فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل الجهاد والسير

( كِتَابُ الجِهَادِ والسيَرِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْجِهَاد، وَلم يَقع لفظ: كتاب، لأكْثر الروَاة، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَة ابْن شبويه والنسفي، وَلم تقع الْبَسْمَلَة إلاَّ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ مُقَدّمَة.
وَالْجهَاد، بِكَسْر الْجِيم، أَصله فِي اللُّغَة الْجهد وَهُوَ الْمَشَقَّة، وَفِي الشَّرْع بذل الْجهد فِي قتال الْكفَّار لإعلاء كلمة الله تَعَالَى، وَالْجهَاد فِي الله بذل الْجهد فِي أَعمال النَّفس وتدليلها فِي سَبِيل الشَّرْع، وَالْحمل عَلَيْهَا مُخَالفَة النَّفس من الركون إِلَى الدعة وَاللَّذَّات وَاتِّبَاع الشَّهَوَات، وَهَذَا الْكتاب مَذْكُور هُنَا فِي جَمِيع النّسخ والشروح خلا ابْن بطال فَإِنَّهُ ذكره عقيب الْحَج وَالصَّوْم قبل الْبيُوع، وَلما وصل إِلَى هُنَا وصل بِكِتَاب الْأَحْكَام.


( بابُُ فَضْلِ الجِهَادِ والسِّيَرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل الْجِهَاد وَفِي بَيَان السّير، وَهُوَ بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف: جمع سيرة، وَهِي الطَّرِيقَة وَمِنْه: سيرة القمرين، أَي: طريقتهما، وَذكر السّير هُنَا لِأَنَّهُ يجمع سير النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وطرقه فِي مغازيه وسير أَصْحَابه وَمَا نقل عَنْهُم فِي ذَلِك.

وقَوْلُ الله تَعَالَى: { إنَّ الله اشْتَرَي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ بأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْداً علَيْهِ حَقَّاً فِي التَّوْرَاةِ والإنْجِيلِ والْقُرآنِ ومَنْ أوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} ( التَّوْبَة: 111) .
إلَى قَوْلِهِ { وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} ( التَّوْبَة: 211) .


وَقَول الله، مجرور عطفا على فضل الْجِهَاد، وَهَاتَانِ آيتان من سُورَة بَرَاءَة أولاهما هُوَ قَوْله: { إِن الله اشْترى} إِلَى قَوْله: { الْفَوْز الْعَظِيم} ( التَّوْبَة: 111) .
وَالثَّانيَِة هُوَ قَوْله: { التائبون العابدون} إِلَى قَوْله: { وَبشر الْمُؤمنِينَ} ( التَّوْبَة: 211) .
وَالْمَذْكُور هُنَا هَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَابْن شبويه وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة الْآيَتَانِ جَمِيعًا مذكورتان بتمامهما، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر الْمَذْكُور إِلَى قَوْله: { وَعدا عَلَيْهِ حَقًا} ( التَّوْبَة: 111) .
من الْآيَة الأولى ثمَّ قَالَ إِلَى قَوْله: { والحافظون لحدود الله وَبشر الْمُؤمنِينَ} ( التَّوْبَة: 21) .
قَوْله: { إِن الله اشْترى.
.
}
( التَّوْبَة: 111) .
إِلَى آخِره، قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَغَيره: قَالَ عبد الله بن رَوَاحَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي: لَيْلَة الْعقبَة: اشْترط لِرَبِّك وَلِنَفْسِك مَا شِئْت، فَقَالَ: اشْترط لرَبي أَن تُصَدِّقُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وَاشْترط لنَفْسي أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ أَنفسكُم وَأَمْوَالكُمْ.
قَالُوا: فَمَا لنا إِذا فعلنَا ذَلِك؟ قَالَ: الْجنَّة.
قَالُوا: ربح البيع، لَا نقِيل وَلَا نَسْتَقِيل، فَنزلت: { إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ} ( التَّوْبَة: 111) .
الْآيَة، وَالْمرَاد: أَن الله أَمرهم بِالْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم ليجازيهم بِالْجنَّةِ، فَعبر عَنهُ بِالشِّرَاءِ لما تضمن من عوض ومعوض، وَلما جوزوا بِالْجنَّةِ على ذَلِك عبر عَنهُ بِلَفْظ الشِّرَاء تجوزاً، وَالْبَاء فِي: بِأَن، للمقابلة وَالتَّقْدِير باستحقاقهم الْجنَّة.
قَوْله: { يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله} ( التَّوْبَة: 111) .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِيهِ معنى الْأَمر.
كَقَوْلِه: { تجاهدون فِي سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ} ( الصَّفّ: 11) .
قَوْله: { فيقتلون وَيقْتلُونَ} ( التَّوْبَة: 111) .
أَي: سَوَاء قَتَلُوا أوْ قُتِلوا أَو اجْتمع لَهُم هَذَا وَهَذَا، فقد وَجَبت لَهُم الْجنَّة.
قَوْله: { وَعدا عَلَيْهِ حَقًا} ( التَّوْبَة: 111) .
وَعدا: مصدر مُؤَكد أخبر بِأَن هَذَا الْوَعْد الَّذِي وعده للمجاهدين فِي سَبِيل الله وعد ثَابت، وَقد أثْبته فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل كَمَا أثْبته فِي الْقُرْآن.
قَوْله: { وَمن أوفى بعهده من الله} ( التَّوْبَة: 211) .
أَي: لَا أحد أعظم وَفَاء بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ من الله، فَإِنَّهُ لَا يخلف الميعاد.
قَوْله: { فاستبشروا} ( التَّوْبَة: 111) .
أَي: افرحوا بِهَذَا البيع، أَي: فليبشر من قَامَ بِمُقْتَضى هَذَا العقد، ووفى هَذَا الْعَهْد بالفوز الْعَظِيم وَالنَّعِيم الْمُقِيم.
قَوْله: { التائبون} ( التَّوْبَة: 211) .
رفع على الْمَدْح أَي: هم التائبون، وَهَذَا نعت للْمُؤْمِنين الْمَذْكُورين، يَعْنِي: التائبون من الذُّنُوب كلهَا، التاركون للفواحش، { العابدون} ( التَّوْبَة: 211) .
أَي: القائمون بِعبَادة رَبهم، وَقيل: بطول الصَّلَاة، وَقيل: بِطَاعَة الله.
قَوْله: { الحامدون} ( التَّوْبَة: 211) .
أَي: على دين الْإِسْلَام.
وَقيل: على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء.
قَوْله: { السائحون} ( التَّوْبَة: 211) .
أَي: الصائمون، كَذَا قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عَاصِم عَن ذَر عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاك،.

     وَقَالَ  ابْن جرير: حَدثنَا أَحْمد بن إِسْحَاق حَدثنَا أَبُو أَحْمد حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن يزِيد عَن الْوَلِيد بن عبد الله عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ( قَالَت: سياحة هَذِه الْأمة الصّيام) .
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَالضَّحَّاك وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَآخَرُونَ، ( وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: السائحون الصائمون شهر رَمَضَان) .
وَقَالَ أَبُو عَمْرو الْعَبْدي: السائحون الَّذين يديمون الصّيام من الْمُؤمنِينَ، وَقد ورد فِي حَدِيث مَرْفُوع نَحْو هَذَا، فَقَالَ ابْن جرير: حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيغ حَدثنَا حَكِيم بن حزَام حَدثنَا سُلَيْمَان عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: السائحون: هم الصائمون، وروى أَبُو دَاوُد فِي ( سنَنه) من حَدِيث أبي أُمَامَة أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله! إئذن لي فِي السياحة.
فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( سياحة أمتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله) .
وَعَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: ( هم طلبة الْعلم) ،.

     وَقَالَ  عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: هم الْمُهَاجِرُونَ رَوَاهُمَا ابْن أبي حَاتِم، وَلَيْسَ المُرَاد من السياحة مَا قد يفهمهُ من تعبد بِمُجَرَّد السياحة فِي الأَرْض والتفرد فِي شَوَاهِق الْجبَال والكهوف والبراري، فَإِن هَذَا لَيْسَ بمشروع إلاَّ فِي أَيَّام الْفِتَن والزلازل فِي الدّين.
قَوْله: { الآمرون بِالْمَعْرُوفِ} ( التَّوْبَة: 211) .
وَهُوَ طَاعَة الله { والناهون عَن الْمُنكر} ( التَّوْبَة: 211) .
وَهُوَ مَعْصِيّة الله، وَإِنَّمَا دخلت الْوَاو فِيهَا لِأَنَّهَا الصّفة الثَّامِنَة، وَالْعرب تعطف الْوَاو على السَّبْعَة، ذكره جمَاعَة من الْمُفَسّرين.
وَقيل: إِن الْوَاو إِنَّمَا دخلت على الناهين لِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه تبعا وضمناً، لَا قصدا، فَلَو قَالَ الناهون بِغَيْر: وَاو، لأشبه أَن يُرِيد النَّهْي الَّذِي هُوَ تبع، فَلَمَّا ذكر الْوَاو بَين أَن المُرَاد: الآمرون قصدا والناهون عَن الْمُنكر قصدا، وَلذَلِك دخلت الْوَاو أَيْضا.
فِي { والحافظون لحدود الله} ( التَّوْبَة: 211) .
إِذْ لَو لم يذكر: الْوَاو، لأوهم أَن الْمَعْنى: يحفظون حُدُود الله من الْأَشْيَاء الَّتِي تقدم ذكرهَا، فَإِن فِي كل شَيْء حدا لله، عز وَجل، فَقَالَ: والحافظون، ليَكُون إِخْبَارًا لحفظهم الْحُدُود فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَغَيرهَا.

قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الحُدُودُ الطَّاعَةُ

هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، فِي قَوْله: { تِلْكَ حُدُود الله} ( الْبَقَرَة: 781، 922، 032، النِّسَاء: 312، الطَّلَاق: 1) .
يَعْنِي: طَاعَة الله، وَكَأَنَّهُ تَفْسِير باللازم، لِأَن من أطَاع الله وقف عِنْد امْتِثَال أمره وَاجْتنَاب نَهْيه.



[ قــ :2655 ... غــ :2782 ]
- حدَّثنا الحَسَنُ بنُ صَبَّاحٍ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سابِقٍ قَالَ حدَّثنا مالِكُ بنُ مِغوَلٍ قَالَ سَمِعْتُ الوَلِيدَ بنَ العَيْزَارِ ذَكَرَ عنْ أبِي عَمْرٍ والشَّيْبَانِيِّ قَالَ قَالَ عبدُ الله بنُ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ سألْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

قُلْتُ يَا رسولَ الله أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ قَالَ الصَّلاةُ عَلى مِيقاتِهَا.

قُلْتُ ثُمَّ أيُّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ.

قُلْتُ ثُمَّ أَي قَالَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله فسَكَتُّ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( الْجِهَاد فِي سَبِيل الله) .
والْحَدِيث مضى فِي أَوَائِل: مَوَاقِيت الصَّلَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن الْوَلِيد بن الْعيزَار.
أَخْبرنِي، قَالَ: سَمِعت أَبَا عَمْرو الشَّيْبَانِيّ ... إِلَى آخِره، وَاسم أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ سعد بن إِيَاس وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ وَاخْتِلَاف الْأَحَادِيث فِي أفضل الْأَعْمَال لاخْتِلَاف السَّائِلين وَاخْتِلَاف مقاصدهم، أَو باخْتلَاف الْوَقْت أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى بعض الْأَشْيَاء.
.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا خص، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذِه الثَّلَاثَة بِالذكر لِأَنَّهَا عنوان على مَا سواهَا من الطَّاعَات، فَإِن من ضيع الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة حَتَّى خرج وَقتهَا من غير عذر مَعَ خفَّة مؤونتها وعظيم فَضلهَا فَهُوَ لما سواهَا أضيع، وَمن لم يبر وَالِديهِ مَعَ وفور حَقّهمَا عَلَيْهِ كَانَ لغَيْرِهِمَا أقل برا، وَمن ترك جِهَاد الْكفَّار مَعَ شدَّة عداوتهم للدّين كَانَ لجهاد غَيرهم من الْفُسَّاق أترك.





[ قــ :656 ... غــ :783 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَحْيى بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا سفْيَانُ قَالَ حدَّثني مَنْصُورٌ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة) إِلَى آخِره، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْقطَّان وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.

والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بابُُ لَا يحل الْقِتَال بِمَكَّة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأتم مِنْهُ: عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنتكلم أَيْضا بعض شَيْء.

فَقَوله: (لَا هِجْرَة) ، يَعْنِي: من مَكَّة، وَأما الْهِجْرَة عَن الْمَوَاضِع الَّتِي لَا يَتَأَتَّى فِيهَا أَمر الدّين فَهِيَ وَاجِبَة اتِّفَاقًا،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: كَانَت الْهِجْرَة على مَعْنيين: أَحدهمَا: أنَّهُم إِذا أَسْلمُوا وَأَقَامُوا بَين قَومهمْ أَو ذَوا، فَأمروا بِالْهِجْرَةِ إِلَى دَار الْإِسْلَام ليسلم لَهُم دينهم وَيَزُول الْأَذَى عَنْهُم، وَالْآخر: الْهِجْرَة من مَكَّة، لِأَن أهل الدّين بِالْمَدِينَةِ كَانُوا قَلِيلا ضعيفين، وَكَانَ الْوَاجِب على من أسلم أَن يهاجروا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَكِن إِن حدث حَادث اسْتَعَانَ بهم فِي ذَلِك، فَلَمَّا فتحت مَكَّة اسْتغنى عَن ذَلِك، إِذْ كَانَ مُعظم الْخَوْف من أَهلهَا، فَأمر الْمُسلمُونَ أَن يقيموا فِي أوطانهم ويكونوا على نِيَّة الْجِهَاد، مستعدين، لِأَن ينفروا إِذا استنفروا.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: كلمة: لَكِن، تَقْتَضِي مُخَالفَة مَا بعْدهَا لما قبلهَا، أَي: أَن الْمُفَارقَة عَن الأوطان الْمُسَمَّاة بِالْهِجْرَةِ الْمُطلقَة انْقَطَعت، لَكِن الْمُفَارقَة بِسَبَب الْجِهَاد بَاقِيَة مدى الدَّهْر، وَكَذَا الْمُفَارقَة بِسَبَب نِيَّة خَالِصَة لله، عز وَجل.
كَطَلَب الْعلم والفرار لدينِهِ.
انْتهى.
وَذكر غير وَاحِد من الْعلمَاء أَن أَنْوَاع الْهِجْرَة خَمْسَة أَقسَام: الأول: الْهِجْرَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة.
الثَّانِي: الْهِجْرَة من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.
الثَّالِث: هِجْرَة الْقَبَائِل إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الرَّابِع: هِجْرَة من أسلم من أهل مَكَّة.
الْخَامِس: هِجْرَة مَا نهى الله عَنهُ، وَبَقِي من الْهِجْرَة ثَلَاثَة أَنْوَاع أخر، وَهِي: الْهِجْرَة الثَّانِيَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة، وهجرة من كَانَ مُقيما بِبِلَاد الْكفْر وَلَا يقدر على إِظْهَار الدّين، فَتجب عَلَيْهِ الْهِجْرَة، وَالْهجْرَة إِلَى الشَّام فِي آخر الزَّمَان عِنْد ظُهُور الْفِتَن، على مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة شهر قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عمر، سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (لتكونن هِجْرَة بعد هِجْرَة إِلَى مهَاجر أبيكم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) الحَدِيث.

وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا قَالَ: وَفِي الْبابُُ عَن أبي سعيد، وَعبد الله بن عَمْرو، وَعبد الله بن حبشِي.
أما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة أبي البخْترِي الطَّائِي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة: { إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} (الْفَتْح: 1) .
قَرَأَهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى خَتمهَا.
(وَقَالَ: النَّاس حيّز، وَأَنا وأصحابي حيّز.
.

     وَقَالَ : لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح، وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة) .
قلت: الحيز، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَكْسُورَة، وَفِي آخِره زَاي، وَالْمعْنَى: النَّاس فِي نَاحيَة وَأَنا وأصحابي فِي نَاحيَة.
وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ البُخَارِيّ على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
وَأما حَدِيث عبد الله بن حبشِي فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عبيد بن عُمَيْر عَن عبد الله بن حبشِي الْخَثْعَمِي: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ: أَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ: (طول الْقُنُوت) ، قيل: فَأَي صَدَقَة أفضل؟ قَالَ: (جهد الْمقل) قيل: فَأَي الْهِجْرَة أفضل؟) قَالَ: (من هجر مَا حرم الله عَلَيْهِ) الحَدِيث.

قلت: وَفِي الْبابُُ عَن جمَاعَة آخَرين، وهم: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وفضالة بن عبيد، وَزيد ابْن ثَابت، وَرَافِع بن خديج، ومجاشع بن مَسْعُود، وغزية بنت الْحَارِث وَقيل: الْحَارِث بن غزيَّة وَعبد الله بن وقدان السَّعْدِيّ، وجنادة بن أبي أُميَّة، وَعبد الله بن عمر، وَجَابِر بن عبد الله، وثوبان، وَمُحَمّد بن حبيب النصري، وفديك، وواثلة بن الْأَسْقَع، وَصَفوَان بن أُميَّة، ويعلى بن مرّة، وَعمر بن الْخطاب، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَابْن مَسْعُود، وَأَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ، وَعَائِشَة، وَأَبُو فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

أما حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَأخْرجهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة مَالك بن يخَامر عَن ابْن السَّعْدِيّ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا دَامَ الْعَدو يُقَاتل) ، فَقَالَ مُعَاوِيَة وَعبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف وَعبد الله بن عَمْرو: إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْهِجْرَة خصلتان: إِحْدَاهمَا تهجر السَّيِّئَات، وَالْأُخْرَى تهَاجر إِلَى الله وَرَسُوله، وَلَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا تقبلت التَّوْبَة) ، وَرَوَاهُ الْبَزَّار مُقْتَصرا على حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَمُعَاوِيَة وَحده، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِلَفْظ: (لَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة حَتَّى تَنْقَطِع التَّوْبَة، وَلَا تَنْقَطِع التَّوْبَة حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا) .
وَأما حَدِيث فضَالة بن عبيد فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة عَمْرو بن مَالك عَن فضَالة بن عبيد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (المُهَاجر من هجر الْخَطَايَا والذنُوب) .
وَأما حَدِيث زيد بن ثَابت وَرَافِع بن خديج فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة أبي البخْترِي عَن أبي سعيد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَدِيث فِيهِ: (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة) .
فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: كذبت، وَعِنْده رَافع بن خديج وَزيد بن ثَابت، وهما قاعدان مَعَه على السرير، فَقَالَ أَبُو سعيد: لَو شَاءَ هَذَانِ لحدثاك، فَرفع عَلَيْهِ مَرْوَان الدرة ليضربه، فَلَمَّا رَأيا ذَلِك قَالَا: صدق.
وَأما حَدِيث مجاشع بن مَسْعُود فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة يحيى بن إِسْحَاق عَن مجاشع بن مَسْعُود: أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِابْن أَخ لَهُ ليبايعه على الْهِجْرَة، (فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا بل على الْإِسْلَام، فَإِنَّهُ لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح) .
وَأما حَدِيث غزيَّة بن الْحَارِث فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة عبد الله ابْن رَافع عَن غزيَّة بن الْحَارِث أَنه سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح، إِنَّمَا هِيَ ثَلَاث: الْجِهَاد وَالنِّيَّة والحشر) .
وَأما حَدِيث عبد الله بن وقدان السَّعْدِيّ فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة بشر بن عبيد الله عَن عبد الله بن وقدان السَّعْدِيّ، قَالَ: وفدت على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كلنا نطلب حَاجَة، وَكنت آخِرهم دُخُولا على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي تركت مَن خَلْفي وهم يَقُولُونَ: إِن الْهِجْرَة قد انْقَطَعت.
قَالَ: (لن تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا قوتل الْكفَّار) .
وَأما حَدِيث جُنَادَة بن أُميَّة فَأخْرجهُ أَحْمد من رِوَايَة أبي الخيران جُنَادَة بن أبي أُميَّة، حَدثهُ: أرجلاً من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قَالَ بَعضهم: إِن الْهِجْرَة قد انْقَطَعت، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِك قَالَ: فَانْطَلَقت إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: يَا رَسُول الله { إِن نَاسا يَقُولُونَ: إِن الْهِجْرَة قد انْقَطَعت} فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الْهِجْرَة لَا تَنْقَطِع مَا كَانَ الْجِهَاد) .
وَأما حَدِيث عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) فِي رِوَايَة شهر، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عمر سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لتكونن هِجْرَة بعد هِجْرَة إِلَى مهَاجر أبيكم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) .
وَأما حَدِيث جَابر بن عبد الله فَأخْرجهُ فِي مُسْنده عَن حجاج عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظ المُهَاجر من هجر مَا نهى الله عَنهُ وَأما حَدِيث ثَوْبَان فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من رِوَايَة أبي الْأَشْعَث الصَّنْعَانِيّ عَن ابْن عُثْمَان عَن ثَوْبَان، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا قوتل الْكفَّار، وَأما حَدِيث مُحَمَّد بن حبيب النصري فَأخْرجهُ الْبَزَّار أَيْضا من رِوَايَة أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ عَن ابْن السَّعْدِيّ عَن مُحَمَّد بن حبيب النصري، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكره بِلَفْظ الَّذِي قبله.
وَأما حَدِيث فديك فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن صَالح بن بشير بن فديك: أَن جده فديكاً أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أقِم الصَّلَاة وَآت الزَّكَاة واهجر السوء واسكن من أَرض قَوْمك حَيْثُ شِئْت) وَهَذَا مُرْسل، فَإِن صَالح بن بشير لم يسْندهُ إِلَى جده، وَإِنَّمَا روى الْقِصَّة من عِنْده مُرْسلَة.
وَأما حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة عَمْرو بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، قَالَ: خرجت مُهَاجرا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث، وَفِيه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: مَا حَاجَتك؟ قلت: الْإِسْلَام.
فَقَالَ: هُوَ خير لَك.
قَالَ: وتهاجر؟ قلت: نعم.
قَالَ: هِجْرَة الْبَادِيَة أَو هِجْرَة الباتة؟ قلت: أَيهمَا أفضل؟ قَالَ: هِجْرَة الباتة، وهجرة الباتة أَن تثبت مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهجرة الْبَادِيَة أَن ترجع إِلَى باديتك ... الحَدِيث.
وَأما حَدِيث صَفْوَان بن أُميَّة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن صَفْوَان بن أُميَّة، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله { إِنَّهُم يَقُولُونَ: إِن الْجنَّة لَا يدخلهَا إلاَّ من هَاجر.
قَالَ: (لَا هِجْرَة بعد فتح مَكَّة، لَكِن جِهَاد وَنِيَّة وَإِذا استنفرتم فانفروا) .
وَأما حَدِيث يعلى بن أُميَّة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أُميَّة عَن يعلى بن أُميَّة.
قَالَ: جِئْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأبي أُميَّة، فَقلت: يَا رَسُول الله}
بَايع أبي على الْهِجْرَة.
فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أُبَايِعهُ على الْجِهَاد، وَقد انْقَطَعت الْهِجْرَة) .
وَأما حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ الْأَئِمَّة السِّتَّة، وَهُوَ حَدِيث: الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ... الحَدِيث.
وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد رِجَاله ثِقَات.
وَأما حَدِيث أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن الله أَمرنِي أَن آمركُم بِخمْس كَلِمَات: عَلَيْكُم بِالْجِهَادِ والسمع وَالطَّاعَة وَالْهجْرَة ... الحَدِيث.
وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَأخْرجهُ مُسلم من رِوَايَة عَطاء عَنْهَا، قَالَت: سُئِلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْهِجْرَة.
فَقَالَ: (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح) .
وَأما حَدِيث أبي فَاطِمَة، فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة كثير بن مرّة أَن أَبَا فَاطِمَة حَدثهُ أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله! حَدثنِي بِعَمَل أستقيم عَلَيْهِ وأعمله) .
قَالَ لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَلَيْك بِالْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لَا مثل لَهَا) .





[ قــ :657 ... غــ :784 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ قَالَ حدَّثنا حَبيبُ بنُ أبِي عُمْرَةَ عنْ عائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهَا قالتْ يَا رسولَ الله ترَى الجِهَادَ أفْضَلَ العَمَلِ أفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ لَكِنَّ أفْضلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( ترى الْجِهَاد أفضل الْعَمَل) من حَيْثُ أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يرد عَلَيْهَا أَفضَلِيَّة الْجِهَاد من حَيْثُ هُوَ جِهَاد، وَلكنه جعل الْحَج المبرور من أفضل الْجِهَاد، وَمَعَ هَذَا كَون الْحَج أفضل الْجِهَاد فِي حقهن ( لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جهادكن الْحَج) ، وخَالِد هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان، وحبِيب ضد الْعَدو ابْن أبي عمْرَة الْأَسدي القصاب.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بابُُ فضل الْحَج المبرور، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك عَن خَالِد ... إِلَى آخِره، وَالْحج المبرور الَّذِي لَا إِثْم فِيهِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.





[ قــ :658 ... غــ :785 ]
- حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ قَالَ أخبرنَا عَفَّانُ قَالَ حدَّثنَا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جُحَادَةَ قَالَ أخْبَرنِي أَبُو حَصين أنَّ ذَكْوَانَ قَالَ حدَّثَهُ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حدَّثَهُ قَالَ جاءَ رجُلٌ إِلَى رسولِ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ دُلَّنِي عَلى عمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ قَالَ لَا أجِدُهُ قَالَ هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فتَقُومَ ولاَ تَفْتُرَ وتَصُومَ وَلَا تَفْطِرَ قَالَ ومَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ.
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ إنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ.

( الحَدِيث مر سَابِقًا) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَكَذَا وَقع مَنْسُوبا إِلَى أَبِيه فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَابْن عَسَاكِر، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين غير مَنْسُوب،.

     وَقَالَ  أَبُو عَليّ الجياني: لم أره مَنْسُوبا لأحد، وَهُوَ إِمَّا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَإِمَّا إِسْحَاق ابْن مَنْصُور.
الثَّانِي: عَفَّان، بتَشْديد الْفَاء: ابْن مُسلم الصفار الْأنْصَارِيّ.
الثَّالِث: همام، بِالتَّشْدِيدِ: ابْن يحيى بن دِينَار العوذي الْأَزْدِيّ الشَّيْبَانِيّ.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن جحادة، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة الأيامي، وَيُقَال: الْأَزْدِيّ.
الْخَامِس: أَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة: واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم الْأَسدي.
السَّادِس: ذكْوَان، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: أَبُو صَالح السمان الزيات.
السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شَيْخه إِن كَانَ ابْن رَاهَوَيْه فَهُوَ مروزي، وَإِن كَانَ إِسْحَاق ابْن مَنْصُور فَهُوَ مروزي أَيْضا، وَأَن عَفَّان وَهَمَّام بصريان.
وَأَن عُثْمَان وَمُحَمّد بن جحادة كوفيان، وَأَن ذكْوَان مدنِي.

والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ عَن عَفَّان.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( يعدل الْجِهَاد) أَي: يُسَاوِيه ويماثله.
قَوْله: ( قَالَ: لَا أَجِدهُ) كَلَام النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: قَالَ: لَا أجد عملا يعدل الْجِهَاد.
قَوْله: ( قَالَ: هَل تَسْتَطِيع) ، كَلَام مُسْتَأْنف من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  مُسلم: حَدثنَا سعيد بن مَنْصُور حَدثنَا خَالِد بن عبد الله الوَاسِطِيّ عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا يعدل الْجِهَاد فِي سَبِيل الله؟ قَالَ: لَا تستطيعوه، قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، كل ذَلِك يَقُول: لَا تستطيعوه، قَالَ فِي الثَّالِثَة: ( مثل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله كَمثل الْقَائِل بآيَات الله لَا يفتر من صِيَام وَلَا صَلَاة حَتَّى يرجع الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله) .
وَحذف النُّون فِي: لَا تستطيعونه، بِغَيْر جازم وَلَا ناصب لُغَة قَوْله: ( فتقوم) ، بِالنّصب عطف على: أَن تدخل، قَوْله: ( وَلَا تفتر، وتصوم وَلَا تفطر) ، كلهَا مَنْصُوبَة.
قَوْله: ( قَالَ: وَمن يَسْتَطِيع؟) كَلَام الرجل الْمَذْكُور.
قَوْله: ( ليستن) ، أَي: ليمرح بنشاط، وَأَصله من الاستنان، وَهُوَ الْعَدو.
قَالَ الْجَوْهَرِي: الاستنان أَن يرفع رجلَيْهِ ويطرحهما مَعًا، وَيُقَال: أَن يلح فِي عدوه مُقبلا أَو مُدبرا، وَمن جملَة الْأَمْثَال: استنت الفصال حَتَّى القرعى، يضْرب لمن يتشبه بِمن هُوَ فَوْقه.
قَوْله: ( فِي طوله) ، بِكَسْر الطَّاء الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو، وَهُوَ: الْحَبل الَّذِي تشد بِهِ الدَّابَّة.
ويمسك طرفه وَيُرْسل فِي المرعى.
قَوْله: ( فَيكْتب لَهُ حَسَنَات) أَي: يكْتب لَهُ الاستنان حَسَنَات، وحسنات مَنْصُوب على أَنه مفعول ثَان، وَهَذَا الْقدر ذكره أَبُو حُصَيْن عَن أبي صَالح، مَوْقُوفا، وَسَيَأْتِي فِي: بابُُ الْخَيل ثَلَاثَة من طَرِيق زيد بن أسلم مَرْفُوعا.