فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل قول الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} [آل عمران: 170]

(بابُُ فَضْلِ قولِ الله تَعالَى { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وفَضْلٍ وأنَّ الله لَا يُضيِعُ أجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمرَان: 971 181) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من ورد فِيهِ قَول الله تَعَالَى: { وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا} (آل عمرَان: 971 181) .
الْآيَة، وَلَا بُد من هَذَا التَّقْدِير، لِأَن ظَاهره غير مُرَاد، وَلِهَذَا حذف الْإِسْمَاعِيلِيّ لفظ: فضل، من التَّرْجَمَة، ثمَّ إِن الْآيَتَيْنِ ساقهما بتمامهما الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: { وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} (آل عمرَان: 971 181) .
إِلَى { وَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُؤمنِينَ} (آل عمرَان: 971 181) .
وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَات، فَقَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا يَعْقُوب حَدثنَا أبي عَن إِسْحَاق حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أُميَّة بن عَمْرو ابْن سعيد عَن أبي الزبير الْمَكِّيّ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أُصِيب إخْوَانكُمْ بِأحد جعل الله أَرْوَاحهم فِي أَجْوَاف طير خضر ترد أَنهَار الْجنَّة وتأكل من أثمارها، وتأوي إِلَى قناديل من ذهب فِي ظلّ الْعَرْش، فَلَمَّا وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وَحسن مقيلهم، قَالُوا: يَا لَيْت إِخْوَاننَا يعلمُونَ مَا صنع الله لنا لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد، وَلَا ينكلُوا عَن الْحَرْب، فَقَالَ الله تَعَالَى: أَنا أبلغهم عَنْكُم، فَأنْزل الله عز وَجل: { وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} (آل عمرَان: 971) .
وَمَا بعْدهَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن جرير وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وروى الْحَاكِم أَيْضا فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث أبي إِسْحَاق الْفَزارِيّ عَن سُفْيَان عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي حَمْزَة وَأَصْحَابه { وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا} (آل عمرَان: 971) .
الْآيَة، وَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَالربيع وَالضَّحَّاك،.

     وَقَالَ  أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه، بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ بن عبد الْمَدِينِيّ عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن كثير بن بشر بن الْفَاكِه الْأنْصَارِيّ عَن طَلْحَة بن خرَاش بن عبد الرَّحْمَن بن خرَاش بن الصمَّة الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت جَابر بن عبد الله، قَالَ: نظر إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم فَقَالَ: يَا جَابر { مَالِي أَرَاك مهتماً؟ قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله} اسْتشْهد أبي وَترك عَلَيْهِ دينا وعيالاً.
قَالَ: أَلا أخْبرك؟ مَا كلم الله أحدا قطّ إلاَّ من وَرَاء حجاب، وَإنَّهُ كلم أَبَاك كفاحاً.
قَالَ عَليّ: الكفاح المواجهة، قَالَ: سلني أعطك.
قَالَ: أَسأَلك أَن أُرد إِلَى الدُّنْيَا فأقتل فِيك ثَانِيَة.
فَقَالَ الرب، عز وَجل: إِنَّه سبق مني أَنهم إِلَيْهَا لَا يرجعُونَ.
قَالَ: أَي رب، فأبلغ من ورائي، فَأنْزل الله عز وَجل: { وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا} (آل عمرَان: 971) .
حَتَّى أنفد الْآيَة.
.

     وَقَالَ  ابْن جرير: حَدثنَا مُحَمَّد بن مَرْزُوق حَدثنَا عَمْرو بن يُونُس عَن عِكْرِمَة حَدثنَا إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة حَدثنِي أنس بن مَالك فِي أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين أرسلهم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أهل بِئْر مَعُونَة الحَدِيث، مطولا.
وَفِي آخِره: قَالَ إِسْحَاق: حَدثنِي أنس بن مَالك أَن الله أنزل فيهم قُرْآنًا بلغُوا عَنَّا قَومنَا أَنا قد لَقينَا رَبنَا، فَرضِي عَنَّا ورضينا عَنهُ، ثمَّ نسخت بعد مَا قرأناه زَمَانا، وَأنزل الله: { وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله ... } (آل عمرَان: 971) .
الْآيَة،.

     وَقَالَ  مقَاتل: نزلت فِي قَتْلَى بدر، وَكَانُوا أَرْبَعَة عشر شَهِيدا.
قَوْله: (فرحين) ، بِمَعْنى: فارحين، وَيجوز أَن يكون حَالا من الضَّمِير فِي: يرْزقُونَ، وَأَن يكون صفة: لأحياء.
قَوْله: (من فَضله) أَي: من رزقه.
قَوْله: (ويستبشرون) ، عطف على فرحين من الاستبشار، وَهُوَ السرُور بالبشرة.
قَوْله: { بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم} (آل عمرَان: 081) .
أَي: يفرحون بإخوانهم الَّذين فارقوهم أَحيَاء يرجون لَهُم الشَّهَادَة، يَقُولُونَ إِن قتلوا نالوا مَا نلنا من الْفضل.
.

     وَقَالَ  السّديّ: يُؤْتى الشَّهِيد بِكِتَاب فِيهِ: يقدم عَلَيْك فلَان يَوْم كَذَا وَكَذَا، وَيقدم عَلَيْك فلَان يَوْم كَذَا وَكَذَا، فيسر بذلك كَمَا يسر أهل الدُّنْيَا بقدوم غائبهم.
قَوْله: { أَن لَا خوف عَلَيْهِم} (آل عمرَان: 081) .
بدل من الَّذِي يَعْنِي: لَا خوف عَلَيْهِم فِيمَن خلفوه من ذُرِّيتهمْ، { وَلَا هم يَحْزَنُونَ} (آل عمرَان: 081) .
على مَا خلفوا من أَمْوَالهم.
وَقيل: لَا خوف فِيمَا يقدمُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْزَنُونَ على مُفَارقَة الدُّنْيَا.
قَوْله: { يستبشرون} كَلَام مُسْتَأْنف كرر للتوكيد وَالنعْمَة فضل من الله لَا أَنه وَاجِب عَلَيْهِ.
قَوْله: (وَأَن الله) ، بِالْفَتْح عطفا على النِّعْمَة، وَالْفضل، وبالكسر على الِابْتِدَاء وعَلى أَن الْجُمْلَة اعتراضية، وَهِي قِرَاءَة الْكسَائي.
.

     وَقَالَ  عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: هَذِه الْآيَة جمعت الْمُؤمنِينَ كلهم سَوَاء الشُّهَدَاء وَغَيرهم، وَقل مَا ذكر الله فضلا ذكر بِهِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام ثَوَاب مَا أَعْطَاهُم إلاَّ ذكر مَا أعْطى الْمُؤمنِينَ من بعدهمْ.



[ قــ :2686 ... غــ :2814 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ دَعَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى الَّذِينَ قَتَلُوا أصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاَثِينَ غَدَاةً علَى رَعْلٍ وذكْوَانَ وعُصَيَّةَ عَصَتِ الله ورَسُولَهُ قَالَ أنَسٌ أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا قَوْمَنا أنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا ورَضِينَا عَنْهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ قَوْله تَعَالَى: { وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا ... } (آل عمرَان: 971) .
إِلَى آخِره، نزلت فِي حق أَصْحَاب بِئْر مَعُونَة، كَمَا ذكره ابْن جرير أَيْضا، وَقد مر عَن قريب.
وَذكره البُخَارِيّ هُنَا مُخْتَصرا، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن بكير بأتم مِنْهُ.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى.

قَوْله: (مَعُونَة) ، بِفَتْح الْمِيم وَضم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالنون: وَهِي مَوضِع من جِهَة نجد بَين أَرض بني عَامر وحرة بني سليم، وَكَانَت غزوتُها سنة أَربع.
قَوْله: (على رعل) ، بدل من الَّذين قتلوا بِإِعَادَة الْعَامِل.
قَوْله: (ثمَّ نسخ) ، مَعْنَاهُ سقط ذكره لتقادم عَهده إلاَّ أَن يذكر بطرِيق الرِّوَايَة، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ النّسخ الَّذين بدل مَكَانَهُ خِلَافه، لِأَن الْخَبَر لَا يدْخلهُ نسخ، وَالْقُرْآن رُبمَا نسخ لَفظه، وَبَقِي حكمه مثل: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ) وَمعنى النّسخ هُنَا أَنه أسقط لَفظه من التِّلَاوَة.
قَالَ السُّهيْلي: هَذَا الْمَذْكُور، أَعنِي: مَا نزل، نسخ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رونق الإعجاز.
قَوْله: (رَضِينَا عَنهُ) ، وَقد تقدم بِلَفْظ أرضانا، وَالْحَال لَا يَخْلُو من أَحدهمَا.
وَأجِيب: بِأَن الْقُرْآن الْمَنْسُوخ يجوز نَقله بِالْمَعْنَى.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: فِي الحَدِيث دلَالَة على أَن من قتل غدراً فَهُوَ شَهِيد، لِأَن أَصْحَاب بِئْر مَعُونَة قتلوا غدراً.

وَاخْتلف النَّاس فِي كَيْفيَّة حَيَاة الشَّهِيد، فَقَالَ ابْن بطال: إِن الْأَرْوَاح ترزق، وَكَذَا جَاءَ الْخَبَر فِي (صَحِيح ابْن حبَان) : إِنَّمَا نسمَة الْمُؤمن طَائِر تعلق فِي شجر الْجنَّة، قَالَ أهل اللُّغَة: يَعْنِي تَأْكُل مِنْهَا.
قَالَ ابْن قرقول: بِضَم اللاَّم، أَي: تتناوله، وَقيل: تشمه.
وَهَذَا الحَدِيث عَام وَقد خصّه الْقُرْآن الْعَزِيز بِاشْتِرَاط الشَّهَادَة.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: هَذَا لَا يَصح فِي الْعقل، وَلَا فِي الِاعْتِبَار، لِأَنَّهَا إِن كَانَت هِيَ أَرْوَاح الطير فَكيف تكون فِي الحواصل دون سَائِر الْجَسَد، وَإِن كَانَ لَهَا أَرْوَاح غَيرهَا فَكيف يكون لَهَا روحان فِي جَسَد؟ وَكَيف تصل لَهُم الأرزاق الَّتِي ذكر الله عز وَجل.
انْتهى.
وَفِيه نظر، لِأَن مُسلما أخرج فِي (صَحِيحه) : عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير أخبرنَا أَبُو مُعَاوِيَة حَدثنَا الْأَعْمَش عَن عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق قَالَ: سَأَلنَا عبد الله عَن هَذِه الْآيَة: { وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا ... } (آل عمرَان: 971) .
الْآيَة، فَقَالَ: إِنَّا قد سَأَلنَا عَن ذَلِك، فَقَالَ: أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر لَهَا قناديل معلقَة بالعرش تسرح من الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت، ثمَّ تأوي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل ... الحَدِيث، وروى الْحَاكِم على شَرط مُسلم من حَدِيث، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لما أُصِيب إخْوَانكُمْ بِأحد.
.
) الحَدِيث، ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وروى ابْن أبي عَاصِم من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (أَن الثَّمَانِية عشر من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جعل الله أَرْوَاحهم فِي الْجنَّة فِي طير خضر) ، وَفِي لفظ: (أَرْوَاح الشُّهَدَاء عِنْد الله كطير خضر فِي قناديل تَحت الْعَرْش) .
وَمن حَدِيث عَطِيَّة عَن أبي سعيد، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي طير خضر ترعى فِي رياض الْجنَّة ثمَّ تكون مأواها قناديل معلقَة بالعرش.
وَمن حَدِيث مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي عَن عبيد الله بن يزِيد عَن أم قلَابَة، أظنها أم مُبشر، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ طير خضر فِي حجر من الْجنَّة، يَأْكُلُون من الْجنَّة وَيَشْرَبُونَ من الْجنَّة، وَبِسَنَد صَحِيح إِلَى كَعْب بن مَالك يرفعهُ أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي طير خضر) ، وَعند مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : نسمَة الْمُؤمن طَائِر.
وَتَأَول بعض الْعلمَاء لفظ: فِي، فِي قَوْله: فِي جَوف طير، بِمَعْنى: على، فَيكون الْمَعْنى: أَرْوَاحهم على جَوف طير خضر، كَمَا فِي قَوْله: { ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} (طه: 17) .
أَي: على جُذُوع النّخل.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ، قَوْله: (أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر) ، أَي: يخلق لأرواحهم بَعْدَمَا فَارَقت أبدانهم هياكل على تِلْكَ الْهَيْئَة تتَعَلَّق بهَا وَتَكون خلفا عَن أبدانهم، فيتوسلون بهَا إِلَى نيل مَا يشتهون من اللَّذَّات الحسية.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: لَيست للأقيسة والعقول فِي هَذَا حكم، فَإِذا أَرَادَ الله أَن يَجْعَل الرّوح، إِذا خرجت من الْمُؤمن أَو الشَّهِيد، فِي قناديل أَو جَوف طير أَو حَيْثُ شَاءَ كَانَ ذَلِك، وَوَقع وَلم يبعد، لَا سِيمَا على القَوْل بِأَن الْأَرْوَاح أجساد فَغير مُسْتَحِيل أَن يصور جُزْء من الْإِنْسَان طائراً، أَو يَجْعَل فِي جَوف طَائِر فِي قناديل تَحت الْعَرْش.
وَقد اخْتلفُوا فِي الرّوح.
فَقَالَ كثير من أَرْبابُُ علم الْمعَانِي وَعلم الْبَاطِن والمتكلمين: لَا نَعْرِف حَقِيقَته وَلَا يَصح وَصفه.
وَهُوَ مَا جهل الْعباد بِعِلْمِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى: { قل الرّوح من أَمر رَبِّي} (الْإِسْرَاء: 58) .
.

     وَقَالَ  كَثِيرُونَ من شُيُوخنَا: هُوَ الْحَيَاة،.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: هُوَ أجسام لَطِيفَة مشاكلة للجسم يحيى بحياته، أجْرى الله الْعَادة بِمَوْت الْجِسْم عِنْد فِرَاقه، وَلِهَذَا وصف بِالْخرُوجِ وَالْقَبْض وبلوغ الْحُلْقُوم، قَالَ الشَّيْخ: هَذَا هُوَ الْمُخْتَار، وَقد تعلق بِهَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله بعض القائلي بالتناسخ وانتقال الْأَرْوَاح وتنعيمها فِي الصُّور الحسان المرفهة وتعذيبها فِي الصُّور القبيحة المسخرة، وَزَعَمُوا أَن هَذَا هُوَ الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَهَذَا بَاطِل مَرْدُود لإبطاله مَا جَاءَت الشَّرَائِع من إِثْبَات الْحَشْر والنشر وَالْجنَّة وَالنَّار.



[ قــ :687 ... غــ :815 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدَّثَنا سُفْيَانُ عنْ عَبْدِ الله عنْ عَمْرَو سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما يَقولُ اصْطَبَحَ ناسٌ الخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ فقِيلَ لِسُفْيَانَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَالَ لَيْسَ هَذَا فيهِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( شُهَدَاء) ، وَالْخمر الَّتِي شَرِبُوهَا ذَلِك الْيَوْم لم تَضُرهُمْ لِأَنَّهَا كَانَت مُبَاحَة فِي وَقت شربهم، وَلِهَذَا أثنى الله عَلَيْهِم بعد مَوْتهمْ، وَرفع عَنْهُم الْخَوْف والحزن.
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار الْمَكِّيّ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن صَدَقَة بن الْفضل وَفِي الْمَغَازِي عَن عبد الله بن مُحَمَّد.

قَوْله: ( اصطبح) ، أَي: شربوا الْخمر صَبُوحًا، والصبوح الشّرْب بِالْغَدَاةِ، وَهُوَ خلاف الغبوق، واصطبح الرجل: شرب صَبُوحًا.
قَوْله: ( فَقيل لِسُفْيَان: من آخر ذَلِك الْيَوْم) ، يَعْنِي: فِي الحَدِيث هَذَا اللَّفْظ مَوْجُود، وَهُوَ قَوْله: من آخر ذَلِك الْيَوْم.
قَالَ سُفْيَان: لَيْسَ هَذَا فِيهِ، أَي: لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ مرويا فِي الحَدِيث: فَإِن قلت: أخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق القواريري عَن سُفْيَان بِهَذِهِ الزِّيَادَة، وَلَكِن بِلَفْظ: اصطبح قوم الْخمر أول النَّهَار وَقتلُوا آخر النَّهَار شُهَدَاء.
قلت: لَعَلَّ سُفْيَان كَانَ نَسيَه ثمَّ تذكر، وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان، بِدُونِ الزِّيَادَة.
وَأخرجه فِي تَفْسِير الْمَائِدَة عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن سُفْيَان بإثباتها.