فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من طلب الولد للجهاد

( بابُُ مَنْ طَلَبَ الوَلَدَ لِلْجِهَادِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان من نوى عِنْد المجامعة مَعَ أَهله حُصُول الْوَلَد ليجاهد فِي سَبِيل الله فَيحصل لَهُ بذلك أجر لأجل نِيَّته وَإِن لم يحصل لَهُ ولد.



[ قــ :2691 ... غــ :2819 ]
- وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ هُرْمُزَ قَالَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ داوُدَ علَيْهِمَا السَّلاَمُ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ علَى مِائَةِ امْرَأةٍ أوْ تِسْعٍ وتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يأتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله فَقَالَ لَهُ صاحِبُهُ قُلْ إنْ شَاءَ الله فَلَمْ يَقُلْ إنْ شاءَ الله فلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلاَّ امْرَأةٌ واحِدَةٌ جاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إنْ شاءَ الله لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله فرْسَاناً أجْمَعُونَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، كَذَا أخرجه البُخَارِيّ مُعَلّقا.
وَأخرجه فِي سِتَّة مَوَاضِع مُسندَة: مِنْهَا فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج من طَرِيق اللَّيْث رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم من حَدِيثه.

قَوْله: ( لأطوفن اللَّيْلَة) وَوَقع فِي رِوَايَة: لأطيفن.
.

     وَقَالَ  الْمبرد: كِلَاهُمَا صَحِيح، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الدوران حول الشَّيْء، وَهُوَ هَهُنَا كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَاللَّام فِيهِ للقسم، لِأَن هَذِه اللَّام هِيَ الَّتِي تدخل على جَوَاب الْقسم، وَكَثِيرًا مَا تحذف مَعهَا الْعَرَب الْمقسم بِهِ اكْتِفَاء بدلالتها على الْمقسم بِهِ، لَكِنَّهَا لَا تدل على مقسم بِهِ معِين.
قَوْله: ( أَو تسع وَتِسْعين) ، شكّ من الرَّاوِي وَفِي لفظ: سِتِّينَ امْرَأَة، وَفِي رِوَايَة ( سبعين) ، وَفِي رِوَايَة: ( مائَة) ، من غير شكّ وَفِي أُخْرَى: ( تِسْعَة وَتِسْعين) ، من غير شكّ وَلَا مُنَافَاة بَين هَذِه الرِّوَايَات لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِك الْقَلِيل نفي الْكثير، وَهُوَ من مَفْهُوم الْعدَد، وَلَا يعْمل بِهِ جُمْهُور أهل الْأُصُول.
قَوْله: ( بِفَارِس) ، وَفِي رِوَايَة: بِغُلَام.
قَوْله: ( يُجَاهد) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة فَارس.
قَوْله: ( فَقَالَ لَهُ صَاحبه) ، قيل: يُرِيد بِهِ وزيره من الْإِنْس وَالْجِنّ.
وَقيل: الْملك، كَمَا ذكره فِي النِّكَاح، وَفِي مُسلم فَقَالَ لَهُ صَاحبه أَو الْملك، وَهُوَ شكّ من أحد رُوَاته، وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَقَالَ لَهُ صَاحبه، بِالْجَزْمِ من غير تردد،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: فَإِن كَانَ صَاحبه فيعني بِهِ وزيره من الْإِنْس أَو من الْجِنّ، وَإِن كَانَ الْملك فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ بِالْوَحْي، قَالَ: وَقد أبعد من قَالَ هُوَ خاطره،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قيل: المُرَاد بِصَاحِبِهِ هُوَ الْملك، وَهُوَ الظَّاهِر من لَفظه وَقيل: القرين.
وَقيل: صَاحب لَهُ آدَمِيّ.
قلت: الصَّوَاب أَنه هُوَ الْملك كَمَا ذكره فِي النِّكَاح كَمَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: ( فَلم يقل: إِن شَاءَ الله) ، فَلم يقل سُلَيْمَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن شَاءَ الله بِلِسَانِهِ، لَا أَنه غفل عَن التَّفْوِيض إِلَى الله تَعَالَى بِقَلْبِه، فَإِنَّهُ لَا يَلِيق بِمنْصب النُّبُوَّة، وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا اتّفق لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سُئِلَ عَن الرّوح وَالْخضر وَذي القرنين، فَوَعَدَهُمْ أَن يَأْتِي بِالْجَوَابِ غَدا جَازِمًا بِمَا عِنْده من معرفَة الله تَعَالَى وَصدق وعده فِي تَصْدِيقه وَإِظْهَار كَلمته، لكنه ذهل عَن النُّطْق بهَا، لَا عَن التَّفْوِيض بِقَلْبِه فاتفق أَن يتَأَخَّر الْوَحْي عَنهُ، وَرمي بِمَا رمي بِهِ لأجل ذَلِك، ثمَّ علمه الله بقوله تَعَالَى: { وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا، إلاَّ أَن يَشَاء الله} ( الْكَهْف: 32) .
فَكَانَ بعد ذَلِك يسْتَعْمل هَذِه الْكَلِمَة حَتَّى فِي الْوَاجِب.
قَوْله: ( فَلم تحمل مِنْهُم) ، أَي: من مائَة امْرَأَة.
قَوْله: ( إلاَّ امْرَأَة وَاحِدَة جَاءَت بشق رجل) وَفِي رِوَايَة: بشق غُلَام، فِي أُخْرَى: نصف إِنْسَان، وَفِي أُخْرَى: فَلم تحمل شَيْئا إلاَّ وَاحِدًا سقط أحدى شقيه.
قَوْله: ( فُرْسَانًا) حَال، وَهُوَ جمع فَارس.
قَوْله: ( أَجْمَعُونَ) ، بِالرَّفْع لتأكيد ضمير الْجمع الَّذِي فِي قَوْله: لَجَاهَدُوا، وَيجوز أَجْمَعِينَ بِالنّصب تَأْكِيدًا لقَوْله: فُرْسَانًا، إِن صحت الرِّوَايَة.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الحض على طلب الْوَلَد لنِيَّة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَقد يكون الْوَلَد بِخِلَاف مَا أمله فِيهِ، وَلَكِن لَهُ الْأجر فِي نِيَّته وَعَمله.
وَفِيه: أَن من قَالَ: إِن شَاءَ الله، وتبرأ من مَشِيئَته وَلم يُعْط الْحَظ لنَفسِهِ فِي أَعماله، فَهُوَ حري أَن يبلغ أمله، وَيُعْطى أمْنِيته، وَلَيْسَ كل من قَالَ قولا وَلم يسْتَثْن فِيهِ الْمَشِيئَة بِوَاجِب أَن لَا يبلغ أمله، بل مِنْهُم من شَاءَ الله بإتمام أمله، وَمِنْهُم من يَشَاء أَن لَا يتمه، بِمَا سبق فِي علمه، لَكِن هَذِه الَّتِي أخبر عَنْهَا سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا مِمَّا لَو اسْتثْنى لتم أمله، فَدلَّ هَذَا على أَن الأقدار فِي علم الله، عز وَجل، على ضروب، فقد يقدر للْإنْسَان الرزق وَالْولد والمنزلة إِن فعل كَذَا، أَو قَالَ أَو دَعَا، فَإِن لم يفعل وَلَا قَالَ لم يقدر ذَلِك الشَّيْء.
وأصل هَذَا فِي قصَّة يُونُس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فلولا أَنه كَانَ من المسبحين للبث فِي بَطْنه، فَبَان بِهَذَا أَن تسبيحه كَانَ سَبَب خُرُوجه من بطن الْحُوت، وَلَو لم يسبح مَا خرج مِنْهُ.
وَفِيه: أَن الِاسْتِثْنَاء ليمضي فِيهِ الْقدر السَّابِق كَمَا سبق وَفِيه أَن الِاسْتِثْنَاء يكون بأثر القَوْل، وَإِن كَانَ فِيهِ سكُوت يسير لم يَنْقَطِع بِهِ دونه فصَال الحائلة بَينه وَبَين الِاسْتِثْنَاء وَالْيَمِين.
وَفِيه: مَا كَانَ الله تَعَالَى خص بِهِ الْأَنْبِيَاء من صِحَة البنية وَكَمَال الرجولية مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ من المجاهدات فِي الْعِبَادَة، وَالْعَادَة فِي مثل هَذَا لغَيرهم الضعْف عَن الْجِمَاع، لَكِن خرق الله تَعَالَى لَهُم الْعَادة فِي أبدانهم، كَمَا خرقها لَهُم فِي معجزاتهم وأحوالهم، فَحصل لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الإطاقة أَن يطَأ فِي لَيْلَة مائَة امْرَأَة ينزل فِي كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ مَاء، وَلَيْسَ فِي الْأَخْبَار مَا يحفظ فِيهِ صَرِيحًا غير هَذَا، إلاَّ مَا ثَبت عَن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه أعطي قُوَّة ثَلَاثِينَ رجلا فِي الْجِمَاع.
وَفِي ( الطَّبَقَات) : أَرْبَعِينَ.
.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: أعطي قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا، كل رجل من أهل الْجنَّة.
وَهِي قُوَّة أَكثر من قُوَّة سُلَيْمَان، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ إِذا صلى الْغَدَاة دخل على نِسَائِهِ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ بِغسْل وَاحِد، ثمَّ يبيت عِنْد الَّتِي هِيَ لَيْلَتهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا على تَوْفِيَة حُقُوق الْأزْوَاج، وَلَيْسَ يقدر على ذَلِك غَيره مَعَ قلَّة الْأكل.
فَإِن قلت: قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: يدْخل على كل نِسَائِهِ فيدنو من كل امْرَأَة مِنْهُنَّ يقبل ويلتمس من غير مَسِيس وَلَا مُبَاشرَة، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن أبي الزِّنَاد عَن هِشَام عَن أَبِيه.
قلت: هَذَا ضَعِيف، وَسمعت بعض الْمَشَايِخ الْكِبَار الثِّقَات: أَن كل نَبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، أعطي قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا، وَنَبِينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعطي قُوَّة أَرْبَعِينَ نَبيا فَيكون لَهُ قُوَّة ألف وسِتمِائَة رجل، فَاعْتبر من هَذَا صبره وزهده كَيفَ قنع بتسع نسْوَة.
وَفِيه: أَنه لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله، لم يَحْنَث.
وَفِيه: دلَالَة على أَنه أقسم على شَيْئَيْنِ: الْوَطْء والولادة، وَفعل الْوَطْء حَقِيقَة وَالِاسْتِيلَاد لم يتم، إِذْ لَو تمّ لم يقل ذَلِك فِيهِ.
وَفِيه: أَن هَذَا مَحْمُول على أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوحِي إِلَيْهِ بذلك، وَهَذَا من خَصَائِص نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اطِّلَاعه على أَخْبَار الْأَنْبِيَاء السالفة والأمم.
وَفِيه: دلَالَة على جَوَاز قَوْله: لَو وَلَوْلَا، بعد وُقُوع الْمَقْدُور، وَقد جَاءَ فِي الْقُرْآن كثير من ذَلِك، وَفِي كَلَام الصَّحَابَة وَالسَّلَف، وَسَيَأْتِي تَرْجَمَة البُخَارِيّ: هَذَا بابُُ مَا يجوز من اللو، وَأما النَّهْي عَن ذَلِك، وَأَنَّهَا تفتح عمل الشَّيْطَان فَمَحْمُول على من يَقُول ذَلِك مُعْتَمدًا على الْأَسْبابُُ معرضًا عَن الْمَقْدُور أَو متضجراً مِنْهُ.
وَفِيه: أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نبه هُنَا على آفَة التَّمَنِّي والإعراض عَن التقويض وَالتَّسْلِيم، وَمن آفته نِسْيَان سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الِاسْتِثْنَاء لَا يكون إلاَّ بِاللَّفْظِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ النِّيَّة، وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالْعُلَمَاء كَافَّة، وَادّعى بَعضهم أَن قِيَاس قَول مَالك: إِن الْيَمين تَنْعَقِد بِالنِّيَّةِ وَيصِح الِاسْتِثْنَاء بهَا من غير لفظ وَمنع ذَلِك.
وَفِيه: جَوَاز الْإِخْبَار عَن الشَّيْء ووقوعه فِي الْمُسْتَقْبل بِنَاء على الظَّن، فَإِن هَذَا الْإِخْبَار رَاجع إِلَى ذَلِك.
.

     وَقَالَ  بعض الشَّافِعِيَّة: أجَاز أَصْحَابنَا الْحلف على الظَّن الْمَاضِي، وَقَالُوا: يجوز أَن يحلف على خطّ مُوَرِثه إِذا وثق بِخَطِّهِ وأمانته، وجوزوا الْعَمَل بِهِ واعتماده.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ التَّعْبِير بِاللَّفْظِ الْحسن عَن غَيره، فَإِنَّهُ عبر عَن الْجِمَاع بِالطّوافِ، نعم، لَو دعت ضَرُورَة شَرْعِيَّة إِلَى التَّصْرِيح بِهِ لم يعدل عَنهُ.
فَإِن قلت: من أَيْن لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن الله تَعَالَى يخلق من مائَة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مائَة غُلَام؟ لَا جَائِز أَن يكون بِوَحْي، لِأَنَّهُ مَا وَقع وَلَا أَن يكون الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يكون إلاَّ مَا يُرِيد.
قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِنَّه من جنس التَّمَنِّي على الله وَالسُّؤَال لَهُ، عز وَجل، أَن يفعل، وَالْقسم عَلَيْهِ كَقَوْل أنس بن النَّضر: وَالله لَا تكسر ثنية الرّبيع، قيل: قَول أنس لَيْسَ بتمنٍ، ألاَ تَرَى أَن الشَّارِع سَمَّاهُ قسما، فَقَالَ: ( إِن من عباد الله من لَو أقسم على الله لَأَبَره) ، فَسَماهُ قسما وَلم يسمه تمنياً.