فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من أقام البينة بعد اليمين

( بابُُ مَنْ أقامَ البَيِّنَةَ بعْدَ اليَمِينِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم من أَقَامَ الْبَيِّنَة بعد يَمِين الْمُدعى عَلَيْهِ، وَجَوَاب: من، مَحْذُوف، تَقْدِيره: هَل تقبل الْبَيِّنَة أم لَا؟ وَإِنَّمَا لم يُصَرح بِهِ لمَكَان الْخلاف فِيهِ على عَادَته الَّتِي جرت هَكَذَا، فالجمهور على أَنَّهَا تقبل، وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق،.

     وَقَالَ  مَالك فِي ( الْمُدَوَّنَة) : إِن استحلفه وَهُوَ لَا يعلم بِالْبَيِّنَةِ، ثمَّ علمهَا قضى لَهُ بهَا، وَإِن استحلفه وَرَضي بِيَمِينِهِ تَارِكًا لبينته، وَهِي حَاضِرَة أَو غَائِبَة، فَلَا حق لَهُ إِذا شهِدت لَهُ، قَالَه مطرف وَابْن الْمَاجشون،.

     وَقَالَ  ابْن أبي ليلى: لَا تقبل بَينته بعد استحلاف الْمُدعى عَلَيْهِ.
وَبِه قَالَ أَبُو عبيد وَأهل الظَّاهِر.
وَقَالَ النبيُّ لَعَلَّ بَعْضُكُمْ ألْحَنَ لُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث يذكرهُ عَن أم سَلمَة فِي هَذَا الْبابُُ مَوْصُولا، وَذكره أَيْضا فِي الْمَظَالِم فِي: بابُُ إِثْم من خَاصم فِي بَاطِل وَهُوَ يُعلمهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
فَإِن قلت: مَا مُنَاسبَة ذكر هَذَا فِي هَذَا الْبابُُ؟ قلت: إِذا اخْتصم اثْنَان أَو أَكثر لَا بُد أَن يكون لكل مِنْهُم حجَّة حَتَّى يكون بَعضهم أَلحن بحجته من بعض، وَذَلِكَ لَا يكون إلاَّ فِيمَا إِذا جَازَ إِقَامَة الْبَيِّنَة بعد الْيَمين.

وَقَالَ طاوُوسٌ وإبْرَاهِيمُ وشُرَيْح البَيِّنَةُ العَادِلَةُ أحَقُّ مِنَ اليَمِينِ الفاجِرَةِ
طاوُوس هُوَ ابْن كيسَان، وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ وَشُرَيْح القَاضِي، وَقد طول الشُّرَّاح فِي معنى كَلَام هَؤُلَاءِ بِحَيْثُ إِن النَّاظر فِيهِ لَا يرجع بمزيد فَائِدَة، وَحَاصِل معنى كَلَامهم: أَن الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا حلف دفع الْمُدَّعِي بِالْيَمِينِ، ثمَّ إِذا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة المرضية وَهُوَ معنى: العادلة، على دَعْوَاهُ ظهر أَن يَمِين الْمُدعى عَلَيْهِ كَانَت فاجرة أَي كَاذِبَة، فسماع هَذِه الْبَيِّنَة العادلة أولى بِالْقبُولِ من تِلْكَ الْيَمين الْفَاجِرَة، فَتسمع هَذِه الْبَيِّنَة وَيقْضى بهَا، وَالله أعلم.
وَتَعْلِيق شُرَيْح رَوَاهُ الْبَغَوِيّ عَن عَليّ بن الْجَعْد: أَنبأَنَا شريك عَن عَاصِم عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن شُرَيْح، قَالَ: من ادّعى قضائي فَهُوَ عَلَيْهِ حَتَّى تَأتي بَيِّنَة الْحق أَحَق من قضائي الْحق أَحَق من يَمِين فاجرة، وَذكر ابْن حبيب فِي ( الْوَاضِحَة) بِإِسْنَاد لَهُ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: الْبَيِّنَة العادلة خير من الْيَمين الْفَاجِرَة.



[ قــ :2562 ... غــ :2680 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ هِشَامٍ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ زَيْنَبَ عنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضيْتُ لَهُ بِحَقِّ أخِيهِ شَيْئاً بِقَوْلِهِ فإنَّمَا أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا..
أنكر بَعضهم دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبابُُ، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بِكَلَام يمل السَّامع، وَقد ذكرنَا وَجه دُخُوله فِي هَذَا الْبابُُ اان، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي الْمَظَالِم فِي: بابُُ إِثْم من خَاصم فِي بَاطِل وَهُوَ يُعلمهُ، من غير هَذَا الطَّرِيق، وَفِيه بعض زِيَادَة على هَذَا.

قَوْله: ( أَلحن) أَي: أفطن، يُقَال: لحن، بِكَسْر الْحَاء: إِذا فطن،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: اللّحن متحركة الْحَاء الفطنة، وساكنة الْحَاء: الزيغ فِي الْإِعْرَاب يَعْنِي إِزَالَة الْإِعْرَاب عَن جِهَته.
قَوْله: ( فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار) ، دَال على أَن حكم الْحَاكِم لَا يحل حَرَامًا وَلَا يحرم حَلَالا، وَسَوَاء فِيهِ المَال وَغَيره من الْحُقُوق.

وَقد اتّفق الْعلمَاء على تَحْرِيم ذَلِك فِي الْأَمْوَال،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: حكمه فِي الطَّلَاق وَالنِّكَاح وَالنّسب يحْتَمل الْأُمُور عَمَّا عَلَيْهِ فِي الْبابُُ بِخِلَاف الْأَمْوَال وَفِيه: أَن القَاضِي يحكم بِعِلْمِهِ فِيمَا علمه بعد الْقَضَاء من حُقُوق الْآدَمِيّين، وَلَا يحكم فِيمَا علمه قبله،.

     وَقَالَ  مَالك: لَا يحكم بِعِلْمِهِ مُطلقًا.
وَفِيه: أَن الْحَاكِم إِنَّمَا يحكم بِالظَّاهِرِ، وَأَن على من علم من الْحَاكِم أَنه قد أَخطَأ فِي الحكم فَأعْطَاهُ شَيْئا لَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذهُ.
وَفِيه: أَن الْبَيِّنَة مسموعة بعد الْيَمين، وَالله هُوَ الْمعِين.