فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: هل يشير الإمام بالصلح

( بابٌُ هَلْ يُشيرُ الإمَامُ بالصُّلْحِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ هَل يُشِير الإِمَام لأحد الْخَصْمَيْنِ، أَولهمَا جَمِيعًا، بِالصُّلْحِ، وَإِن اتجه الْحق لأَحَدهمَا، وَفِيه خلاف، فَلذَلِك لم يذكر جَوَاب الِاسْتِفْهَام، فالجمهور استحبوا ذَلِك وَمنعه الْمَالِكِيَّة،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: لَيْسَ فِي حَدِيثي الْبابُُ مَا ترْجم بِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ ا الحض على ترك بعض الْحق، ورد عَلَيْهِ بِأَن أشارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحط بعض الْحق بِمَعْنى الصُّلْح.



[ قــ :2585 ... غــ :2705 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبِي أوَيْسٍ قَالَ حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمَانَ عنْ يَحْيى بنِ سَعِيدٍ عَن أبي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أُمَّهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمانِ قالتْ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تقولُ سَمِعَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوْتَ خُصُومٍ بالبابُِ عالِيَةٍ أصْوَاتُهُمَا وإذَا أحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ ويَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وهْوَ يَقُولُ وَالله لَا أفْعَلُ فخَرَجَ عَلَيْهِمَا رسوُلُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أيْنَ المُتألَّى على الله لَا يَفْعَلُ المَعْرُوفَ فَقَالَ أنَا يَا رسولَ الله ولهُ أيُّ ذالِكَ أحَبَّ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي قَوْله: ( وَله أَي ذَلِك أحب) معنى الصُّلْح، وأخو إِسْمَاعِيل هُوَ عبد الحميد بن أبي أويس واسْمه عبد الله بن أبي بكر الأصبحي الْمدنِي، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَأَبُو الرِّجَال مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ وكنى بِأبي الرِّجَال لما كَانَ لَهُ أَوْلَاد عشرَة كلهم صَارُوا رجَالًا كَامِلين، وَأمه عمْرَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: بنت عبد الرَّحْمَن بن سعد بن زُرَارَة الْأَنْصَارِيَّة، مَاتَت سنة سِتّ وَمِائَة.

وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم مدنيون.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الشّركَة،.

     وَقَالَ : حَدثنَا غير وَاحِد عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، قَالَ عِيَاض: إِن قَول الرَّاوِي: حَدثنَا غير وَاحِد، أَو حَدثنَا الثِّقَة، أَو بعض أَصْحَابنَا، لَيْسَ من الْمَقْطُوع وَلَا من الْمُرْسل وَلَا من المعضل عِنْد أهل هَذَا الْفَنّ، بل هُوَ من بابُُ الرِّوَايَة عَن الْمَجْهُول، قَالَ: وَلَعَلَّ مُسلما أَرَادَ بقوله: غير وَاحِد، البُخَارِيّ وَغَيره، وَأَبُو دَاوُد عد هَذَا النَّوْع مُرْسلا وَعند أبي عمر والخطيب هُوَ مُنْقَطع.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( صَوت خصوم) ، الْخُصُوم، بِضَم الْخَاء: جمع خصم، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْخصم يَسْتَوِي فِيهِ الْجمع والمؤنث لِأَنَّهُ فِي الأَصْل مصدر، وَمن الْعَرَب من يثنيه ويجمعه فَيَقُول: خصمان وخصوم، والخصم، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الصَّاد أَيْضا: الْخصم، وَالْجمع: خصماء، وَيُقَال: الْخصم، بِكَسْر الصَّاد: شَدِيد الْخُصُومَة وَالْخُصُومَة الإسم.
قَوْله: ( عالية أصواتهما) ، ويروى ( أَصْوَاتهم) ، أَي: أصوات الْخُصُوم، وَهُوَ ظَاهر، لِأَن الْخُصُوم جمع، وَأما وَجه: أصواتهما، بتثنية الضَّمِير فباعتبار الْخَصْمَيْنِ المتنازعين.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هَذَا على قَول من قَالَ: أقل الْجمع اثْنَان،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة لمن يجوز صِيغَة الْجمع بالإثنين، كَمَا زعم بعض الشُّرَّاح، قلت: إِن كَانَ مُرَاده من بعض الشُّرَّاح الْكرْمَانِي: فَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لم يزْعم ذَلِك، بل ذكر أَنه: على قَول من قَالَ أقل الْجمع إثنان، ويروى: أصواتها، بإفراد الضَّمِير للمؤنث، وَوَجهه أَن يكون بِالنّظرِ إِلَى لفظ الْخُصُوم الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، كَمَا قُلْنَا.
قَوْله: ( عالية) ، يجوز فِيهِ الْجَرّ وَالنّصب، أما الْجَرّ فعلى أَنه صفة، وَأما النصب فعلى الْحَال.
وَقَوله: ( أصواتهما) ، بِالرَّفْع بقوله: عالية، لِأَن اسْم الْفَاعِل يعْمل عمل فعله.
قَوْله: ( وَإِذا أَحدهمَا) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة و: أَحدهمَا، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ.
( ويستوضع) خَبره، وَإِنَّمَا قَالَ: أَحدهمَا، بتثنية الضَّمِير لما قُلْنَا: إِنَّه بِاعْتِبَار الْخَصْمَيْنِ، وَمعنى: يستوضع، يطْلب أَن يضع من دينه شَيْئا.
قَوْله: ( ويسترفقه) ، أَي: يطْلب مِنْهُ أَن يرفق بِهِ فِي الِاسْتِيفَاء والمطالبة، قَوْله: ( فِي شَيْء) ، أَي من الدّين وَحَاصِله فِي حط شَيْء مِنْهُ قَوْله ( وَهُوَ يَقُول) أَي وَالْحَال أَن الآخر وَهُوَ الطَّالِب يَقُول ( وَالله لَا أفعل) أَي: لَا أحط شَيْئا.
قَوْله: ( فَخرج عَلَيْهِمَا) ، أَي: على المتخاصمين اللَّذين بِالْبابُُِ.
قَوْله: ( أَيْن المتألي؟) ، بِضَم الْمِيم وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق والهمزة وَتَشْديد اللَّام الْمَكْسُورَة، أَي: الْحَالِف المبالغ فِي الْيَمين، مَأْخُوذ من: الألية، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي الْيَمين.
قَوْله: ( فَلهُ أَي ذَلِك أحب) ، أَي: فلخصمي أَي شَيْء من الْحَط أَو الرِّفْق أحب، وَفِي روايلاة ابْن حبَان: دخلت امْرَأَة على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: ( إِنِّي ابتعت أَنا وَابْني من فلَان تَمرا، فأحصيناه.
لَا وَالَّذِي أكرمك بِالْحَقِّ مَا أحصينا مِنْهُ إلاَّ مَا نأكله فِي بطوننا، أَو نطعمه مِسْكينا، وَجِئْنَا نستوضعه مَا نقصنا، فَقَالَ: إِن شِئْت وضعت مَا نَقَصُوا وَإِن شِئْت من رَأس المَال)
.
فَوضع مَا نَقَصُوا،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَذَا يشْعر بِأَن المُرَاد بِالْوَضْعِ: الْحَط من رَأس المَال، وبالرفق: الِاقْتِصَار عَلَيْهِ، وَترك الزِّيَادَة، لَا كَمَا زعم بعض الشُّرَّاح: أَنه يُرِيد بالرفق الْإِمْهَال.
قلت: قد فسر الشَّيْخ مُحي الدّين الرِّفْق: بالرفق فِي الْمُطَالبَة وَهُوَ الْإِمْهَال.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الحض على الرِّفْق بالغريم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ بِالْوَضْعِ عَنهُ.
وَفِيه: الزّجر عَن الْحلف على ترك فعل الْخَيْر،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: إِنَّمَا كره ذَلِك لكَونه حلف على ترك أَمر عَسى أَن يكون قد قدر الله وُقُوعه، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن التِّين بِأَنَّهُ: لَو كَانَ كَذَلِك لكره الْحلف لمن حلف: ليفعلن خيرا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الَّذِي يظْهر أَنه كره لَهُ قطع نَفسه عَن فعل الْخَيْر، قَالَ: وَيشكل على هَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأعرابي الَّذِي قَالَ: وَالله لَا أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص، فَقَالَ: أَفْلح إِن صدق، وَلم يُنكر عَلَيْهِ حلفه على ترك الزِّيَادَة، وَهِي من فعل الْخَيْر.
وَأجِيب: بِأَن فِي قصَّة الْأَعرَابِي كَانَ فِي مقَام الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام والاستمالة إِلَى الدُّخُول فِيهِ، بِخِلَاف من تمكن فِي الْإِسْلَام، فيحضه على الازدياد من نوافل الْخَيْر.
وَفِيه: سرعَة فهم الصَّحَابَة لمراد الشَّارِع وطواعيتهم لما يُشِير إِلَيْهِ وحرصهم على فعل الْخَيْر.
وَفِيه: الصفح عَمَّا يجْرِي بَين المتخاصمين من اللغظ وَرفع الصَّوْت عِنْد الْحَاكِم.
وَفِيه: جَوَاز سُؤال الْمَدْيُون الحطيطة من صَاحب الدّين، خلافًا لمن كرهه من الْمَالِكِيَّة، واعتل بِمَا فِيهِ من تحمل الْمِنَّة،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: لَعَلَّ من أطلق كَرَاهَته أَنه أَرَادَ أَنه خلاف الأولى.
قلت: يَنْبَغِي أَن يكون مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا هَكَذَا لِأَنَّهُ علل فِي جَوَاز تيَمّم الْمُسَافِر الَّذِي عدم المَاء، وَمَعَ رَفِيقه مَاء، بقوله: لِأَن فِي السُّؤَال ذلاً.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَفِيه: أَنه لَا بَأْس بالسؤال بِالْوَضْعِ والرفق لَكِن بِشَرْط أَن لَا يَنْتَهِي إِلَى الإلحاح وإهانة النَّفس أَو الْإِيذَاء، وَنَحْو ذَلِك إلاَّ من ضَرُورَة.
وَفِيه: الشَّفَاعَة إِلَى أَصْحَاب الْحُقُوق وَقبُول الشَّفَاعَة فِي الْخَيْر.
فَإِن قلت: هَل كَانَت فِي يَمِين المتألي الْمَذْكُور كَفَّارَة أم لَا؟ قلت: قَالَ صَاحب ( التَّوْضِيح) : إِن كَانَت يَمِينه بعد نزُول الْكَفَّارَة فَفِيهَا الْكَفَّارَة،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَيسْتَحب لمن حلف أَن لَا يفعل خيرا أَن يَحْنَث فيكفر عَن يَمِينه.





[ قــ :586 ... غــ :706 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ جَعْفَرِ بنِ رَبِيعَةَ عنِ الأعْرَجِ قَالَ حَدثنِي عبْدُ الله بنُ كعْبٍ بنِ مالِكٍ عنْ كعْبِ بنِ مالِكٍ أنَّهُ كانَ لَهُ على عَبْدِ الله بنِ أبِي حَدْرَدٍ الأسْلَمِيّ مالٌ فَلَقِيَهُ فلَزِمَهُ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أصْواتُهُمَا فَمَرَّ بهِمَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا كعْبُ فأشارَ بِيَدِهِ كأنَّهُ يقولُ النَّصفَ فأخذَ نِصْفَ مالَهُ علَيْهِ وتَرَكَ نِصْفَاً..
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بابُُ التقاضي والملازمة فِي الْمَسْجِد عَن عبد الله بن مُحَمَّد ... إِلَى آخِره.
والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وروى ابْن أبي شيبَة أَن الدّين الْمَذْكُور كَانَ أوقيتين.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث أصل لقَوْل النَّاس: ( خير الصُّلْح على الشّطْر) .
قَوْله: ( النّصْف) ، مَنْصُوب بِتَقْدِير: ارتك النّصْف، أَو نَحوه.