فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار، والشروط التي يتعارفها الناس بينهم، وإذا قال: مائة إلا واحدة أو ثنتين

(بابُُ مَا يَجُوزُ مِنَ الإشْتِرَاطَ والثُّنْيا فِي الإقْرَارِ والشُّرُوطِ الَّتِي يتَعَارَفها النَّاسُ بَيْنَهُمْ وإذَا قَالَ مائَةً إلاَّ واحِدَةً أوْ ثِنْتَيْنِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا يجوز من الِاشْتِرَاط.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَقع فِي بعض النّسخ: بابُُ مَا لَا يجوز فِي الِاشْتِرَاط والثنيا، قَالَ: وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب: بابُُ مَا يجوز، والْحَدِيث الَّذِي ذكره البُخَارِيّ بعد يدل على صِحَّته.
قَوْله: (والثنيا) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون النُّون بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف مَقْصُور أَي: الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِقْرَار سَوَاء كَانَ اسْتثِْنَاء قليلٍ من كثير، أَو بِالْعَكْسِ، فَالْأول لَا خلاف فِيهِ أَنه يجوز، وَالثَّانِي مُخْتَلف فِيهِ.
وَحَدِيث الْبابُُ يدل على جَوَاز اسْتثِْنَاء الْقَلِيل من الْكثير، وَهَذَا جَائِز عِنْد أهل اللُّغَة وَالْفِقْه والْحَدِيث قَالَ الدَّاودِيّ: أَجمعُوا على من اسْتثْنى فِي إِقْرَاره مَا بَقِي بعده بَقِيَّة مَا أقرّ بِهِ أَن لَهُ ثنياه، فَإِذا قَالَ لَهُ: عَليّ ألف إلاَّ تِسْعمائَة وَتِسْعَة وتسعية، صَحَّ وَلَزِمَه وَاحِد.
قَالَ: وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: أَنْت طَالِق ثَلَاثَة إلاَّ ثِنْتَيْنِ، لقَوْله تَعَالَى: { فَلبث فيهم ألف سنة إلاَّ خمسين عَاما} (العنكبوت: 41) .
قَالَ ابْن التِّين: وَهَذَا الَّذِي ذكره الدَّاودِيّ أَنه إِجْمَاع لَيْسَ كَذَلِك، وَلَكِن هُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وَذكر الشَّيْخ أَبُو الْحسن قولا ثَالِثا فِي قَوْله: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إلاَّ ثِنْتَيْنِ، أَنه يلْزمه ثَلَاث، وَذكر القَاضِي فِي معونته عَن عبد الْملك وَغَيره أَنه يَقُول: لَا يَصح اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، واحتجاج الدَّاودِيّ بِهَذِهِ الْآيَة غير بَين، وَإِنَّمَا الْحجَّة فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى: { إلاَّ من اتبعك من الغاوين} (الْحجر: 24) .
وَقَوله: { إلاَّ عِبَادك مِنْهُم المخلصين} (الْحجر: 51، وص: 38) .
فَإِن جعلت: المخلصين، الْأَكْثَر فقد استثناهم، وَإِن جعلت: الغاوين الْأَكْثَر فقد استثناهم أَيْضا، وَلِأَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج، فَإِذا جَازَ إِخْرَاج الْأَقَل جَازَ إِخْرَاج الْأَكْثَر، وَمذهب الْبَصرِيين من أهل اللُّغَة وَابْن الْمَاجشون: الْمَنْع، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ حَيْثُ أَدخل هَذَا الحَدِيث هُنَا باستثناء الْقَلِيل من الْكثير.
قَوْله: (والشروط) ، أَي: وَفِي بَيَان الشُّرُوط الَّتِي يتعارفها النَّاس بَينهم، نَحْو: أَن يَشْتَرِي نعلا أَو شراكاً بِشَرْط أَن يحذوه البَائِع، أَو اشْترى أديماً بِشَرْط أَن يخرز لَهُ خفاً، أَو اشْترى قلنسوة بِشَرْط أَن يبطنه البَائِع، فَإِن هَذِه الشُّرُوط كلهَا جَائِزَة، لِأَنَّهُ مُتَعَارَف متعامل بَين النَّاس، وَفِيه خلاف زفر، وَكَذَا لَو اشْترى شَيْئا وَشرط أَن يرهنه بِالثّمن رهنا، وَسَماهُ أَو يُعْطِيهِ كَفِيلا وَسَماهُ وَالْكَفِيل حَاضر وَقَبله، وَكَذَلِكَ: الْحِوَالَة، جَازَ اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر، وَأما الشُّرُوط الَّتِي لَا يتعارفها النَّاس فباطلة، نَحْو مَا إِذا اشْترى حِنْطَة وَشرط على البَائِع طحنها أَو حملانها إِلَى منزله، أَو اشْترى دَارا على أَن يسكنهَا شهرا، فَإِن ذَلِك كُله لَا يَصح لعدم التعارف والتعامل.
قَوْله: (وَإِذا قَالَ مائَة إلاَّ وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ) ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اخْتِيَاره جَوَاز اسْتثِْنَاء الْقَلِيل من الْكثير، وَعدم جَوَاز عَكسه، وَذكر بِهَذَا صُورَة اسْتثِْنَاء الْقَلِيل من الْكثير، نَحْو مَا إِذا قَالَ: لفُلَان عَليّ مائَة دِرْهَم، مثلا، إلاَّ وَاحِدَة أَو الإثنتين، فَإِنَّهُ يَصح، وَيلْزمهُ فِي قَوْله: إلاَّ وَاحِدَة، تِسْعَة وَتسْعُونَ درهما.
وَفِي قَوْله إِلَّا اثْنَتَيْنِ: يلْزمه ثَمَانِيَة وَتسْعُونَ درهما.

وَقَالَ ابنُ عَوْنٍ عنِ ابنِ سِيرينَ قَالَ: قَالَ رجُلٌ لَكَرِيِّهِ أدْخِلْ رِكَابَكَ فإنْ لَمْ أرْحَلْ معَكَ يَوْمَ كَذَا وكَذَا فَلَكَ مائَةُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَالَ شُرَيْحٌ منْ شَرَطَ علَى نَفْسِهِ طائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهْوَ عَلَيْهِ

ابْن عون هُوَ: عبد الله بن عون بن أرطبان الْبَصْرِيّ، وَابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين، وَشُرَيْح هُوَ القَاضِي.
قَوْله: (لكريه) بِفَتْح الْكَاف وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، على وزن فعيل هُوَ المكاري، قَوْله: (ادخل) من الإدخال وركابك مَنْصُوب بِهِ، والركاب، بِكَسْر الرَّاء: الْإِبِل الَّتِي يسَار عَلَيْهَا والواحدة: رَاحِلَة وَلَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا.
قَوْله: (فَلم يخرج) ، أَي: لم يرحل مَعَه، يلْزمه مائَة دِرْهَم عِنْد شُرَيْح، وَهُوَ معنى قَوْله: قَالَ شُرَيْح: من شَرط على نَفسه طَائِعا، أيَّ حَال كَونه طَائِعا مُخْتَارًا غير مكره عَلَيْهِ، فَهُوَ أَي الشَّرْط الَّذِي شَرط عَلَيْهِ أَي يلْزمه، وَفِي هَذَا خَالف النَّاس شريحاً، يَعْنِي: لَا يلْزمه شَيْء، لِأَنَّهُ عدَّة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن ابْن عون ... إِلَى آخِره.

وَقَالَ أيُّوبُ عنِ ابنِ سِيرينَ إنَّ رجُلاً باعَ طعَاماً.

     وَقَالَ  إنْ لَمْ آتِكَ الأرْبِعاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وبيْنَكَ بَيْعٌ فلَمْ يَجيءْ فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي أنْتَ أخْلَفْتَ فَقضَى علَيْهِ
أَيُّوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
قَوْله: (الْأَرْبَعَاء) أَي: يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَهَذَا الشَّرْط جَائِز أَيْضا عِنْد شُرَيْح لِأَنَّهُ قَالَ للْمُشْتَرِي عِنْد التحاكم إِلَيْهِ: أَنْت أخلفت الميعاد، فقضي عَلَيْهِ بِرَفْع البيع، وَهَذَا أَيْضا مَذْهَب أبي حنيفَة وَأحمد وَإِسْحَاق،.

     وَقَالَ  مَالك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: يَصح البيع وَيبْطل الشَّرْط، وَهَذَا التَّعْلِيق أَيْضا وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين فَذكره.



[ قــ :2611 ... غــ :2736 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ لله تَسْعَةً وتِسْعِينَ إسْماً مائَةً إلاَّ واحِداً مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي موضِعين.
أَحدهمَا: فِي قَوْله: (والثنيا) من غير قيد بِالْإِقْرَارِ، لِأَن الثنيا فِي نَفسه أَعم من أَن يكون فِي الْإِقْرَار أَو فِي غَيره، كَمَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور.
وَالْآخر: فِي قَوْله: (مائَة إلاَّ وَاحِدَة) .

وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي الْيَمَان أَيْضا.

     وَقَالَ  الْمُزنِيّ: وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدَّعْوَات عَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت عَن عمرَان بن بكار.
قلت: أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة: حَدثنِي الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين إسماً، مائَة إلاَّ وَاحِدًا، إِنَّه وتر يحب الْوتر، من حفظهَا دخل الْجنَّة) فَذكرهَا مفصلة إسماً بعد إسم.
.

     وَقَالَ  فِي آخِره، قَالَ زُهَيْر: فَبَلغنَا عَن غير وَاحِد من أهل الْعلم أَن أَولهَا يفْتَتح بقوله: (لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير، لَا إِلَه إلاَّ الله لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى) .
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وَقد روى هَذَا الحَدِيث من غير وَجه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يعلم فِي كثير شَيْء من الرِّوَايَات ذكر الْأَسْمَاء إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث.
وَقد روى آدم بن أبي إِيَاس هَذَا الحَدِيث بِإِسْنَاد غير هَذَا عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر فِيهِ الْأَسْمَاء، وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَاد صَحِيح.
وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) :.

     وَقَالَ : هَذَا حَدِيث صَحِيح قد خرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ بأسانيد صَحِيحَة، دون ذكر الْأَسَامِي فِيهِ، وَالْعلَّة فِيهِ عِنْدهمَا أَن الْوَلِيد بن مُسلم تفرد بسياقه بِطُولِهِ وَذكر الْأَسَامِي فِيهِ وَلم يطكر غَيره وَلَيْسَ هَذَا بعلة فَإِنِّي لَا أعلم خلافًا بَين أَئِمَّة الحَدِيث أَن الْوَلِيد بن مُسلم أوثق وأحفظ وَأعلم وَأجل من أبي الْيَمَان وَبشر بن شُعَيْب وَعلي بن عَيَّاش وأقرانهم من أَصْحَاب شُعَيْب.
وَأخرجه ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) .

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين إسماً) لَيْسَ فِيهِ نفي غَيرهَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ حَدِيث ابْن مَسْعُود يرفعهُ: (أَسأَلك بِكُل اسْم هُوَ لَك سميت بِهِ نَفسك أَو أنزلته فِي كتبك أَو عَلمته أحدا من خلقك أَو استأثرت بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك) .
.
الحَدِيث، وَحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (أللهم إِنِّي أَسأَلك بِجَمِيعِ أسمائك الْحسنى كلهَا، مَا علمنَا مِنْهَا وَمَا لم نعلم، وَأَسْأَلك بِاسْمِك الْعَظِيم الْأَعْظَم الْكَبِير الْأَكْبَر من دعَاك بِهِ أَجَبْته) .
قَالَت: فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصبتيه أصبتيه) .
وَأما وَجه التَّخْصِيص بذكرها فَلِأَنَّهَا أشهر الْأَسْمَاء وأبينها مَعَاني.
قَوْله: (مائَة إِلَّا وَاحِدًا) أَي: إلاَّ إسماً وَاحِدًا.
ويروى: (وَاحِدَة) أنثها ذَهَابًا إِلَى معنى التَّسْمِيَة أَو الصّفة أَو الْكَلِمَة.
فَإِن قلت: مَا فَائِدَة هَذَا التَّأْكِيد.
قلت: قيل: إِن معرفَة أَسمَاء الله تَعَالَى وَصِفَاته توقيفية تعلم من طَرِيق الْوَحْي وَالسّنة، وَلم يكن لنا أَن نتصرف فِيهَا بِمَا لم يهتد إِلَيْهِ مبلغ علمنَا ومنتهى عقولنا، وَقد منعنَا عَن إِطْلَاق مَا لم يرد بِهِ التَّوْقِيف فِي ذَلِك، وَإِن جوزه الْعقل وَحكم بِهِ الْقيَاس كَانَ الْخَطَأ فِي ذَلِك غير هَين، والمخطيء فِيهِ غير مَعْذُور، وَالنُّقْصَان عَنهُ كالزيادة فِيهِ غير مرضِي، وَكَانَ الِاحْتِمَال فِي رسم الْخط وَاقعا باشتباه تِسْعَة وَتِسْعين فِي زلَّة الْكَاتِب وهفوة الْقَلَم بسبعة وَتِسْعين أَو سَبْعَة وَسبعين أَو تِسْعَة وَسبعين، فينشأ الِاخْتِلَاف فِي المسموع من المسطور، فأكده بِهِ حسماً لمادة الْخلاف، وإرشاداً إِلَى الِاحْتِيَاط فِي هَذَا الْبابُُ.
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي الِاسْتِثْنَاء؟ قلت: قيل: الْفَرد أفضل من الزَّوْج، وَلذَلِك (جَاءَ: أَن الله وتر يحب الْوتر) ، ومنتهى الْإِفْرَاد من الْمَرَاتِب من غير تكْرَار تِسْعَة وَتسْعُونَ، لِأَن مائَة وَوَاحِدَة يتَكَرَّر فِيهِ الْوَاحِد، وَقيل: الْكَمَال فِي الْعدَد من الْمِائَة، لِأَن الْأَعْدَاد كلهَا ثَلَاثَة أَجنَاس: آحَاد وعشران ومآت، لِأَن الألوف ابْتِدَاء آحَاد آخر بدل عشرات الألوف وآحادها، فأسماء الله تَعَالَى مائَة، وَقد اسْتَأْثر الله مِنْهَا بِوَاحِد، وَهُوَ الِاسْم الْأَعْظَم لم يطلع عَلَيْهِ غَيره، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مائَة، لَكِن وَاحِد مِنْهَا عِنْد الله.
قَوْله: (من أحصاها) ، قَالَ الْخطابِيّ: الإحصاء يحْتَمل وُجُوهًا: أظهرها: العدّ لَهَا حَتَّى يستوفيها، أَي: لَا يقْتَصر على بَعْضهَا، بل يثني على الله تَعَالَى بجميعها.
وَثَانِيها: الإطاقة، أَي: من أطَاق الْقيام بِحَقِّهَا وَالْعَمَل بمقتضاها، وَهُوَ أَن يعْتَبر مَعَانِيهَا وَيلْزم نَفسه بواجبها، فَإِذا قَالَ: الرَّزَّاق ألزم ووثق بالرزق، وهلم جراً.
وَثَالِثهَا: الْعقل، أَي: من عقلهَا وأحاط علما بمعانيها من قَوْلهم: فلَان ذُو حَصَاة، أَي: ذُو عقل، وَقيل: أحصاها، أَي: عرفهَا، لِأَن الْعَارِف بهَا لَا يكون إلاَّ مُؤمنا، وَالْمُؤمن يدْخل الْجنَّة لَا محَالة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: لَعَلَّه يكون المُرَاد بقوله: (من أحصاها) من قَرَأَ الْقُرْآن حَتَّى يختمه فيستوفي، أَي: من حفظ الْقُرْآن الْعَزِيز دخل الْجنَّة، لِأَن جَمِيع الْأَسْمَاء فِيهِ.
وَقيل: من أحصاها، أَي: حفظهَا، هَكَذَا فسره البُخَارِيّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَيُؤَيِّدهُ أَنه ورد فِي رِوَايَة فِي (الصَّحِيح) : من حفظهَا دخل الْجنَّة.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: أَرَادَ بِالْحِفْظِ: الْقِرَاءَة بِظهْر الْقلب، فَيكون كِنَايَة، لِأَن الْحِفْظ يسْتَلْزم التّكْرَار، فَالْمُرَاد بالإحصاء تكْرَار مجموعها.
فَإِن قلت: لم ذكر الْجَزَاء بِلَفْظ الْمَاضِي؟ قلت: تَحْقِيقا لوُقُوعه كَأَنَّهُ قد وجد.

فَوَائِد: أَسمَاء الله تَعَالَى مَا يَصح أَن يُطلق عَلَيْهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِالنّظرِ إِلَى ذَاته: كالله، أَو بِاعْتِبَار صفة من صِفَاته السلبية: كالقدوس وَالْأول، أَو الْحَقِيقِيَّة: كالعليم والقادر، أَو الإضافية: كالحميد وَالْملك؛ أَو بِاعْتِبَار فعل من أَفعاله: كالخالق والرزاق.

     وَقَالَ ت الْمُعْتَزلَة: الِاسْم هُوَ التَّسْمِيَة دون الْمُسَمّى،.

     وَقَالَ  الْغَزالِيّ: الِاسْم هُوَ اللَّفْظ الدَّال على الْمَعْنى بِالْوَضْعِ لُغَة، والمسمى هُوَ الْمَعْنى الْمَوْضُوع لَهُ الِاسْم، وَالتَّسْمِيَة وضع اللَّفْظ لَهُ أَو إِطْلَاقه عَلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: قَالَ مَشَايِخنَا: التَّسْمِيَة هُوَ اللَّفْظ الدَّال على الْمُسَمّى، وَالِاسْم هُوَ الْمَعْنى الْمُسَمّى بِهِ، كَمَا أَن الْوَصْف هُوَ لفظ الواصف، وَالصّفة مَدْلُوله، وَهُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بالموصوف، وَقد يُطلق وَيُرَاد بِهِ اللَّفْظ، كَمَا تطلق الصّفة وَيُرَاد الْوَصْف إطلاقاً لاسم الْمَدْلُول على الدَّال، وَعَلِيهِ اصطلحت النُّحَاة.
وَقيل: الْفرق بَين الِاسْم والمسمى إِنَّمَا يظْهر من قَوْلك: رَأَيْت زيدا، فَإِن المُرَاد بِالِاسْمِ الْمُسَمّى لِأَن المرئي لَيْسَ (ز ي د) فَإِذا قلت: سميته زيدا، فَالْمُرَاد غير الْمُسَمّى، لِأَن مَعْنَاهُ سميته بِمَا يتركب من هَذِه الْحُرُوف، وَفِي قَوْلك: زيد حسن، لفظ مُشْتَرك أَن تَعْنِي بِهِ هَذَا اللَّفْظ حسن، وَأَن تَعْنِي بِهِ الْمُسَمّى حسن، وَأما قَول من قَالَ: لَو كَانَ الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى لَكَانَ من قَالَ: نَار، احْتَرَقَ فَمه، فَهُوَ بعيد.
لِأَن الْعَاقِل لَا يَقُول إِن زيدا الَّذِي هُوَ: زَاي وياء ودال، هُوَ الشَّخْص.
.

     وَقَالَ  محيي السّنة فِي (معالم التَّنْزِيل) : الْإِلْحَاد فِي أَسْمَائِهِ تَسْمِيَته بِمَا لَا ينْطق بِهِ كتاب وَلَا سنة.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي كِتَابه (مَفَاتِيح الْحجَج) : أَسمَاء الله تُؤْخَذ توقيفاً ويراعى فِيهَا الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، فَكل اسْم ورد فِي هَذِه الْأُصُول وَجب إِطْلَاقه فِي وَصفه تَعَالَى، وَمَا لم يرد فِيهِ لَا يجوز إِطْلَاقه فِي وَصفه، وَإِن صَحَّ مَعْنَاهُ.
.

     وَقَالَ  الرَّاغِب: ذهبت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَنه يَصح أَن يُطلق على الله تَعَالَى كل اسْم يَصح مَعْنَاهُ فِيهِ، والأفهام الصَّحِيحَة البشرية لَهَا سَعَة ومجال فِي اخْتِيَار الصِّفَات.
قَالَ: وَمَا ذهب إِلَيْهِ أهل الحَدِيث هُوَ الصَّحِيح، وَلَو ترك الْإِنْسَان وعقله لما جسر أَن يُطلق عَلَيْهِ عَامَّة هَذِه الْأَسْمَاء الَّتِي ورد الشَّرْع بهَا، إِذْ كَانَ أَكْثَرهَا على حسب تعارفنا يَقْتَضِي أعراضاً، إِمَّا كمية نَحْو: الْعَظِيم وَالْكَبِير، وَإِمَّا كَيْفيَّة نَحْو الْحَيّ والقادر، أَو زَمَانا نَحْو: الْقَدِيم وَالْبَاقِي، أَو مَكَانا نَحْو: الْعلي والمتعالي، أَو أنفعالاً نَحْو: الرَّحِيم والودود، وَهَذِه معانٍ لَا تصح عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على حسب مَا هُوَ مُتَعَارَف بَيْننَا، وَإِن كَانَ لَهَا معانٍ معقولة عِنْد أهل الْحَقَائِق، من أجلهَا صَحَّ إِطْلَاقهَا عَلَيْهِ، عز وَجل.
.

     وَقَالَ  الزّجاج: لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَدعُوهُ لما لم يصف بِهِ نَفسه، فَيَقُول: يَا رَحِيم لَا يَا رَقِيق، وَيَقُول: يَا قوي لَا يَا خَلِيل، وَذكر الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحسن ابْن الْحسن الْحَلِيمِيّ: أَن أَسمَاء الله الَّتِي ورد بهَا الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْعلمَاء على تَسْمِيَته بهَا منقسمة بَين عقائد خمس: الأول: إِثْبَات الْبَارِي لتقع بِهِ مُفَارقَة التعطيل.
الثَّانِي: إِثْبَات وحدانيته لتقع بِهِ الْبَرَاءَة من الشّرك.
الثَّالِث: إِثْبَات أَنه لَيْسَ بجوهر وَلَا عرض لتقع بِهِ الْبَرَاءَة من التَّشْبِيه.
الرَّابِع: إِثْبَات إِن وجود كل مَا سواهُ كَانَ من قبل إبداعه واختراعه إِيَّاه لتقع الْبَرَاءَة من قَول من يَقُول بِالْعِلَّةِ والمعلول.
الْخَامِس: إِثْبَات أَنه مُدبر مَا أبدع ومصرفه على مَا يَشَاء، لتقع بِهِ الْبَرَاءَة من قَول الْقَائِلين بالطبائع أَو بتدبير الْكَوَاكِب، أَو بتدبير الْمَلَائِكَة، عَلَيْهِم السَّلَام.
وَزعم ابْن حزم أَن من زَاد شَيْئا فِي الْأَسْمَاء على التِّسْعَة وَالتسْعين من عِنْد نَفسه فقد ألحد فِي أَسْمَائِهِ، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: مائَة إلاَّ وَاحِدًا، فَلَو جَازَ أَن يكون لَهُ إسم زَائِد لكَانَتْ مائَة.