فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس

( بابٌُ أَن يَتْرُكَ ورَثَتَهُ أغْنِياءً خيْرٌ مِنْ أنْ يتَكَفَّفُوا النَّاسَ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ أَن يتْرك ... إِلَى آخِره، وَأخذ هَذِه التَّرْجَمَة من لفظ الحَدِيث مَعَ بعض تغير فِي اللَّفْظ، فَإِن لفظ الحَدِيث: ( إِنَّك إِن تدع وَرثتك أَغْنِيَاء خير من أَن تَدعهُمْ عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس) ، وَكلمَة: أَن، يجوز فِيهَا فتح الْهمزَة وَكسرهَا، فَفِي الْفَتْح يكون: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: بِأَن يتْرك، أَي: تَركه ورثته أَغْنِيَاء.
فَقَوله أَن يتْرك فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء بالتقدير الْمَذْكُور، وَقَوله: خير، خَبره، وَفِي الْكسر تكون: إِن شَرْطِيَّة وجزاؤها مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن يتْرك ورثته أَغْنِيَاء فَهُوَ خير،.

     وَقَالَ  ابْن مَالك: من خص هَذَا الحكم بالشعر فقد ضيق الْوَاسِع، والتكفف بسط الْكَفّ للسؤال، أَو يسْأَل النَّاس كفافاً من الطَّعَام أَو مَا يكف الجوعة، أَو بِمَعْنى: يسْأَلُون بالكف.



[ قــ :2617 ... غــ :2742 ]
- حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ عامِرِ بنِ سَعدٍ عنْ سَعْدِ ابنِ أبِي وقَّاصٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ جاءَ النبيُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعُودُنِي وأنَا بِمَكَّةَ وهْوَ يَكْرَهُ أنْ يَمُوتَ بالأرْضِ الَّتِي هاجَرَ مِنْهَا قَالَ يَرْحَمُ الله ابنَ عَفْرَاءَ.

قُلْتُ يَا رسولَ الله أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا.

قُلْتُ فالشَّطْرِ قَالَ لَا قلْتُ الثُّلْثُ قَالَ فالثُّلْثِ والثُّلْثُ كَثيرٌ إنَّكَ أنْ تدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خيْرٌ مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يَتكَفُّفُونَ النَّاسَ فِي أيْدِيهِمْ وإنَّكَ مَهْمَا أنْفَقْتَ مِنْ نَفَقةٍ فإنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأتِكَ وعَساى الله أنْ يَرْفَعَكَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسً ويُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ ولَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إلاَّ ابْنةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا مِنْهُ كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَسعد ابْن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وعامر بن سعد يروي عَن أَبِيه سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: ( بابُُ رثاء النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سعد بن خَوْلَة) ، وَقد مضى بعض الْكَلَام فِيهِ، ولنتكلم أَيْضا زِيَادَة للفائدة.

قَوْله: ( يعودنِي) ، جملَة وَقعت حَالا، وَكَذَلِكَ قَوْله: ( وَأَنا بِمَكَّة) ، حَال، وَزَاد الزُّهْرِيّ فِي رِوَايَته فِي حجَّة الْوَدَاع: من وجع اشْتَدَّ بِي، وَله فِي الْهِجْرَة: من وجع أشفيت مِنْهُ على الْمَوْت.
وَاتفقَ أَصْحَاب الزُّهْرِيّ على أَن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع إلاَّ ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: فِي فتح مَكَّة، أخرجه التِّرْمِذِيّ وَغَيره من طَرِيقه وَاتفقَ الْحفاظ على أَنه وهم فِيهِ، وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الْفَرَائِض من طَرِيقه، فَقَالَ: ( بِمَكَّة) ، وَلم يذكر الْفَتْح، وَيُؤَيّد كَلَام ابْن عُيَيْنَة مَا رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبُخَارِيّ فِي ( التَّارِيخ) وَابْن سعد من حَدِيث عَمْرو بن الْقَارِي: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قدم فخلف سَعْدا مَرِيضا حَيْثُ خرج إِلَى حنين، فَلَمَّا قدم من الْجِعِرَّانَة مُعْتَمِرًا دخل عَلَيْهِ وَهُوَ مغلوب، فَقَالَ: يَا رَسُول الله { إِن لي مَالا وَإِنِّي أورث كَلَالَة، أفأوصي بِمَا لي ... الحَدِيث، وَفِيه: قلت: يَا رَسُول الله} أميّت أَنا بِالدَّار الَّتِي خرجت مِنْهَا مُهَاجرا؟ قَالَ: إِنِّي لأرجو أَن يرفعك الله حَتَّى ينْتَفع بك أَقوام ... الحَدِيث.
فَإِن قلت: بَين الرِّوَايَتَيْنِ فيهمَا مَا فِيهِ؟ قلت: يُمكن التَّوْفِيق بَينهمَا بِأَن يكون ذَلِك وَقع مرَّتَيْنِ: مرّة عَام الْفَتْح، وَمرَّة عَام حجَّة الْوَدَاع فَفِي الأولى: لم يكن لَهُ وَارِث من الْأَوْلَاد أصلا.
وَفِي الثَّانِيَة: كَانَت لَهُ بنت فَقَط.
قَوْله: ( وَهُوَ يكره أَن يَمُوت بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجر مِنْهَا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ يكره، أَي: رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ كَلَام سعد يَحْكِي كَلَام رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو هُوَ كَلَام عَام يَحْكِي حَال وَلَده،.

     وَقَالَ  بَعضهم: قَوْله: ( وَهُوَ يكره أَن يَمُوت بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجر مِنْهَا) ، يحْتَمل أَن تكون الْجُمْلَة حَالا من الْمَفْعُول وَهُوَ سعد فَفِيهِ الْتِفَات، لِأَن السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يَقُول: وَأَنا أكره ... انْتهى.
قلت: هَذَا لَا يَخْلُو من التعسف، وَالظَّاهِر من التَّرْكِيب أَن الْجُمْلَة حَال من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالضَّمِير فِي: يكره، يرجع إِلَيْهِ، وَالَّذِي فِي: يَمُوت، يرجع إِلَى سعد، وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن لَا يكون سعد كَارِهًا أَيْضا، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا كَانَ كَارِهًا لذَلِك فكراهة سعد بِالطَّرِيقِ الأولى، وَدلّ على كَرَاهَته مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن ثَلَاثَة من ولد سعد عَن سعد، بِلَفْظ: ( فَقَالَ: يَا رَسُول الله { خشيت أَن أَمُوت بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرت مِنْهَا، كَمَا مَاتَ سعد بن خَوْلَة) .
قَوْله: ( قَالَ: يرحم الله ابْن عفراء) ، كَذَا وَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( يرحم الله سعد بن عفراء، ثَلَاث مَرَّات) .
قَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله: ( ابْن عفراء) غير مَحْفُوظ،.

     وَقَالَ  الْحَافِظ الدمياطي: هُوَ وهم، وَالْمَعْرُوف: ابْن خَوْلَة.
قَالَ: وَلَعَلَّ الْوَهم من سعد بن إِبْرَاهِيم، فَإِن الزُّهْرِيّ أحفظ مِنْهُ.
.

     وَقَالَ  فِيهِ: سعد ابْن خَوْلَة، يُشِير بذلك إِلَى مَا وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق جرير بن يزِيد عَن عَامر بن سعد: لَكِن البائس سعد بن خَوْلَة مَاتَ فِي الأَرْض الَّتِي هَاجر مِنْهَا.
قلت: البائس اسْم من بئس يبأس بؤساً وبأساً: إِذا خضع وافتقر واشتدت حَاجته،.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: يحْتَمل أَن يكون لأمه إسمان: خَوْلَة وعفراء،.

     وَقَالَ  غَيره: وَيحْتَمل أَن يكون أَحدهمَا إسماً وَالْآخر لقباً، أَو أَحدهمَا اسْم أمه وَالْآخر اسْم أَبِيه أَو اسْم جدة لَهُ، وَقيل فِي خَوْلَة: خوليّ، بِكَسْر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء وَالْوَاو سَاكِنة بِلَا خلاف، وَأغْرب ابْن التِّين فَحكى عَن الْقَابِسِيّ فتحهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة فِي الْفَرَائِض، قَالَ سُفْيَان: وَسعد بن خَوْلَة رجل من بني عَامر بن لؤَي، وَذكر ابْن إِسْحَاق: أَنه كَانَ حليفاً لَهُم، وَقيل: كَانَ من الْفرس الَّذين نزلُوا الْيمن.
قَوْله: ( قلت: يَا رَسُول الله} أوصِي بِمَالي كُله؟)
وَفِي رِوَايَة عَائِشَة بنت سعد عَن أَبِيهَا فِي الطِّبّ: أفأتصدق بِثُلثي مَالِي؟ وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ.
فَإِن قلت: لفظ: أَتصدق، يحْتَمل التَّنْجِيز وَالتَّعْلِيق بِخِلَاف لفظ: أوصِي.
قلت: لما كَانَ متحداً حمل لفظ: أَتصدق، على التَّعْلِيق جمعا بَين الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِن قلت: مَا وَجه الِاخْتِلَاف فِي السُّؤَال؟ قلت: كَأَنَّهُ سَأَلَ أَولا عَن الْكل، ثمَّ سَأَلَ عَن الثُّلثَيْنِ، ثمَّ سَأَلَ عَن النّصْف، ثمَّ سَأَلَ عَن الثُّلُث، وَقد وَقع مَجْمُوع ذَلِك فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) من حَدِيث عبيد الله بن عِيَاض عَن أَبِيه عَن جده عَمْرو ابْن عبد الْقَارِي: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على سعد بن مَالك يَوْم الْفَتْح ... الحَدِيث، وَفِيه: فَقَالَ سعد: يَا رَسُول الله! ( إِن مَالِي كثير وإنني أورث كَلَالَة، أفأتصدق بِمَالي كُله؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: أفأتصدق بثلثيه؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: أفأتصدق بشطره؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: أفأتصدق بِثُلثِهِ؟ قَالَ: نعم، وَذَلِكَ كثير)
، قَوْله: ( قلت فَالشَّطْر) ، أَي: النّصْف، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ بِالْجَرِّ أَو الرّفْع؟ قلت: وَجه الْجَرّ أَن يكون مَعْطُوفًا على قَوْله: بِمَالي كُله، وَوجه الرّفْع على تَقْدِير حذف الرافع، تَقْدِيره: أفيجوز الشّطْر؟ وَنسب إِلَى الزَّمَخْشَرِيّ جَوَاز النصب على تَقْدِير: أعيَّن الشطرَ أَو أسمي أَو نَحْو ذَلِك.
قَوْله: ( قلت: الثُّلُث؟) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، وَفِي بعض النّسخ: فَالثُّلُث، بِالْفَاءِ، فَإِن صحت هَذِه فَيجوز فِيهِ الْجَرّ أَيْضا، وَلَا يخفى ذَلِك على من يتَأَمَّل فِيهِ.
قَوْله: ( قَالَ: فَالثُّلُث؟) نصب على الإغراء، وَيجوز الرّفْع على الْفَاعِل، أَي: يَكْفِيك الثُّلُث؟ أَو على تَقْدِير الِابْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف أَو على الْعَكْس.
قَوْله: ( وَالثلث كثير) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة أَو بِالْبَاء الْمُوَحدَة.
وَقَوله: ( قلت: فَالثُّلُث؟ قَالَ: الثُّلُث، وَالثلث كثير) ، كَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ فِي الْهِجْرَة: ( قَالَ: الثُّلُث يَا سعد، وَالثلث كثير، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن مُصعب بن سعد عَن أَبِيه: ( قلت: فَالثُّلُث؟ قَالَ: نعم، وَالثلث كثير) .
وَفِي رِوَايَة عَائِشَة بنت سعد عَن أَبِيهَا فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِيهِ: ( قَالَ: الثُّلُث، وَالثلث كثير أَو كَبِير) .
وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن سعد بِلَفْظ: ( فَقَالَ: أوصيت؟ قلت: نعم، قَالَ: بكم؟ قلت: بِمَالي كُله.
قَالَ: فَمَا تركت لولدك؟ وَفِيه: أوصِ بالعشر؟ قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُول وَأَقُول حَتَّى قَالَ: أوص بِالثُّلثِ، وَالثلث كثير أَو كَبِير)
يَعْنِي: بِالْمُثَلثَةِ أَو بِالْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ شكّ من الرَّاوِي، وَالْمَحْفُوظ فِي أَكثر الرِّوَايَات بِالْمُثَلثَةِ، وَمَعْنَاهُ كثير بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دونه.
قَوْله: ( إِنَّك إِن تدع) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْبابُُ.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: فتح: ( إِن) وَكسرهَا صَحِيحَانِ، يَعْنِي: بِالْفَتْح تكون للتَّعْلِيل، وبالكسر تكون للشّرط.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: لَا معنى للشّرط هُنَا لِأَنَّهُ يصير لَا جَوَاب لَهُ وَيبقى: خير، لَا رَافع لَهُ،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: سمعناه من رُوَاة الحَدِيث بِالْكَسْرِ، وَأنْكرهُ شَيخنَا عبد الله بن أَحْمد، يَعْنِي: ابْن الخشاب،.

     وَقَالَ : لَا يجوز الْكسر، لِأَنَّهُ لَا جَوَاب لَهُ لخلو لفظ: خير، من الْفَاء، انْتهى.
قلت: هَذَا كَلَام سَاقِط من رجل ضَابِط، وَقد قُلْنَا: إِن الْفَاء حذفت وَتَقْدِيره: فَهُوَ خير، وَحذف الْفَاء من الْجَزَاء سَائِغ شَائِع غير مُخْتَصّ بِالضَّرُورَةِ.
قَوْله: ( وَرثتك) ، قيل: إِنَّمَا عبر بِلَفْظ: الْوَرَثَة، وَلم يقل: أَن تدع بنتك، مَعَ أَنه لم يكن لَهُ يَوْمئِذٍ إلاَّ ابْنة وَاحِدَة لكَون الْوَارِث حِينَئِذٍ لم يتَحَقَّق، لِأَن سَعْدا إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِنَاء على مَوته فِي ذَلِك الْمَرَض وبقائها بعده حَتَّى تَرثه، فَأَجَابَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَلَام كلي مُطَابق لكل حَاله، وَهُوَ قَوْله: ( وَرثتك) ، وَلم يخص بِنْتا من غَيرهَا.
وَقيل: إِنَّمَا عبر: بالورثة، لِأَنَّهُ اطلع على أَن سَعْدا سيعيش ويأتيه أَوْلَاد غير الْبِنْت الْمَذْكُورَة، فَكَانَ ذَلِك، وَولد لَهُ بعد ذَلِك أَرْبَعَة بَنِينَ، وَلَا أعرف أَسْمَاءَهُم، وَلَعَلَّ الله أَن يفتح بذلك، وَهَذَا ذُهُول شَدِيد مِنْهُ، فَإِن ثَلَاثَة من أَوْلَاده مذكورون فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عِنْد مُسلم من طَرِيق عَامر وَمصْعَب وَمُحَمّد ثَلَاثَتهمْ عَن سعد، وَالرَّابِع وَهُوَ عمر ابْن سعد فِي مَوضِع آخر، وَله غير هَؤُلَاءِ من الذُّكُور: إِبْرَاهِيم وَيحيى وَإِسْحَاق وَعبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَعَمْرو وَعمْرَان وَصَالح وَعُثْمَان وَإِسْحَاق الْأَصْغَر وَعمر الْأَصْغَر وَعُمَيْر مُصَغرًا وَغَيرهم، وَمن الْبَنَات: ثنتا عشرَة بِنْتا، وَقيل: لِأَن مِيرَاثه لم يكن منحصراً فِي بنته، وَقد كَانَ لِأَخِيهِ عتبَة بن أبي وَقاص أَوْلَاد إِذْ ذَاك مِنْهُم: هَاشم بن عتبَة الصَّحَابِيّ الَّذِي قتل بصفين.
قَوْله: ( عَالَة) أَي: فُقَرَاء، وَهُوَ جمع: عائل، وَهُوَ الْفَقِير من: عَال يعيل إِذا افْتقر وَمر تَفْسِيره: يَتَكَفَّفُونَ، فِي أول الْبابُُ.
قَوْله: ( فِي أَيْديهم) أَي: بِأَيْدِيهِم، أَو الْمَعْنى: يسْأَلُون بالكف اللِّقَاء فِي أَيْديهم.
قَوْله: ( وَإنَّك) ، عطف على قَوْله: ( إِن تدع) وَهَذَا كَأَنَّهُ عِلّة للنَّهْي عَن الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث، فينحل التَّرْكِيب إِلَى قَوْله: لَا تفعل، لِأَنَّك إِن مت تركت وَرثتك أَغْنِيَاء، وَإِن عِشْت تَصَدَّقت وانفقت، فالأجر حَاصِل لَك حَيا وَمَيتًا.
قَوْله: ( فَإِنَّهَا صَدَقَة) أَي: فَإِن النَّفَقَة صَدَقَة، وَأطلق الصَّدَقَة فِي هَذِه الرِّوَايَة وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ: ( فَإنَّك لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله إلاَّ أجرت بهَا) ، وَفِيه ذكرهَا مُقَيّدَة بابُتغاء وَجه الله وعلق حُصُول الْأجر بذلك وَهُوَ الْمُعْتَبر.
وَفِيه دلَالَة على أَن أجر الْوَاجِب يزْدَاد بِالنِّيَّةِ، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ.
قَوْله: ( حَتَّى اللُّقْمَة) ، حَتَّى هَذِه ابتدائية، يَعْنِي: حرف ابْتِدَاء ابْتَدَأَ بعده إِمَّا جملَة إسمية، كَمَا فِي قَوْله: حَتَّى مَاء دجلة، أشكل، أَو فعلية، كَمَا فِي قَوْله: حَتَّى عفوا، وَهنا الْجُمْلَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر،.

     وَقَالَ  بَعضهم: حَتَّى اللُّقْمَة، بِالنّصب عطفا على نَفَقَة، وَفِيه نظر، قَوْله: ( إِلَى فِي امْرَأَتك) أَي: إِلَى فَم امْرَأَتك.
فَإِن قلت: مَا وَجه تعلق النَّفَقَة بِقصَّة الْوَصِيَّة؟ قلت: لما كَانَ سُؤال سعد مشعراً برغبته فِي تَكْثِير الْأجر وَمنعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الزِّيَادَة على الثُّلُث، قَالَ لَهُ مسلياً: إِن جَمِيع مَا تَفْعَلهُ فِي مَالك من صَدَقَة ناجزة، وَمن نَفَقَة، وَلَو كَانَت وَاجِبَة توجر بهَا إِذا ابْتَغَيْت بذلك وَجه الله تَعَالَى.
فَإِن قلت: مَا وَجه تَخْصِيص الْمَرْأَة بالذّكر؟ قلت: لِأَن نَفَقَتهَا مستمرة بِخِلَاف غَيرهَا.
قَوْله: ( عَسى الله أَن يرفعك) ، أَي: يُطِيل عمرك، وَكَذَلِكَ اتّفق فَإِنَّهُ عَاشَ بعد ذَلِك أَزِيد من أَرْبَعِينَ سنة، لِأَنَّهُ مَاتَ سنة خمس وَخمسين من الْهِجْرَة.
وَقيل: سنة ثَمَان وَخمسين، فَيكون عَاشَ بعد حجَّة الْوَدَاع خمْسا وَأَرْبَعين أَو ثمانياً وَأَرْبَعين سنة.
قَوْله: ( فينتفع بك نَاس) أَي: ينْتَفع بك الْمُسلمُونَ بالغنائم مِمَّا سيفتح الله على يَديك من بِلَاد الشّرك، ويضرّ بك الْمُشْركُونَ الَّذين يهْلكُونَ على يَديك، وَزعم ابْن التِّين أَن المُرَاد بالنفع بِهِ مَا وَقع من الْفتُوح على يَدَيْهِ: كالقادسية وَغَيرهَا، وبالضرر مَا وَقع من تأمير وَلَده عمر بن سعد على الْجَيْش الَّذين قتلوا الْحُسَيْن بن عَليّ وَمن مَعَه،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هُوَ مَرْدُود لتكلفه بِغَيْر ضَرُورَة تحمل على إِرَادَة الضَّرَر الصَّادِر من وَلَده.
قلت: لَا ينظر فِيهِ من هَذَا الْوَجْه، بل فِيهِ معْجزَة من معجزات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أخبر بذلك بِالْإِشَارَةِ قبل وُقُوعه.
وَعَن الطَّحَاوِيّ فِي ذَلِك وَجه آخر، وَهُوَ أَنه روى من طَرِيق بكير بن عبد الله بن الْأَشَج عَن أَبِيه: أَنه سَأَلَ عَامر بن سعد عَن معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا، فَقَالَ: لما أَمر سعدٌ على الْعرَاق أَتَى بِقوم ارْتَدُّوا فاستتابهم، فَتَابَ بَعضهم وَامْتنع بَعضهم، فَانْتَفع بِهِ من تَابَ وَحصل الضَّرَر للآخرين.
قَوْله: ( وَلم يكن لَهُ يَوْمئِذٍ إلاَّ ابْنة) ، وَفِي رِوَايَة عَائِشَة بنت سعد أَن سَعْدا قَالَ: ( وَلَا يَرِثنِي إلاَّ ابْنة وَاحِدَة) .
قَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ لَا يَرِثنِي من الْوَلَد.
أَو من خَواص الْوَرَثَة أَو من النِّسَاء، وإلاَّ فقد كَانَ لسعد عصبات، لِأَنَّهُ من بني زهرَة وَكَانُوا كثيرين.
وَقيل: مَعْنَاهُ لَا يَرِثنِي من أَصْحَاب الْفُرُوض.
وَقيل: خصها بِالذكر على تَقْدِير: لَا يَرِثنِي مِمَّن أَخَاف عَلَيْهِ الضّيَاع وَالْعجز إلاَّ هِيَ.
وَقيل: ظن أَنَّهَا تَرث جَمِيع المَال، وَقيل: استكثر لَهَا نصف التَّرِكَة.
فَإِن قلت: هَل ذكر أحد من الشُّرَّاح اسْم هَذِه الْبِنْت؟ قلت: ذكر بَعضهم عَن بعض الْمُتَأَخِّرين أَن اسْمهَا: عَائِشَة، ثمَّ قَالَ: فَإِن كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا فَهِيَ غير عَائِشَة بنت سعد الَّتِي رَوَت هَذَا الحَدِيث عِنْد البُخَارِيّ، فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِيهِ، وَفِي الطِّبّ وَهِي تابعية عمرت حَتَّى أدْركهَا مَالك، وروى عَنْهَا، وَمَاتَتْ سنة سبع عشرَة وَمِائَة، لَكِن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بِنْتا تسمى عَائِشَة غير هَذِه، وَذكروا أَن أكبر بَنَاته: أم الحكم الْكُبْرَى، وَأمّهَا بنت شهَاب بن عبد الله بن الْحَارِث بن زهرَة، وَذكروا لَهُ بَنَات أُخْرَى أمهاتهن متأخرات الْإِسْلَام بعد الْوَفَاة النَّبَوِيَّة، فَالظَّاهِر أَن الْبِنْت الْمَذْكُورَة هِيَ: أم الحكم، الْمَذْكُورَة لتقدم تَزْوِيج سعد بأمها.
انْتهى، وَهَذَا أَيْضا تخمين، وَالله أعلم.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قد ذكرنَا أَكثر ذَلِك فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بابُُ رثاء النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سعد بن خَوْلَة، ولنذكر بعض شَيْء.
وَفِيه: زِيَارَة الْمَرِيض للْإِمَام فَمن دونه.
وَفِيه: دُعَاء الزائر للْمَرِيض بطول الْعُمر.
وَفِيه: الْحَث على صلَة الرَّحِم وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب، وَأَن صلَة الْأَقْرَب أفضل من صلَة الْأَبْعَد.
وَفِيه: الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الْخَيْر، لِأَن الْمُبَاح إِذا قصد بِهِ وَجه الله، صَار طَاعَة، وَقد نبه على ذَلِك بِأَقَلّ الحظوظ الدُّنْيَوِيَّة العادية، وَهُوَ وضع اللُّقْمَة فِي فَم الزَّوْجَة إِذْ لَا يكون ذَلِك غَالِبا إلاَّ عِنْد الملاعبة والممازحة، وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ يُؤجر عَلَيْهِ إِذا قصد بِهِ قصدا صَحِيحا، فَكيف بِمَا هُوَ فَوق ذَلِك؟ وَفِيه: أَن من لَا وَارِث لَهُ يجوز لَهُ الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أَن تذر وَرثتك أَغْنِيَاء) ، فمفهومه أَن من لَا وَارِث لَهُ لَا يُبَالِي بِالْوَصِيَّةِ بِمَا زَاد على الثُّلُث)
.
وَفِيه: اسْتِدْلَال من يرى بِالرَّدِّ بقوله: وَلَا يَرِثنِي إلاَّ ابْنة لي، للحصر.
وَاعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بِأَن المُرَاد من ذَوي الْفُرُوض، وَمن قَالَ بِالرَّدِّ لَا يَقُول بِظَاهِرِهِ، لأَنهم يعطونها فَرضهَا ثمَّ يردون عَلَيْهَا الْبَاقِي.
وَظَاهر الحَدِيث: أَنَّهَا تَرث الْجَمِيع ابْتِدَاء.
انْتهى.
قلت: هَذَا عِنْد ظَنّه أَنَّهَا تَرث الْجَمِيع، وَالْبِنْت الْوَاحِدَة لَيْسَ لَهَا إلاَّ النّصْف وَالْبَاقِي يكون بِالرَّدِّ بِنَصّ آخر، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: { وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} ( الْأَنْفَال: 57) .
يَعْنِي: بَعضهم أولى بِالْمِيرَاثِ بِسَبَب الرَّحِم، وَالله أعلم.