فهرس الكتاب

عمدة القاري - بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}

( بابُُ قَوْلِ الله تعالَى { يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنَكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمْ المَوْتُ حينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ تِحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فيُقْسِمَانِ بِاللَّه إنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنَاً ولوْ كانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إنَّا إذَاً لَمِنَ الآثِمِينَ فإنْ عُثِرَ علَى أنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْماً فآخَرَانِ يَقُومَانِ مقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ علَيْهِمُ الأوْلَيانِ فيُقْسِمانِ بِاللَّه لَشَهادَتُنا أحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذَاً لَمِنَ الظَّالِمِيٌّ ذَلِكَ أدْنَى أنْ يَأتُوا بالشَّهَادَةِ علَى وَجْهِهَا أوْ يَخَافُوا أنْ تُرَدَّ أيْمانٌ بعْدَ أيْمَانِهِمْ واتَّقُوا الله واسْمَعُوا وَالله لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ} ( الْمَائِدَة: 601، 701) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان سَبَب نزُول قَول الله عز وَجل: { يَا أيُّهَا الَّذين آمنُوا} إِلَى قَوْله: { الْفَاسِقين} ( الْمَائِدَة: 601، 701) .
وَإِنَّمَا قُلْنَا كَذَلِك لِأَن فِي حَدِيث الْبابُُ صرح بقوله: وَفِيهِمْ نزلت هَذِه الْآيَة: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم} ( الْمَائِدَة: 601 701) .
على مَا يَجِيء بَيَانه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وسيقت هَذِه الْآيَات الثَّلَاث فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر سيق من أول { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} ( الْمَائِدَة: 601 701) .
إِلَى قَوْله: { وآخران من غَيْركُمْ} ( الْمَائِدَة: 601 701) .
ثمَّ قَالَ: إِلَى قَوْله: { وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} ( الْمَائِدَة: 601 701) .
قَوْله: { شَهَادَة بَيْنكُم} ( الْمَائِدَة: 601 701) .
كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: { اثْنَان} ( الْمَائِدَة: 601 701) .
تَقْدِيره: شَهَادَة بَيْنكُم شَهَادَة، اثْنَيْنِ.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: أَو على أَن قَوْله: إثنان، فَاعل شَهَادَة بَيْنكُم على معنى: فِيمَا فرض عَلَيْكُم أَن يشْهد اثْنَان، وَقَرَأَ الشّعبِيّ: { شَهَادَة بَيْنكُم} وَقَرَأَ الْحسن: { شَهَادَة} ، بِالنّصب، والتنوين على: ليقمْ شَهَادَة، إثنان.
قَوْله: { ذَوا عدل مِنْكُم} وصف الِاثْنَيْنِ بِأَن يَكُونَا عَدْلَيْنِ.
قَوْله: { إِذا حضر} ظرف للشَّهَادَة.
قَوْله: ( حِين الْوَصِيَّة) ، بدل مِنْهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَفِي إِبْدَاله مِنْهُ دَلِيل على وجوب الْوَصِيَّة، وَأَنَّهَا من الْأُمُور اللَّازِمَة الَّتِي مَا يَنْبَغِي أَن يتهاون بهَا الْمُسلم وَيذْهل عَنْهَا، وَحُضُور الْمَوْت وَظُهُور أَمَارَات بُلُوغ الْأَجَل: مشارفته.
قَوْله: ( مِنْكُم) أَي: من أقاربكم قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَفِي تَفْسِير ابْن كثير: { مِنْكُم} أَي: من الْمُسلمين، قَالَه الْجُمْهُور.
.

     وَقَالَ  عَليّ بن أبي طَلْحَة: عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: ( ذَوا عدل) من الْمُسلمين رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم، قَالَ: وروى عَن عُبَيْدَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَمُجاهد وَيحيى بن يعمر وَالسُّديّ وَقَتَادَة وَمُقَاتِل بن حَيَّان وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم نَحْو ذَلِك،.

     وَقَالَ  ابْن جرير:.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: عَنى بذلك ( ذَوا عدل مِنْكُم) من وَحي الْمُوصي، وَذَلِكَ قَول: رُوِيَ عَن عِكْرِمَة وَعبيدَة وعدة غَيرهمَا.
قَوْله: ( أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ) ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: من الْأَجَانِب.
.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي أخبرنَا سعيد بن عون حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد حَدثنَا حبيب بن أبي عمْرَة عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس، فِي قَوْله: ( أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ) قَالَ: من غير الْمُسلمين يَعْنِي: أهل الْكتاب، ثمَّ قَالَ: وروى عَن عُبَيْدَة وَشُرَيْح وَسَعِيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن سِيرِين وَيحيى بن يعمر وَعِكْرِمَة وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَتَادَة وَأبي مجلز وَمُقَاتِل بن حَيَّان وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم نَحْو ذَلِك.
قَوْله: ( إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يَعْنِي: إِن وَقع الْمَوْت فِي السّفر وَلم يكن مَعكُمْ أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبين على الْوَصِيَّة، وَجعل الْأَقَارِب أولى لأَنهم أعلم بأحوال الْمَيِّت، وَبِمَا هُوَ أصلح، وهم لَهُ أنصح، وَفِي ( تَفْسِير ابْن كثير) قَوْله: ( إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض) أَي: سافرتم فأصابتكم مُصِيبَة الْمَوْت، وَهَذَانِ شَرْطَانِ لجَوَاز استشهاد الذميين عِنْد فقد الْمُؤمنِينَ أَن يكون ذَلِك فِي سفر، وَأَن يكون فِي وَصِيَّة، كَمَا صرح بذلك القَاضِي شُرَيْح.
.

     وَقَالَ  ابْن جرير: حَدثنَا عَمْرو بن عَليّ حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة ووكيع قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن شُرَيْح قَالَ: لَا تجوز شَهَادَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ إلاَّ فِي سفر، وَلَا تجوز فِي سفر إلاَّ فِي وَصِيَّة.
وَقد روى مثله عَن الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل، رَحمَه الله، وَهَذَا من أَفْرَاده، وَخَالفهُ الثَّلَاثَة فَقَالُوا: لَا تجوز شَهَادَة أهل الذِّمَّة على الْمُسلمين.
.

     وَقَالَ  ابْن جرير: حَدثنَا عَمْرو بن عَليّ حَدثنَا أَبُو دَاوُد حَدثنَا صَالح بن أبي الْأَخْضَر عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: مَضَت السّنة أَن لَا تجوز شَهَادَة كَافِر فِي حضر وَلَا فِي سفر إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُسلمين، وَذكر الطَّحَاوِيّ حَدِيث أبي دَاوُد: أَن رجلا من الْمُسلمين توفّي بدقوقاً وَلم يجد أحدا من الْمُسلمين يشهده على وَصيته، فَأشْهد رجلَيْنِ من أهل الْكتاب نَصْرَانِيين، فَقدما الْكُوفَة على أبي مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: هَذَا أَمر لم يكن بعد الَّذِي كَانَ فِي عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَحْلفهُمَا بعد الْعَصْر: مَا خَانا وَلَا كذبا وَلَا بَدَلا، فَأمْضى شَهَادَتهمَا.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا يدل على أَن الْآيَة محكمَة عِنْد أبي مُوسَى وَابْن عَبَّاس، وَلَا أعلم لَهما مُخَالفا من الصَّحَابَة فِي ذَلِك، وعَلى ذَلِك أَكثر التَّابِعين، وَذكر النّحاس: أَن الْقَائِلين بِأَن الْآيَة الْكَرِيمَة مَنْسُوخَة وَأَنه لَا تجوز شَهَادَة كَافِر بِحَال، كَمَا لَا تجوز شَهَادَة فَاسق، زيد بن أسلم وَالشَّافِعِيّ وَمَالك والنعمان، غير أَنه أجَاز شَهَادَة الْكفَّار بَعضهم على بعض، وَأما الزُّهْرِيّ وَالْحسن فزعما أَن الْآيَة كلهَا فِي الْمُسلمين، وَذهب غَيرهمَا إِلَى أَن الشَّهَادَة هُنَا بِمَعْنى الْحُضُور،.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: الشَّهَادَة بِمَعْنى الْيَمين، وَتَكَلَّمُوا فِي معنى استحلاف الشَّاهِدين هُنَا، فَمنهمْ من قَالَ: لِأَنَّهُمَا ادّعَيَا وَصِيَّة من الْمَوْت، وَهَذَا قَول يحيى بن يعمر، قَالَ النّحاس: وَهَذَا لَا يعرف فِي حكم الْإِسْلَام أَن يَدعِي رجل وَصِيَّة فَيحلف ويأخذها.
وَمِنْهُم من قَالَ: يحلفان إِذا شَهدا أَن الْمَيِّت أوصى بِمَا لَا يجوز أَو بِمَالِه كُله، وَهَذَا أَيْضا لَا يعرف فِي الْأَحْكَام.
وَمِنْهُم من قَالَ: يحلفان إِذا اتهما، ثمَّ ينْقل الْيَمين عَنْهُمَا إِذا اطلع على الْخِيَانَة، وَزعم ابْن زيد أَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، كَانَ النَّاس يتوارثون بِالْوَصِيَّةِ، ثمَّ نسخت الْوَصِيَّة وفرضت الْفَرَائِض.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: ذهبت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، إِلَى أَن هَذِه الْآيَة ثَابِتَة غير مَنْسُوخَة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن الْحسن وَالنَّخَعِيّ، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: وَكَانَ تيم وعدي وصيين لَا شَاهِدين، وَالشُّهُود لَا يحلفُونَ، وَإِنَّمَا عبر بِالشَّهَادَةِ عَن الْأَمَانَة الَّتِي تحملاها فِي قبُول الْوَصِيَّة.
قَوْله: { من بعد الصَّلَاة} اخْتلف فِيهَا، فَقَالَ النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَابْن جُبَير وَقَتَادَة من بعد صَلَاة الْعَصْر، قَالَ النّحاس: ويروى عَن ابْن عَبَّاس: من بعد صَلَاة أهل دينهما، قَالَ: فَدَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تميماً وعدياً بعد الْعَصْر فَاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْد الْمِنْبَر،.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ: يَعْنِي: صَلَاة الْمُسلمين، وَالْمَقْصُود أَن يُقَام هَذَانِ الشَّاهِدَانِ بعد صَلَاة اجْتمع فِيهَا بحضرتهم { فيقسمان بِاللَّه} أَي: فيحلفان بِاللَّه { إِن ارتبتم} أَي: ظَهرت لكم رِيبَة مِنْهُمَا أَنَّهُمَا خَانا أَو غلاَّ، فيحلفان حِينَئِذٍ بِاللَّه: لَا نشتري بِهِ، أَي: بالقسم، ثمنا، أَي: لَا نعتاض عَنهُ بعوض قَلِيل من الدُّنْيَا الفانية الزائلة.
قَوْله: { وَلَو كَانَ ذَا قربى} أَي: وَلَو كَانَ الْمَشْهُود عَلَيْهِ قَرِيبا إِلَيْنَا لَا نحابيه وَلَا نكتم شَهَادَة الله، أضافها إِلَى الله تَشْرِيفًا لَهَا وتعظيماً لأمرها.
وَقَرَأَ بَعضهم: وَلَا نكتم بِشَهَادَة الله، مجروراً على الْقسم، رَوَاهَا ابْن جرير عَن الشّعبِيّ.
قَوْله: { إِنَّا إِذا لمن الآثمين} أَي: إِن فعلنَا شَيْئا من ذَلِك من تَحْرِيف الشَّهَادَة أَو تبديلها أَو تغييرها أَو كتمها بِالْكُلِّيَّةِ قَوْله: { فَإِن عثر} أَي: فَإِن اطلع، وَظهر، واشتهر وَتحقّق من الشَّاهِدين الْوَصِيّين أَنَّهُمَا خَانا أَو غلاَّ شَيْئا من المَال الْمُوصى بِهِ إِلَيْهِمَا، أَو ظهر عَلَيْهِمَا بذلك { فآخران يقومان مقامهما} أَي: فشاهدان آخرَانِ من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الْإِثْم، وَمَعْنَاهُ: من الَّذين جنى عَلَيْهِم، وهم أهل الْمَيِّت وعشيرته.
قَوْله: ( الأوليان) الأحقان بِالشَّهَادَةِ لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هما الأوليان، كَأَنَّهُ قيل: وَمن هما؟ فَقيل: هما الأوليان.
وَقيل: هُوَ بدل من الضَّمِير فِي: يقومان، أَو من: آخرَانِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَيجوز أَن يرتفعا: باستحق، أَو: من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم انتداب الْأَوليين مِنْهُم للشَّهَادَة لاطلاعهم على حَقِيقَة المَال.
وقرىء الْأَوَّلين، على أَنه وصف للَّذين اسْتحق عَلَيْهِم مجرورا ومنصوب على الْمَدْح، وَمعنى الأولية: التَّقَدُّم على الْأَجَانِب فِي الشَّهَادَة لكَوْنهم أَحَق بهَا، وقرىء: الْأَوليين، بالتثنية، وانتصابه على الْمَدْح، وَقَرَأَ الْحسن: الْأَوَّلَانِ، ويحتج بِهِ من يرى رد الْيَمين على الْمُدَّعِي، وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه لَا يرَوْنَ بذلك، فوجهه عِنْدهم: أَن الْوَرَثَة قد ادعوا على النصرانيين أَنَّهُمَا خَانا فَحَلفا، فَلَمَّا ظهر كذبهما ادّعَيَا الشِّرَاء فِيمَا كتما، فَأنْكر الْوَرَثَة، وَكَانَت الْيَمين على الْوَرَثَة لإنكارهم الشِّرَاء.
قَوْله: { وَمَا اعتدينا} أَي: فينل قُلْنَا فيهمَا من الْخِيَانَة.
{ إِنَّا إِذا لَمِنَ الظَّالمين} أَي: إِن كُنَّا قد كذبنَا عَلَيْهِمَا، فَنحْن حِينَئِذٍ من الظَّالِمين.
قَوْله: { ذَلِك} أَي: الَّذِي تقدم من بَيَان الحكم { أدنى} أَي: أقرب أَن يَأْتِي الشُّهَدَاء على نَحْو تِلْكَ الْحَادِثَة { بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا أَو يخَافُوا إِن ترد إِيمَان} أَي: تكَرر إِيمَان بِشُهُود آخَرين بعد إِيمَانهم، فيفتضحوا بِظُهُور كذبهمْ، وَاتَّقوا الله أَن تحلفُوا كاذبين أَو تخونوا أَمَانَة، وسامعوا الموعظة.
قَوْله: { وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} وَعِيد لَهُم بحرمان الْهِدَايَة.



[ قــ :2653 ... غــ :2780 ]
- وَقَالَ لي عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حدَّثنا يَحْيَى بنُ آدَمَ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي زائِدَةَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبي القَاسِمِ عنْ عبْدِ المَلِكِ بنِ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ خرَجَ رجُلٌ منْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمِ الدَّارِيِّ وعَدِيَّ بنِ بِدَّاءٍ فَماتَ السَّهْمِيُّ بِأرْضٍ لَيْسَ بِها مُسْلِمٌ فلَمَّا قدِمَا بِتَرِكَتِهِ فقَدُوا جَاما مِنْ فِضَّةٍ مُخوَّصاً مِنْ ذَهَبٍ فأحْلَفَهُمَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ وجِدَ الجَامُ بِمَكَّةَ فقالوُا ابْتَعْنَاهُ منْ تَمِيمٍ وعَدِيٍّ فَقامَ رَجلانِ مِنْ أوْلِيَائِهِ فَحَلَفَا لَشَهَادَتنا أحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وإنَّ الجَامَ لِصَاحِبِهِمْ قَالَ وفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةٌ بَيْنَكُمْ} ( الْمَائِدَة: 601) .

مطابقته للآيات الْمَذْكُورَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ يبين أَنَّهَا نزلت فِيمَن ذكرُوا فِيهِ.

ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ.
الثَّانِي: يحيى بن آدم بن سُلَيْمَان المَخْزُومِي.
الثَّالِث: يحيى بن زَكَرِيَّاء بن أبي زَائِدَة، واسْمه: مَيْمُون أَبُو سعيد الْهَمدَانِي القَاضِي.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم الَّذِي يُقَال لَهُ الطَّوِيل، وَلَا يعرف اسْم أَبِيه.
الْخَامِس: عبد الْملك بن سعيد بن جُبَير.
السَّادِس: أَبوهُ سعيد بن جُبَير.
السَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: القَوْل فِي أول الْإِسْنَاد وَفِي آخِره، أَنه ذكر الحَدِيث عَن ابْن الْمَدِينِيّ، كَذَا بِغَيْر سَماع، فَأَما أَن يكون أَخذه مذاكرة أَو عرضا، أَو يكون مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم لَيْسَ بمرضي عِنْده، وَكَأَنَّهُ أشبه لِأَن مُحَمَّد بن بَحر ذكر عَنهُ أَنه قَالَ ابْن أبي الْقَاسِم: لَا أعرفهُ كَمَا أشتهي، قيل لَهُ: فَرَوَاهُ غَيره؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَكَانَ ابْن الْمَدِينِيّ يستحسن هَذَا الحَدِيث، حَدِيث مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم؟ قَالَ: وَقد رَوَاهُ عَنهُ أَبُو أُسَامَة إلاَّ أَنه غير مَشْهُور.
وَقيل: عَادَته أَنه إِذا كَانَ فِي إِسْنَاد الحَدِيث نظر أَو كَانَ مَوْقُوفا يعبر بقوله: قَالَ لي: وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والبقية كوفيون.
وَفِيه: مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم، وَقد أخرج لَهُ البُخَارِيّ هُنَا مَعَ أَنه توقف فِيهِ، وَوَثَّقَهُ يحيى وَأَبُو حَاتِم وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ وَلَا لشيخه عبد الْملك بن سعيد غير هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي القضايا عَن الْحسن بن عَليّ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن سُفْيَان بن وَكِيع، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن آدم بِهِ.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: حَدِيث غَرِيب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( خرج رج من بني سهم) ، وَهُوَ: بزيل، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَآخره لَام، كَذَا ضَبطه ابْن مَاكُولَا، وَوَقع عِنْد التِّرْمِذِيّ والطبري: بديل، بدال مُهْملَة عوض الزَّاي، وَفِي رِوَايَة ابْن مَنْدَه من طَرِيق السّديّ عَن الْكَلْبِيّ: بديل بن أبي مَارِيَة، وَلَيْسَ هَذَا بديل بن وَرْقَاء، فَإِنَّهُ خزاعي، وَهَذَا سهمي، وَوهم من ضَبطه بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن جريج أَنه كَانَ مُسلما.
قَوْله: ( مَعَ تَمِيم الدَّارِيّ) ، وَهُوَ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، ونسبته إِلَى الدَّار، وهُم بطن من لخم، وَيُقَال: الدَّارِيّ: للعطار، ولرب الْغنم، وَكَانَ نَصْرَانِيّا، وَكَانَت قَضيته قبل أَن يسلم، وَأسلم سنة تسع وَسكن الْمَدِينَة، وَبعد قَضِيَّة عُثْمَان انْتقل إِلَى الشَّام وَكَانَ يخْتم الْقُرْآن فِي رَكْعَة، وروى الشّعبِيّ عَن فَاطِمَة بنت قيس أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خطْبَة خطبهَا، وَقد قَالَ: حَدثنِي تَمِيم، فَذكر خبر الْجَسَّاسَة فِي قصَّة الدَّجَّال.
فَإِن قلت: إِذا كَانَت قَضِيَّة تَمِيم قبل إِسْلَامه يكون الحَدِيث من مُرْسل الصَّحَابِيّ، لَان ابْن عَبَّاس لم يحضر هَذِه الْقَضِيَّة.
قلت: نعم، وَلَكِن جَاءَ فِي بعض الطّرق: قد رَوَاهُ عَن تَمِيم الدَّارِيّ.
أخرجه التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا الْحسن بن أَحْمد بن أبي شُعَيْب الْحَرَّانِي، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلمَة الْحَرَّانِي، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أبي النَّضر عَن باذان، مولى أم هانىء عَن ابْن عَبَّاس عَن تَمِيم الدَّارِيّ فِي هَذِه الْآيَة: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} ( الْمَائِدَة: 601) .
قَالَ برىء النَّاس من هَذِه الْآيَة غَيْرِي وَغير عدي بن بداء، وَكَانَا نَصْرَانِيين يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّام قبل الْإِسْلَام، فَأتيَا الشَّام فِي تجارتهما، وَقدم عَلَيْهِمَا مولى لبني سهم ... الحَدِيث، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تكون الْقِصَّة قبل الْإِسْلَام، والتحاكم بعد إِسْلَام الْكل، فَيحْتَمل أَنه كَانَ بِمَكَّة سنة الْفَتْح.
قَوْله: ( وعدي) ، بِفَتْح الْعين وَكسر الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وَتَشْديد الْيَاء: ابْن بداء، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة مَعَ الْمَدّ، قَالَ الذَّهَبِيّ: عدي بن بداء، مَذْكُور فِي تَفْسِير: { شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} ( الْمَائِدَة: 601) .
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: وَالصَّحِيح أَن عديا نَصْرَانِيّ لم يبلغنَا إِسْلَامه، وَفِي كتاب الْقَضَاء للكرابيسي: سَمَّاهُ البداء بن عَاصِم.
وَأخرجه عَن مُعلى بن مَنْصُور عَن يحيى بن أبي زَائِدَة، وَوَقع عِنْد الْوَاقِدِيّ: أَن عدي بن بداء كَانَ أَخا تَمِيم الدَّارِيّ، فَإِن ثَبت فَلَعَلَّهُ أَخُوهُ لأمه، أَو من الرضَاعَة.
وَفِي تَفْسِير مقَاتل: خرج بديل بن أبي مَارِيَة، مولى الْعَاصِ بن وَائِل، مُسَافِرًا فِي الْبَحْر إِلَى النَّجَاشِيّ، فَمَاتَ بديل فِي السَّفِينَة، وَكَانَ كتب وَصيته وَجعلهَا فِي مَتَاعه، ثمَّ دَفعه إِلَى تَمِيم وَصَاحبه عدي، فأخذا مِنْهُ مَا أعجبهما، وَكَانَ فِيمَا أخذا إِنَاء مِن فضَّة فِيهِ ثَلَاثمِائَة مِثْقَال منقوش مموه بِالذَّهَب، فَلَمَّا ردا بَقِيَّة الْمَتَاع إِلَى ورثته ونظروا فِي الْوَصِيَّة فقدوا بعض مَتَاعه، فَكَلَّمُوا تميماً وعدياً، فَقَالَا: مَا لنا بِهِ علم، وَفِيه: فَقَامَ عَمْرو بن الْعَاصِ وَالْمطلب بن أبي ودَاعَة السهمياني فَحَلفا، فاعترف تَمِيم بالخيانة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( يَا تَمِيم أسلم يتَجَاوَز الله عَنْك مَا كَانَ فِي شركك) .
فَأسلم وَحسن إِسْلَامه، وَمَات عدي بن بداء نَصْرَانِيّا.
وَفِي ( تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) : كَانَ بديل بن أبي مَارِيَة وَقيل: ابْن أبي مَرْيَم وَمولى عَمْرو ابْن الْعَاصِ، وَكَانَ بديل مُسلما وَمَات بِالشَّام.
قَوْله: ( جَاما) بِالْجِيم، قَالَ بَعضهم: قَوْله: ( جَاما) بِالْجِيم، وَالتَّخْفِيف: إِنَاء.
قلت: هَذَا تَفْسِير الْخَاص بِالْعَام، وَهَذَا لَا يجوز لِأَن الْإِنَاء أَعم من الْجَام، والجام هُوَ الكأس.
قَوْله: ( مخوصاً) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْوَاو الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: صيغت فِيهِ صَفَائِح مثل الخوص من الذَّهَب، مَعْنَاهُ: مَنْقُوشًا فِيهِ خطوط دقاق طوال كالخوص، وَهُوَ ورق النّخل، وَوَقع فِي بعض نسخ أبي دَاوُد: ( مخوضًا) ، بالضاد الْمُعْجَمَة أَي: مموهاً، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن جريج عَن عِكْرِمَة: ( إِنَاء من فضَّة منقوش بِذَهَب) .
قَوْله: ( فَقَامَ رجلَانِ من أوليائه) ، أَي: من أَوْلِيَاء السَّهْمِي الْمَذْكُور الَّذِي مَاتَ، وَالرجلَانِ: عَمْرو بن الْعَاصِ وَرجل آخر مِنْهُم، كَذَا فِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ وسمى الآخر مقَاتل فِي تَفْسِيره بِأَنَّهُ: الْمطلب بن أبي ودَاعَة.
قَوْله: ( وَفِيهِمْ نزلت هَذِه الْآيَة) .

     وَقَالَ  ابْن زيد: نزلت هَذِه الْآيَة فِي رجل توفّي وَلَيْسَ عِنْده أحد من أهل الْإِسْلَام، وَذَلِكَ فِي أول الْإِسْلَام، وَالْأَرْض حَرْب وَالنَّاس كفار، وَكَانُوا يتوارثون بِالْوَصِيَّةِ، ثمَّ نسخت الْوَصِيَّة وفرضت الْفَرَائِض، وَعمل الْمُسلمُونَ بهَا، رَوَاهُ ابْن جرير.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: انتزع ابْن شُرَيْح من هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة الشَّاهِد وَالْيَمِين، قَالَ: قَوْله: { فَإِن عُثرَ} ( الْمَائِدَة: 601) .
لَا يَخْلُو من أَرْبَعَة أوجه، إماأن يقْرَأ، أَو يشْهد عَلَيْهِمَا شَاهِدَانِ أَو شَاهدا وَامْرَأَتَانِ، أَو شَاهد وَاحِد، قَالَ: وأجمعنا أَن الْإِقْرَار بعد الْإِنْكَار لَا يُوجب يَمِينا على الطَّالِب، وَكَذَلِكَ مَعَ الشَّاهِدين، وَالشَّاهِد والمرأتين، فَلم يبْق إلاَّ شَاهد وَاحِد، فَلذَلِك اسْتحق الطالبان بيمينهما مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد.
انْتهى.
ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْء من طرق الحَدِيث أَنه كَانَ هُنَاكَ شَاهد أصلا، بل فِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ: ( وسألهم الْبَيِّنَة فَلم يَجدوا، فَأَمرهمْ أَن يستحلفوا عديا بِمَا يعظم على أهل دينه) .
وَالله أعلم.