فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا حمل رجلا على فرس، فهو كالعمرى والصدقة

( بابٌُ إذَا حَمَلَ رَجُلٌ على فَرَسٍ فَهْوَ كالعُمْراى والصَّدَقَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: إِذا حمل رجل على فرس أَي: تصدق بِهِ، ووهبه بِأَن يُقَاتل عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله، وَنَذْكُر الْآن: هَل المُرَاد من الْحمل التَّمْلِيك أَو التحبيس.
قَوْله: ( فَهُوَ كالعمرى) ، أَي: فَحكمه كَحكم الْعُمْرَى، وَحكم الصَّدَقَة يَعْنِي: لَا رُجُوع فِيهِ كَمَا لَا رُجُوع فِي الْعُمْرَى وَالصَّدَََقَة، أما الْعُمْرَى فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من أعمر عمرى فَهِيَ للمعمَر لَهُ ولورثته من بعده) ، وَأما الصَّدَقَة فَإِنَّهُ يُرَاد بهَا وَجه الله تَعَالَى فَتَقَع جَمِيع الْعين لله تَعَالَى، وَإِنَّمَا تصير للْفَقِير نِيَابَة عَن الله تَعَالَى، بِحكم الرزق الْمَوْعُود فَلَا يبْقى مَحل للرُّجُوع، وَلَكِن إِطْلَاق التَّرْجَمَة لَا يساعد مَا ذهب إِلَيْهِ البُخَارِيّ، لِأَن المُرَاد بِالْحملِ على الْفرس إِن كَانَ بقوله: هُوَ لَك، يكون تَمْلِيكًا.
قَالَ ابْن بطال: فَهُوَ كالصدقة، فَإِذا قبضهَا لم يجز الرُّجُوع فِيهَا، وَإِن كَانَ مُرَاده التحبيس فِي سَبِيل الله قَالَ ابْن بطال: هُوَ كالوقف لَا يجوز الرُّجُوع فِيهِ عِنْد الْجُمْهُور، وَعَن أبي حنيفَة: إِن الْحَبْس بَاطِل فِي كل شَيْء، قَالَ الدَّاودِيّ قَول البُخَارِيّ: هُوَ كالعمرى وَالصَّدَََقَة تحكم بِغَيْر تَأمل، وَقَول من ذكر من النَّاس أصح لأَنهم يَقُولُونَ: الْمُسلمُونَ على شروطهم.
قلت: عِنْد الْحَنَفِيَّة قَول الرجل: حَملتك على هَذَا الْفرس لَا يكون هبة إلاَّ بِالنِّيَّةِ، لِأَن الْحمل هُوَ الإركاب حَقِيقَة فَيكون عَارِية، وَلكنه يحْتَمل الْهِبَة، يُقَال: حمل الْأَمِير فلَانا على الْفرس مَعْنَاهُ ملكه إِيَّاه، فَيحمل على التَّمْلِيك عِنْد نِيَّته لِأَنَّهُ نوى مَا يحْتَملهُ لَفظه، وَفِيه تَشْدِيد عَلَيْهِ، فَتعْتَبر نِيَّته.
وَأما قَول أبي حنيفَة: أَن الْحَبْس بَاطِل لَيْسَ فِي شَيْء معِين، وَإِنَّمَا هُوَ عَام، كَمَا قَالَ ابْن بطال نَاقِلا عَنهُ: إِن الْحَبْس بَاطِل فِي كل شَيْء، وَلَيْسَ هُوَ مُنْفَردا بِهَذَا القَوْل، وَقد قَالَ شُرَيْح القَاضِي بذلك قبله.

وَقَالَ بعْضُ النَّاسِ لَهُ أنْ يَرْجِعَ فِيها
أَرَادَ بِهَذَا الْبَعْض أَبَا حنيفَة، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ أَن يرجع فِيهَا لأَنا قد ذكرنَا أَنه إِن أَرَادَ بِالْحملِ التحبيس يكون وَقفا، وَالْوَقْف غير لَازم عِنْده، وَإِطْلَاق البُخَارِيّ كَلَامه، وَنسبَة جَوَاز الرُّجُوع إِلَى أبي حنيفَة فِي هَذِه الصُّورَة خَاصَّة لَيْسَ وَاقعا فِي مَحَله لِأَنَّهُ يرى بِبُطْلَان الْوَقْف الْغَيْر الْمَحْكُوم بِهِ، وَيرى جَوَاز رُجُوع الْوَاهِب عَن هِبته إلاَّ فِي مَوَاضِع مُعينَة، كَمَا عرف فِي كتب الْفِقْه.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: خَالف فِيهِ أَي: فِي حكم حمل الرجل على فرس وَجعل الْحَبْس بَاطِلا، وَلِهَذَا قَالَ البُخَارِيّ:.

     وَقَالَ  بعض النَّاس لَهُ أَن يرجع فِيهَا، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ.
قلت: لَا نسلم أَن الحَدِيث يرد عَلَيْهِ، لِأَن معنى الْحمل عِنْده مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب أَنه عَارِية، والخصم أَيْضا يَقُول: إِن للْمُعِير أَن يرجع فِي عاريته.



[ قــ :2521 ... غــ :2636 ]
- حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ أخبرنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ مالِكاً يَسْألُ زَيْدَ بنَ أسْلَمَ قَالَ سَمِعْتُ أبي يقُولُ قَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حَمَلْتُ على فَرَسٍ فِي سَبيلِ الله فرَأيْتُهُ يباعُ فَسألْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لاَ تَشْتَرِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ..
قيل مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( حملت على فرس فِي سَبِيل الله) ورد عَلَيْهِ بِأَن هَذَا بعيد، وَالْمرَاد من الحَدِيث عدم عود الرجل إِلَى صدقته، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بابُُ لَا يحل لأحد أَن يرجع فِي هِبته وصدقته، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون فِيهِ أَنه قد أخرجه من ملكه لوجه الله تَعَالَى، وَكَانَ فِي نَفسه مِنْهُ شَيْء فأشفق، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يفْسد نِيَّته ويحبط أجره، فَنَهَاهُ عَنهُ وَشبهه بِالْعودِ فِي صدقته، وَإِن كَانَ بِالثّمن، وَهَذَا كتحريمه على الْمُهَاجِرين معاودة دَارهم بِمَكَّة، قَالَ: وَإِمَّا إِذا تصدق بالشَّيْء لَا على سَبِيل الإحباس على أَصله، بل على سَبِيل الْبر وَالصَّدَََقَة فَإِنَّهُ يجرى مجْرى الْهِبَة، وَلَا بَأْس عَلَيْهِ فِي ابتياعه من صَاحبه، وَالله أعلم.