فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: (أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير)

( بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { أنْ يَصَّالَحَا بيْنَهُمَا صُلْحاً والصُّلْحُ خيْرٌ} ( النِّسَاء: 821) .
)

أول الْآيَة، قَوْله تَعَالَى: { وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصَّالحا بَينهمَا صلحا وَالصُّلْح خير، وأحضرت الْأَنْفس الشُّح، وَإِن تحسنوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} ( النِّسَاء: 821) .
يَقُول الله تَعَالَى مخبرا ومشرعاً عَن حَال الزَّوْجَيْنِ تَارَة فِي حَال نفور الرجل عَن الْمَرْأَة، وَتارَة فِي حَال اتفاقه مِنْهَا، وَتارَة عِنْد فِرَاقه لَهَا.
فالحالة الأولى: مَا إِذا خَافت الْمَرْأَة من زَوجهَا أَن ينفر عَنْهَا أَو يعرض عَنْهَا، فلهَا أَن تسْقط عَنهُ حَقّهَا أَو بعضه من نَفَقَة أَو كسْوَة أَو مبيت أَو غير ذَلِك من حُقُوقهَا عَلَيْهِ، وَله أَن يقبل ذَلِك مِنْهَا، فَلَا جنَاح عَلَيْهَا فِي بذلها ذَلِك لَهُ، وَلَا عَلَيْهِ فِي قبُوله مِنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى: { فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصالحها بَينهمَا صلحا} ( النِّسَاء: 821) .
ثمَّ قَالَ: { وَالصُّلْح خير} ( النِّسَاء: 821) .
أَي: من الْفِرَاق، وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن معَاذ عَن سماك بن حَرْب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: خشيت سَوْدَة أَن يطلقهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله! لَا تُطَلِّقنِي، وَاجعَل يومي لعَائِشَة، فَفعل وَنزلت هَذِه الْآيَة: { وَإِن امْرَأَة خَافت} ( النِّسَاء: 821) .
الْآيَة وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ.
.

     وَقَالَ : حسن غَرِيب، وَقيل: نزلت فِي رَافع بن خديج طلق زَوجته وَاحِدَة وَتزَوج شَابة، فَلَمَّا قَارن انْقِضَاء الْعدة قَالَت: أصالحك على بعض الْأَيَّام، ثمَّ لم تسمح، فَطلقهَا أُخْرَى ثمَّ سَأَلته ذَلِك فَرَاجعهَا، فَنزلت هَذِه الْآيَة، قَوْله: { نُشُوزًا} النُّشُوز أَصله الإرتفاع، فَإِذا أَسَاءَ عشرتها ومنعها نَفسه وَالنَّفقَة فَهُوَ نشوز،.

     وَقَالَ  ابْن فَارس: نشز بَعْلهَا إِذا جفاها وضربها،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: النُّشُوز أَن يتجافى عَنْهَا، بِأَن يمْنَعهَا الرَّحْمَة الَّتِي بَين الرجل وَالْمَرْأَة، وَأَن يؤذيها بسب أَو ضرب، والإعراض أَن يعرض عَنْهَا بِأَن يقل محادثتها ومؤانستها، وَذَلِكَ لبَعض الْأَسْبابُُ من طعن فِي سنّ أَو دمامة أَو شَيْء فِي خُلق أَو خَلق أَو ملال أَو نَحْو ذَلِك.
قَوْله: { أَن يصَّالحَا} أَصله: أَن يتصالحا، فأبدلت التَّاء صاداً وأدغمت الصَّاد فِي الصَّاد، فَصَارَ: يصالحا، وقريء: ( أَن يصلحا) أَي: أَن يصطلحا، وَأَصله: يصتلحا، فأبدلت التَّاء صاداً وأدغمت فِي الْأُخْرَى، وقرىء: أَن يصلحا.
وَقَوله: { صلحا} ( النِّسَاء: 821) .
فِي معنى مصدر كل وَاحِد من الْأَفْعَال الثَّلَاثَة.
قَوْله: { وَالصُّلْح خير} ( النِّسَاء: 821) .
أَي: من الْفرْقَة أَو من النُّشُوز والإعراض وَسُوء الْعشْرَة.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هَذِه الْجُمْلَة اعْتِرَاض، وَكَذَلِكَ قَوْله: { وأحضرت الْأَنْفس الشُّح} ( النِّسَاء: 821) .
وَمعنى إِحْضَار الْأَنْفس الشُّح: أَن الشُّح جعل حَاضرا لَهَا لَا يغيب عَنْهَا أبدا، وَلَا تنفك عَنهُ، يَعْنِي أَنَّهَا مطبوعة عَلَيْهِ، وَالْغَرَض أَن الْمَرْأَة لَا تكَاد تسمح بقسمتها، وَالرجل لَا يكَاد نَفسه تسمح بِأَن يقسم لَهَا وَأَن يمْسِكهَا إِذا رغب عَنْهَا، وَأحب غَيرهَا.
قَوْله: { وَإِن تحسنوا} ( النِّسَاء: 821) .
أَي: بِالْإِقَامَةِ على نِسَائِكُم وتتقوا النُّشُوز والإعراض، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْأَذَى وَالْخُصُومَة، { فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} ( النِّسَاء: 821) .
من الْإِحْسَان وَالتَّقوى { خَبِيرا} ( النِّسَاء: 821) .
يثيبكم عَلَيْهِ.



[ قــ :2576 ... غــ :2694 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعِيدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا { وإنِ امْرَأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أوْ إعْرَاضاً} ( النِّسَاء: 821) .
قالَتْ هُوَ الرَّجُلُ يَراى منِ امْرَأتِهِ مَا لاَ يُعْجِبُهُ كِبَراً أوْ غَيْرُهُ فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا فَتَقُولُ أمْسِكْنِي واقْسِمْ لي مَا شِئْتَ قالتْ فَلا بَأْسَ إذَا تَراضَيا.

هَذَا الحَدِيث تَفْسِير عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، هَذِه الْآيَة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، قَوْله: كبرا، بِالنّصب بَيَان لقَوْله: مَا لَا يُعجبهُ، أَي: كبر السن أَو غَيره من سوء خلق أَو خلق، ويروى وَغَيره، بِالْوَاو.
قَوْله: ( فَتَقول) ، أَي الْمَرْأَة تَقول لزَوجهَا: عَائِشَة فَلَا بَأْس بذلك إِذا تَرَاضيا أَي الرجل وَامْرَأَته، وَدلّ هَذَا على أَن ترك التَّسْوِيَة بَين النِّسَاء وتفضيل بَعضهم على بعض لَا يجوز إلاَّ بِإِذن المفضولة ورضاها، وَيدخل فِي هَذَا الْمَعْنى جَمِيع مَا يَقع بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي: مَال أَو وَطْء أَو غير ذَلِك، وكل مَا تَرَاضيا عَلَيْهِ من الصُّلْح فَهُوَ حَلَال للرجل، من زَوجته لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَة، وَنقل الدَّاودِيّ عَن مَالك: أَنَّهَا إِذا رضيت بِالْبَقَاءِ بترك الْقسم لَهَا أَو الْإِنْفَاق عَلَيْهَا، ثمَّ سَأَلت الْعدْل، كَانَ ذَلِك لَهَا، وَالَّذِي قَالَه فِي الْمُدَوَّنَة، ذكره فِي الْقسم لَهَا، وَأما النَّفَقَة فيلزمها ذَلِك إِذا تركته، وَالْفرق أَن الْغيرَة لَا تملك بِخِلَاف النَّفَقَة.


( بابٌُ إذَا اصْطَلَحُوا على صُلْحِ جَوْرٍ فالصُّلْحُ مَرْدُودٌ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: إِذا اصْطلحَ قوم على صلح جور، الْجور فِي الأَصْل الظُّلم، يُقَال: جَار جوراً، أَي: ظلما، وَلَفظ: جور، يجوز أَن يكون صفة لصلح، وَيجوز أَن يكون مُضَافا إِلَيْهِ قَوْله ( فَالصُّلْح) بِالْفَاءِ جَوَاب إِذا المتضمنة معنى الشَّرْط.

[ قــ :576 ... غــ :696 ]
- حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي ذِئبٍ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عبْدِ الله عنْ أبِي هُرَيْرَةَ وزَيْدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَا جاءَ أعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رسولَ الله اقْضِ بَيْنَنَا بِكتابِ الله فقامَ خَصْمُهُ فَقَالَ صدَقَ اقْضِ بيْنَنَا بِكِتَابِ الله فَقَالَ الأعْرَابِيُّ أنَّ ابْني كانَ عَسِيفاً على هذَا فَزنَى بامْرَأتِهِ فَقَالُوا لي على ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي منْهُ بِمَائَةٍ مِنَ الغَنَمِ ووَلِيدَةٍ ثُمَّ سألْتُ أهْلَ العِلْمِ فَقَالُوا إنَّمَا علَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ الله أمَّا الوَلِيدَةُ والغَنَمُ فَرَدَّ علَيْكَ وعَلى ابْنِكَ جَلْد مِائَةٍ وتَغرِيبُ عامٍ وأمَّا أنْتَ يَا أُنَيْسُ لرَجُلٍ فاْغْدُ على امْرَأة هاذَا فارْجُمْهَا فَغَدَا علَيْهَا أَُنَيْسٌ فرَجَمَهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( أما الوليدة وَالْغنم فَرد عَلَيْك) ، لِأَنَّهُ فِي معنى الصُّلْح عَمَّا وَجب على العسيف من الْحَد، وَلم يكن ذَلِك جَائِزا فِي الشَّرْع فَكَانَ جوراً.

وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس: واسْمه عبد الرَّحْمَن، أَصله من خُرَاسَان، سكن فِي عسقلان.
وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود.

وَبَعض هَذَا الحَدِيث مر فِي الْوكَالَة فِي: بابُُ الْوكَالَة فِي الْحُدُود، وَقد مر الْكَلَام فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ وبتعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره، ولنتكلم بِمَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَا.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( بِكِتَاب الله) أَي: بِحكم كتاب الله تَعَالَى.
فَإِن قلت: هَذَا وخصمه كَانَا يعلمَانِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحكم إلاَّ بِكِتَاب الله، فَمَا معنى قَوْلهمَا: إقض بَيْننَا بِكِتَاب الله تَعَالَى؟ قلت: ليفصل بَينهمَا بالحكم الصّرْف، لَا بِالصُّلْحِ، إِذْ للْحَاكِم أَن يفعل ذَلِك لَكِن برضاهما.
قَوْله: ( عسيفاً) ، أَي: أَجِيرا، وَيجمع على: عسفاء، ذكره الْأَزْهَرِي وعسفة، على غير قِيَاس، ذكره ابْن سَيّده، وَقيل: كل خَادِم عسيف،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: وعسيف فعيل بِمَعْنى مفعول كأسير، أَو بِمَعْنى: فَاعل، كعليم من العسف الْجور أَو الْكِفَايَة.
قَوْله: ( على هَذَا) ، إِنَّمَا قَالَ: على هَذَا، وَلم يقل: لهَذَا، ليعلم أَنه أجِير ثَابت الْأُجْرَة عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يكون كَذَلِك إِذا لابس الْعَمَل وأتمه، وَلَو قَالَ: لهَذَا، لم يلْزم ذَلِك.
قَوْله: ( ووليدة) ، أَي: قَوْله: ( ثمَّ سَأَلت أهل الْعلم) ، أَرَادَ بهم الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا يفتون فِي عصر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَثَلَاثَة من الْأَنْصَار: أبي بن كَعْب ومعاذ بن جبل وَزيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
قَوْله: ( وتغريب عَام) ، التَّغْرِيب، بالغين الْمُعْجَمَة: النَّفْي عَن الْبَلَد الَّذِي وَقعت فِيهِ الْجِنَايَة، يُقَال: أغربته وغرَّبته إِذا نحيته وأبعدته، والغرب الْبعد.
قَوْله: ( لأقضين بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله) ، أَي: بِحكمِهِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكتاب ذكر الرَّجْم، وَقد جَاءَ الْكتاب بِمَعْنى الْفَرْض قَالَ تَعَالَى: { كتب عَلَيْكُم الصّيام} ( الْبَقَرَة: 381) .
أَي: فرض، وَيحْتَمل أَن يكون: فرض أَولا ثمَّ نسخ لَفظه دون حكمه، على مَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: قرأناها فِيمَا أنزل الله تَعَالَى: { الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ بِمَا قضيا من اللَّذَّة} ( النِّسَاء: 61) .
وَيُقَال: الرَّجْم، وَإِن لم يكن مَنْصُوصا عَلَيْهِ فِي الْقُرْآن باسمه الْخَاص، فَإِنَّهُ مَذْكُور فِيهِ على سَبِيل الْإِجْمَال، وَهُوَ قَوْله عز وَجل: { فآذوهما} ( النِّسَاء: 61) .
والأذى يَتَّسِع فِي مَعْنَاهُ الرَّجْم وَغَيره من الْعقُوبَة.
قَوْله: ( فردٌّ عَلَيْك) ، رد مصدر، وَلِهَذَا وَقع خَبرا، وَالتَّقْدِير: فَهُوَ رد، أَي: مَرْدُود عَلَيْك، ويروى: ( فَترد عَلَيْك) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع.
قَوْله: ( يَا أنيس) ، تَصْغِير أنس قيل: هُوَ ابْن الضَّحَّاك الْأَسْلَمِيّ يعد فِي الشاميين، ومخرج حَدِيثه عَلَيْهِم، وَقد حدث عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: هُوَ تَصْغِير أنس بن مَالك خَادِم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذهب ابْن عبد الْبر إِلَى أَنه الضَّحَّاك بن مرْثَد الغنوي وَالْأول أشهر، قَوْله: ( فاغدُ) أَي: ائتها غدْوَة، قَالَه ابْن التِّين، ثمَّ قَالَ: قيل فِيهِ تَأْخِير الحكم إِلَى الْغَد،.

     وَقَالَ  غَيره: لَيْسَ مَعْنَاهُ أمض إِلَيْهَا بكرَة، بل مَعْنَاهُ: إمش إِلَيْهَا، وَكَذَا معنى قَوْله: فغدا عَلَيْهَا، أَي: مَشى إِلَيْهَا.
قَوْله: ( فرجمها) ، أَي: بعد أَن ثَبت باعترافها فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص أنيس بِهَذَا الحكم؟ قلت: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ يَأْمر فِي الْقَبِيلَة إلاَّ رجلا مِنْهَا لنفورهم من حكم غَيرهم، وأنيساً كَانَ أسلمياً، وَالْمَرْأَة كَانَت أسلمية.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك احْتج بِهِ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَابْن أبي ليلى وَالْحسن ابْن أبي حَيّ، وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، على أَن الرجل إِذا لم يكن مُحصنا وزنى فَإِنَّهُ يجلد مائَة جلدَة ويغرب عَاما.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: لَا خلاف بَين الْمُسلمين إِن الْبكر إِذا زنى يجلد مائَة جلدَة.

وَاخْتلفُوا فِي التَّغْرِيب، فَقَالَ مَالك: ينفى الرجل وَلَا تنفى الْمَرْأَة، وَلَا العَبْد،.

     وَقَالَ  الْأَوْزَاعِيّ: ينفى الرجل وَلَا تنفى الْمَرْأَة،.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَالْحسن بن حَيّ: ينفى الزَّانِي إِذا جُلِدَ، امْرَأَة كَانَ أَو رجلا.
وَاخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي العَبْد، فَقَالَ مرّة: استحيى الله فِي تغريب العَبْد،.

     وَقَالَ  مرّة: ينفى العَبْد نصف سنة،.

     وَقَالَ  مرّة: ينفى سنة إِلَى غير بَلَده، وَبِه.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ،.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّفْي وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم أَبُو بكر وَعمر وَعلي وَأبي بن كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود وَأَبُو ذَر وَغَيرهم، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن غير وَاحِد من التَّابِعين، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ، وَمَالك بن أنس وَعبد الله بن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق،.

     وَقَالَ  إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر: الْبكر إِذا زنى جلد مائَة وَلَا ينفى، إلاَّ أَن يرى الإِمَام أَن يَنْفِيه للدعارة الَّتِي كَانَت مِنْهُ، فينفيه إِلَى حَيْثُ أحب، كَمَا يَنْفِي الدعار غير الزناة.
قلت: الدعر والدعارة الشَّرّ وَالْفساد.
وَمُدَّة نفي الدعار موكولة إِلَى رَأْي الإِمَام، وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه غرب فِي الْخمر، وَكَانَ عمر إِذا غضب على رجل نَفَاهُ إِلَى الشَّام، وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قطع يَد سَارِق ونفاه إِلَى زُرَارَة، وَهِي قَرْيَة قريبَة من الْكُوفَة، وَكَذَا جَاءَ النَّفْي فِي المخنثين على مَا يَجِيء فِي الْكتاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمن مَعَه فِي ذَلِك بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ: أنَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْأمة إِذا زنت وَلم تحصن فَقَالَ: ( إِذا زنت وَلم تحصن فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ بيعوها وَلَو بضفير) الحَدِيث، قَالُوا: فَلَمَّا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأمة: إِذا زنت أَن تجلد، وَلم يَأْمر مَعَ الْجلد، نفي،.

     وَقَالَ  الله تَعَالَى: { فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} ( النِّسَاء: 5) .
فأعلمنا بذلك أَن مَا يجب على الْإِمَاء إِذا زنين هُوَ نصف مَا يجب على الْحَرَائِر إِذا زنين، ثمَّ ثَبت أَن لَا نفي على الْأمة إِذا زنت، كَذَلِك أَيْضا لَا نفي على الْحرَّة إِذا زنت،.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ:.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: وَقد روينَاهُ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه نهى عَن أَن تُسَافِر الْمَرْأَة ثَلَاثَة أَيَّام إلاَّ مَعَ محرم، فَدلَّ ذَلِك أَن لَا تُسَافِر الْمَرْأَة فِي حد الزِّنَى ثَلَاثَة أَيَّام بِغَيْر محرم، وَفِي ذَلِك إبِْطَال النَّفْي عَن النِّسَاء فِي الزِّنَى.
وانتفى ذَلِك عَن الرِّجَال أَيْضا، لِأَن فِي درئه إِيَّاه عَن الْحَرَائِر دَلِيل على درئه عَن الْأَحْرَار.
فَإِن قلت: يلْزم الْحَنَفِيَّة على مَا ذكرُوا أَن لَا يمنعوا من تغريب الْمَرْأَة إِلَى مَا دون ثَلَاثَة أَيَّام.
قلت: لَا يلْزمهُم ذَلِك، لِأَن النَّفْي لَيْسَ من الْحَد حَتَّى يستعملوه فِيمَا يُمكنهُم، وَإِنَّمَا هُوَ من بابُُ التَّعْزِير.
وَقَالُوا أَيْضا: النَّص جعل الْحَد مائَة، وَالزِّيَادَة على مُطلق النَّص نسخ، وَمَا رَوَوْهُ مَنْسُوخ بِحَدِيث مَاعِز.
قلت: هَذَا إِذا ثَبت تَأَخّر أَمر مَاعِز عَنهُ، وَلِأَن فِي التَّغْرِيب تعريضاً لَهَا للْفَسَاد، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة، وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نفي شخصا فَارْتَد وَلحق بدار الْحَرْب، فَحلف أَن لَا ينفى بعده أبدا، وَبِهَذَا عرف أَن نفيهم كَانَ بطرِيق السياسة والتعزيز لَا بطرِيق الْحَد، لِأَن مثل عمر لَا يحلف أَن لَا يُقيم الْحُدُود فَافْهَم.

وَفِيه: أَن أولى النَّاس بِالْقضَاءِ الْخَلِيفَة إِذا كَانَ عَالما بِوُجُوه الْقَضَاء.
وَفِيه: أَن الْمُدعى أولى بالْقَوْل، والطالب أَحَق أَن يتَقَدَّم بالْكلَام، وَإِن بَدَأَ الْمَطْلُوب.
وَفِيه: أَن الْبَاطِل من الْقَضَاء مَرْدُود، وَمَا خَالف السّنة الْوَاضِحَة من ذَلِك فَبَاطِل.
وَفِيه: أَن قبض من قضى لَهُ بِمَا قضى لَهُ بِهِ إِذا كَانَ خطأ وجوراً وَخِلَافًا للسّنة، لَا يدْخلهُ قَبضه فِي ملكه، وَلَا يَصح ذَلِك لَهُ، وَعَلِيهِ رده.
وَفِيه: أَن للْعَالم إِن يُفْتِي فِي مصر فِيهِ من هُوَ أعلم مِنْهُ إِذا أفتى بِعلم.
وَفِيه: أَنه لم تقع الْفرْقَة بَينهمَا بالزنى.
وَفِيه: أَنه لَا يجب على الإِمَام حُضُور المرجوم بِنَفسِهِ.
وَفِيه: دَلِيل على وجوب قبُول خبر الْوَاحِد.
وَفِيه: أدب السَّائِل فِي طلب الْأذن.
وَفِيه: أَن الرَّجْم لَا يجب إلاَّ على الْمُحصن، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَلَا يلْتَفت إِلَى مَا يحْكى عَن الْخَوَارِج، وَقد خالفوا السّنَن.
وَفِيه: أَنه لم يَجْعَل قَاذِفا بقوله: زنى بامرأته.
وَفِيه: أَنه لم يشْتَرط فِي الِاعْتِرَاف التّكْرَار، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي،.

     وَقَالَ  ابْن أبي ليلى: وَأحمد لَا يجب إلاَّ بالأعتراف أَربع مَرَّات.
وَفِيه: أَن للْإِمَام أَن يسْأَل الْمَقْذُوف، فَإِن اعْترف حكم عَلَيْهِ بِالْوَاجِبِ، وَإِن لم يعْتَرف وطالب الْقَاذِف أَخذ لَهُ بِحقِّهِ، وَهَذَا مَوضِع اخْتلف فِيهِ الْفُقَهَاء، فَقَالَ مَالك: لَا يحد الإِمَام الْقَاذِف حَتَّى يُطَالِبهُ الْمَقْذُوف إلاَّ أَن يكون الإِمَام سَمعه فيحده إِن كَانَ مَعَه شُهُود غَيره عدُول،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وصاحباه وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ: لَا يحد الْقَاذِف إلاَّ بمطالبة الْمَقْذُوف.
.

     وَقَالَ  ابْن أبي ليلى: يحده الإِمَام، وَإِن لم يَطْلُبهُ الْمَقْذُوف.
وَفِيه: أَنه لم يسْأَله عَن كَيْفيَّة الزِّنَى، لِأَنَّهُ مُبين فِي قَضِيَّة مَاعِز، وَهَذَا صَحِيح، إِن ثَبت تَأْخِير هَذَا الْخَبَر عَن خبر مَاعِز، فَيحمل على أَن الابْن كَانَ بكرا وَعلي أَنه اعْترف، وإلأ فإقرار الْأَب عَلَيْهِ غير مَقْبُول، أَو يكون هَذَا إِفْتَاء، أَي: إِن كَانَ كَذَا فَكَذَا.
وَفِيه: سُقُوط الْجلد مَعَ الرَّجْم خلافًا لمسروق وَأهل الظَّاهِر فِي إيجابهم الْجمع بَينهمَا.
قُلْنَا: لَو كَانَ وَاجِبا لأمر بِهِ.
وَفِيه: اسْتِدْلَال للظاهرية على أَن المقرَّ بالزنى لَا يقبل رُجُوعه عَنهُ، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث التَّعْرِيض للرُّجُوع،.

     وَقَالَ  مَالك وَأَصْحَابه: يقبل مِنْهُ إِن رَجَعَ إِلَى شُبْهَة، وَإِن رَجَعَ إِلَى غَيرهَا فِيهِ خلاف.
وَفِيه: إِقَامَة الْحَاكِم الحكم بِمُجَرَّد إِقْرَار الْمَحْدُود من غير شَهَادَة عَلَيْهِ، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَلَا يجوز ذَلِك عِنْد مَالك إلاَّ بعد الشَّهَادَة عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ  للقرطبي: هَذَا كُله مبْنى على أَن أنيساً كَانَ حَاكما، وَيحْتَمل أَن يكون رَسُولا ليستفصلها، ويعضد هَذَا التَّأْوِيل قَوْله فِي آخر الحَدِيث فِي بعض الرِّوَايَات: فَاعْترفت فَأمر بهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرجمت، فَهَذَا يدل على أَن أنيساً إِنَّمَا سمع إِقْرَارهَا، وَأَن تَنْفِيذ الحكم كَانَ من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَالَ: وَحِينَئِذٍ يتَوَجَّه إِشْكَال آخر.
وَهُوَ أَن يُقَال: فَكيف اكْتفى فِي ذَلِك بِشَاهِد وَاحِد؟ وَقد اخْتلف فِي الشَّهَادَة على الْإِقْرَار بالزنى: هَل يَكْتَفِي بِشَهَادَة شَاهِدين؟ أَو لَا بُد من أَرْبَعَة؟ على قَوْلَيْنِ لعلمائنا، وَلم يذهب أحد من الْمُسلمين إِلَى الإكتفاء بِشَهَادَة وَاحِد؟ فَالْجَوَاب: أَن هَذَا اللَّفْظ الَّذِي قَالَ فِيهِ: فَاعْترفت فَأمر بهَا فرجمت، هُوَ من رِوَايَة اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ، وَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ مَالك بِلَفْظ: فَاعْترفت فرجمها، لم يذكر فَأمر بهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرجمت، وَعند التَّعَارُض.
فَحَدِيث مَالك أولى لما يعلم من حفظ مَالك وَضَبطه وخصوصاً فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ، فَإِنَّهُ من أعرف النَّاس بِهِ، وَالظَّاهِر أَن أنيساً كَانَ حَاكما فيزول الْإِشْكَال، وَلَو سلمنَا أَنه كَانَ رَسُولا فَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا ينص على انْفِرَاده بِالشَّهَادَةِ، وَيكون غَيره قد شهد عَلَيْهَا عِنْد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك.
ويعضد هَذَا أَن الْقَضِيَّة اشتهرت وانتشرت فيبعد أَن ينْفَرد بهَا وَاحِد، سلمنَا، لكنه خبر وَلَيْسَ بِشَهَادَة فَلَا يشْتَرط الْعدَد فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يسْتَدلّ بهَا على قبُول أَخْبَار الْآحَاد وَالْعَمَل بهَا فِي الدِّمَاء وَغَيرهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَفِيه: أَن زنى الْمَرْأَة لَا يفْسخ نِكَاحهَا من زَوجهَا.
وَفِيه: أَن الْحُدُود الَّتِي هِيَ مَحْضَة لحق الله لَا يَصح الصُّلْح فِيهَا.

وَاخْتلف فِي حد الْقَذْف: هَل يَصح الصُّلْح فِيهِ أم لَا؟ وَلم يخْتَلف فِي كَرَاهَته لِأَنَّهُ ثمن عرض، وَلَا خلاف فِي جَوَازه قبل رَفعه، وَأما حققو الْأَبدَان من الْجراح، وَحُقُوق الْأَمْوَال، فَلَا خلاف فِي جَوَازه مَعَ الْإِقْرَار، وَاخْتلف فِي الصُّلْح على الْإِنْكَار، فَأَجَازَهُ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَمنعه الشَّافِعِي.