطير،.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْوَارِث: هوزن وَاحِد ذَلِك، وَهُوَ: فوعل،.

     وَقَالَ  أَبُو مُحَمَّد: فِي هوَازن بطُون كَثِيرَة وأفخاذ وقلَّ من ينْسب هَذِه النِّسْبَة.



[ قــ :2490 ... غــ :2603 ]
- حدَّثنا.

     وَقَالَ  ثابتٌ قَالَ حدَّثنا مِسْعرٌ عنْ مُحاربٍ عَن جابرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أتَيْتُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِدِ فقَضَانِي وزَادَنِي..
ذكر هَذَا أَيْضا فِي معرض الِاسْتِدْلَال على صِحَة هبة الْمشَاع، وَلَكِن لَا يتم بِهِ الِاسْتِدْلَال لِأَن هَذِه الزِّيَادَة لم تكن هبة، وَإِنَّمَا هِيَ ليتيقن بهَا الْإِيفَاء زِيَادَة فِي الثّمن، وَالزِّيَادَة لَا يُؤثر فِيهَا الشُّيُوع.
فَإِن قلت: يُوجب جَهَالَة الثّمن.
قلت: الْجَهَالَة لَا تُؤثر فِي الثّمن الْمعِين، وَحَدِيث جَابر هَذَا قد مضى مطولا فِي كتاب الْبيُوع فِي: بابُُ شِرَاء الدَّوَابّ وَالْحمير، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وثابت بالثاء الْمُثَلَّثَة ضد زائل: ابْن مُحَمَّد أَبُو إِسْمَاعِيل العابد الشَّيْبَانِيّ الْكُوفِي، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَثَبت كَذَلِك عِنْد أبي عَليّ ابْن السكن، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَبِه جزم أَبُو نعيم فِي ( الْمُسْتَخْرج) وَفِي رِوَايَة أبي زيد الْمروزِي:.

     وَقَالَ  ثَابت، ذكره بِصُورَة التَّعْلِيق، وَهُوَ مَوْصُول عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره، وَفِي رِوَايَة أبي أَحْمد الْجِرْجَانِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا ثَابت، فَزَاد فِي الْإِسْنَاد مُحَمَّدًا،.

     وَقَالَ  الغساني: وَفِي نُسْخَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا ثَابت قَالَ، وَحدث البُخَارِيّ عَن ثَابت بِدُونِ الْوَاسِطَة كثيرا.
قلت: وَلم يُتَابع الْجِرْجَانِيّ على هَذِه الزِّيَادَة، وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِمُحَمد هُوَ البُخَارِيّ المُصَنّف، وَيَقَع مثل ذَلِك كثيرا، فَلَعَلَّ الْجِرْجَانِيّ ظَنّه غير البُخَارِيّ.
قَوْله: ( مسعر) ، بِكَسْر الْمِيم: ابْن كدام، وَقد مر فِي الْوضُوء وَغَيره، ( ومحارب) ، بِكَسْر الرَّاء ضد الْمصَالح ابْن دثار ضد الشعار.





[ قــ :491 ... غــ :604 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَارِبٍ سَمِعْتُ جابرَ بنَ عبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقولُ بعتُ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعيراً فِي سَفَر فلَمَّا أتيْنَا المَدِينَةَ قَالَ ائْتِ المَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فوزَنَ.
قَالَ شُعْبَةُ أرَاهُ فوَزَنَ لِي فأرْجَحَ فَما زالَ مِنْها شَيْءٌ حتَّى أصَابَهَا أهْلُ الشَّأمِ يَوْمَ الحَرَّةِ.

.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث جَابر عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر، وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن محَارب إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ، وَسَيَأْتِي أَيْضا فِي الشُّرُوط، وَإِنَّمَا أدخلهُ فِي هَذِه التَّرْجَمَة لما ذكرنَا فِي الحَدِيث الْمَاضِي، وَالْجَوَاب عَنهُ مثل الْجَواب هُنَاكَ.
قَوْله: ( يَوْم الْحرَّة) ، أَي: يَوْم الْوَقْعَة الَّتِي كَانَت حوالي الْمَدِينَة عِنْد حرتها بَين عَسْكَر الشَّام من جِهَة يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَبَين أهل الْمَدِينَة، سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ.





[ قــ :49 ... غــ :605 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ عنْ مالكٍ عنْ أبِي حازمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِيَ بِشَرابٍ وعنْ يَمِينِهِ غُلامٌ وعنْ يَسارِهِ أشْياخٌ فَقَالَ لِلْغُلامِ أتَأْذَنِ لي أنْ أُعْطِيَ هَؤُلاءِ فَقَالَ الغُلامُ لَا وَالله لَا أُوثِرُ بنَصِيبِي منْكَ أحدَاً فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ..
هَذَا الحَدِيث ذكره فِي الْبابُُ السَّابِق فِي تَرْجَمَة هبة الْوَاحِد للْجَمَاعَة، وَهنا ذكره فِي تَرْجَمَة الْهِبَة الْغَيْر المقسومة، وَوجه الْمُطَابقَة من حَيْثُ إِن فِيهِ هبة غير مقسومة، وَهَذَا أَيْضا لَا يقوم بِهِ الدَّلِيل فِيمَا ذهب إِلَيْهِ، لِأَن غير الْمَقْسُوم غير متميز وَلَا يتَصَوَّر فِيهِ الْقَبْض أصلا، وَمن شَرط صِحَة الْهِبَة الشَّرْعِيَّة الْقَبْض.





[ قــ :493 ... غــ :606 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عُثْمَانَ بنِ جَبَلَةَ قَالَ أخبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ عنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ لِرَجُلٍ علَى رسولِ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَيْنٌ فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فإنَّ لِصاحِبِ الحَقِّ مَقالاً.

     وَقَالَ  اشتَرُوا لهُ سِنّاً فأعْطُوهَا إيَّاهُ فقالوُوا إنَّا لاَ نَجِدُ سنّاً إلاَّ سِنّاً هِيَ أفْضَلُ مِنْ سِنِّهِ قَالَ فاشْتَرُوهَا فأعْطُوهَا إيَّاهُ فإنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضاءً..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، لِأَن فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِإِعْطَاء سنّ لصَاحب الدّين أفضل من سنه، وَالزِّيَادَة فِيهِ غير مقسومة، وَالْجَوَاب عَنهُ مثل الْجَواب فِي الحَدِيث الَّذِي قبله، وَعبد الله بن عُثْمَان هُوَ الملقب بعبدان، وَسَلَمَة هُوَ ابْن كهيل، وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الاستقراض فِي: بابُُ حسن الْقَضَاء، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.



( بابٌُ إذَا وهَبَ جَماعَة القَوْمِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا وهب جمَاعَة لقوم، وَزَاد الْكشميهني فِي رِوَايَته وهب رجل جمَاعَة جَازَ، وَهَذِه الزِّيَادَة لَا طائل تحتهَا، لِأَنَّهَا تقدّمت مُفْردَة قبل بابُُ.



[ قــ :493 ... غــ :608 ]
- حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ أنَّ مَرْوَانَ ابنَ الحَكم والمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَة أخْبرَاهُ أنَّ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حِينَ جاءَهُ وفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمينَ فَسألُوهُ أنْ يَرُدَّ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ وسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ مَعي تَروْنَ وأحَبُّ الحَدِيثَ إلَيَّ أصْدَقُهُ فاخْتَارُوا إحْداى الطَّائِفَتَيْنِ إمَّا السَّبْيَ وإمَّا المَالَ وقدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ وكانَ النبيُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ فلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّ النبيَّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غيْرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إلاَّ إحْداى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا فإنَّا نَخْتَارُ سَبْينَا فقامَ فِي الْمُسْلِمِينَ فأثْناى على الله بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ إخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ جاؤُنا تائِبِينَ وإنِّي رَأيْتُ أنْ أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يُطَيِّبَ ذالِكَ فلْيَفْعَلْ ومنْ أحَبَّ أنْ يَكُونَ على حَظِّهِ حتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ أوَّلِ مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا يَا رسوُلَ الله لَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ إأا لَا نَدْرِي منْ أذِنَ مَنْكُمْ فِيهِ مِمَّنْ لَمْ يَأذَنْ فارْجِعُوا حتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أمْرَكُمْ فرَجَعَ النَّاسُ فكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبرُوهُ أنَّهُمْ طَيَّبُوا وأذِنُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَهُوَ أَن الْغَانِمين، وهم جمَاعَة، وهبوا بعض الْغَنِيمَة لمن غنموها مِنْهُم، وهم قوم هوَازن.
وَأما وَجه الْمُطَابقَة فِي زِيَادَة الْكشميهني فَمن جِهَة أَنه كَانَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سهم، وَهُوَ الصفي، فوهبه لَهُم.
وَالْجَوَاب عَنهُ مَا مر عَن قريب، وَهَذَا الحَدِيث هُوَ الْمَذْكُور فِي الْمرة الرَّابِعَة مِنْهَا فِي كتاب الْوكَالَة فِي: بابُُ إِذا وهب شَيْئا لوكيل أَو شَفِيع قوم جَازَ.

قَوْله: ( هوَازن) ، مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
قَوْله: ( مُسلمين) ، حَال من الْوَفْد.
قَوْله: ( من ترَوْنَ) ، أَي: من الْعَسْكَر.
قَوْله: ( حَتَّى يرفع) ، قَالَه الْكرْمَانِي: قَالُوا: هُوَ بِالرَّفْع أَجود.
قلت: لم يبين وَجه أجودية الرف، وَالنّصب هُوَ الأَصْل، لِأَن: أَن، بعد: حَتَّى، مقدرَة فَافْهَم، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت.

وَقَالَ صَاحب ( التَّوْضِيح) : مَا ملخصه: إِنَّهُم طيبُوا أنفسهم ووهبوا لَهُم.
وَفِيه: رد على قَول أبي حنيفَة: إِن هبة الْمشَاع الَّتِي تتأتى فِيهَا الْقِسْمَة لَا تجوز.
قلت: لَا وَجه للرَّدّ على قَول أبي حنيفَة، فَإِنَّهُ يَقُول: هَذَا لَيست فِيهِ هبة شَرْعِيَّة، وَإِنَّمَا هُوَ رد سَبْيهمْ إِلَيْهِم، ورد الشَّيْء لصَاحبه لَا يُسمى هبة.

وهذَا الَّذِي بَلَغنا مِنْ سَبْيِ هَوازِنَ هاذَا آخِرُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ يَعْنِي فَهذَا الَّذِي بَلَغَنَا
قَوْله: ( هَذَا الَّذِي بلغنَا) من كَلَام الزُّهْرِيّ بَينه البُخَارِيّ بقوله: هَذَا آخر قَول الزُّهْرِيّ، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ أَبُو عبد الله، هَذَا آخر قَول الزُّهْرِيّ، ثمَّ فسره بقوله: ( يَعْنِي فَهَذَا الَّذِي بلغنَا) يَعْنِي: هُوَ هَذَا آخر قَوْله.
وَالله أعلم.