فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الشجاعة في الحرب والجبن

( بابُُ الشَّجَاعَةِ فِي الحَرْبِ والجبْنِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مدح الشجَاعَة فِي الْحَرْب، وَفِي بَيَان ذمّ الْجُبْن فِيهِ، وَهُوَ بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي آخِره نون: الْخَوْف، وَأما الْجُبْن الَّذِي يُؤْكَل فَهُوَ بتَشْديد النُّون.



[ قــ :2692 ... غــ :2820 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ واقِدٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحْسَنَ النَّاسِ وأشْجَعَ النَّاسِ وأجْوَدَ النَّاسِ ولَقَدْ فَزِعَ أهْلُ المَدِينَةِ فكانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبَقَهُمْ عَلى فَرَسٍ.

     وَقَالَ  وجَدْنَاهُ بَحْرَاً..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَأَشْجَع النَّاس) أَي: فِي الْحَرْب، وَفسّر ذَلِك بقوله: وَلَقَد فزع أهل الْمَدِينَة ... إِلَى آخِره.
وَأحمد بن عبد الْملك بن وَاقد، بِالْقَافِ وبالدال الْمُهْملَة: الْحَرَّانِي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء وبالنون.
مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بابُُ الخدم لِلْمَسْجِدِ، إلاَّ أَنه نسبه ثمَّة إِلَى جده.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وقتيبة فرقهما فِي الْجِهَاد، وَأخرجه أَيْضا فِي الْأَدَب عَن عَمْرو بن مَيْمُون.
وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن يحيى بن يحيى وَسَعِيد وَابْن مَنْصُور وَأبي الرّبيع وَأبي كَامِل.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجِهَاد عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن قُتَيْبَة وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي صَالح مُحَمَّد بن زنبور الْمَكِّيّ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ.

قَوْله: ( فزع) ، بِكَسْر الزَّاي، يُقَال: فزع يفزع فَزعًا.
أَي: خَافَ أهل الْمَدِينَة، وَفِي رِوَايَة لَيْلًا.
قَوْله: ( سبقهمْ على فرس) يُقَال لَهُ مَنْدُوب، كَانَ لأبي طَلْحَة على مَا يَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: ( وَجَدْنَاهُ بحراً) ، أَي: كالبحر وَاسع الجري.

وَفِيه: اسْتِعْمَال الْمجَاز حَيْثُ شبه الْفرس بالبحر، لِأَن الجري مِنْهُ لَا يَنْقَطِع كَمَا لَا يَنْقَطِع مَاء الْبَحْر، وَأول من تكلم بِهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: اسْتِعَارَة الدَّوَابّ للحرب وَغَيره، وركوب الدَّابَّة عُريَانا لاستعجال الْحَرَكَة، ثمَّ إِنَّه ذكر فِي الحَدِيث ثَلَاثَة أَشْيَاء من صِفَات النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي: الأحسنية والأشجعية والأجودية.
قَالَ حكماء الْإِسْلَام: للْإنْسَان قوًى ثَلَاث: الْعَقْلِيَّة والغضبية والشهوية، وَكَمَال الْقُوَّة الغضبية الشجَاعَة، وَكَمَال الْقُوَّة الشهوية الْجُود، وَكَمَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة الْحِكْمَة.
وَالْأَحْسَن إِشَارَة إِلَيْهِ لِأَن حسن الصُّورَة تَابع لاعتدال المزاج، واعتدال المزاج تَابع لصفاة النَّفس الَّذِي بِهِ جودة القريحة، وَهَذِه الثَّلَاث هِيَ أُمَّهَات الْأَخْلَاق.





[ قــ :693 ... غــ :81 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ جُبَيْرِ ابنِ مُطْعِمٍ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ جُبَيْرِ قَالَ أَخْبرنِي جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ أنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْألُونَهِ حتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اعْطُونِي رِدَائي لَوْ كانَ لِي عَدَدُ هاذِهِ العِضَاهِ نَعَماً لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً ولاَ كَذُوباً وَلَا جَبَاناً.

( الحَدِيث 18 طرفه فِي: 8413) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ثمَّ لَا تجدوني) إِلَى آخِره، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَعمر بن مُحَمَّد بن جُبَير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن مطعم، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من الْإِطْعَام النَّوْفَلِي الْقرشِي، قَالَ الْكرْمَانِي: وَكَثِيرًا يروي الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بِدُونِ وَاسِطَة عمر.
قلت: لم يروِ عَن عمر بن مُحَمَّد بن جُبَير غير الزُّهْرِيّ، وَقد وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ، وَفِيه رد على من زعم أَن شَرط البُخَارِيّ أَن لَا يروي الحَدِيث الَّذِي يُخرجهُ أقل من اثْنَيْنِ، عَن أقل من اثنني، فَإِن هَذَا الحَدِيث مَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن جُبَير غير وَلَده، ثمَّ مَا رَوَاهُ عَن عمر غير الزُّهْرِيّ، هَذَا مَعَ تفرد الزُّهْرِيّ بالرواية عَن عمر مُطلقًا.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْخمس عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم.

قَوْله: ( وَمَعَهُ النَّاس) ، أَي: وَمَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( مقفله) أَي: زمَان قفوله، أَي: رُجُوعه، وَهُوَ: بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْفَاء.
قَوْله: ( من حنين) ، هُوَ وَاد بَين مَكَّة والطائف، وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان.
قَوْله: ( فعلقه النَّاس) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام الْمَكْسُورَة بعْدهَا قَاف، أَي: فتعلقوا بِهِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فطفقت، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ.
قَوْله: ( يسألونه) ، حَال.
قَوْله: ( حَتَّى اضطروه) ، أَي: ألجؤه إِلَى سَمُرَة، وَهِي وَاحِدَة السمر، وَهِي شجر طوال متفرق الرؤوس قَلِيل الظل صغَار اورق قصار الشوك جيد الْخشب وَله نوار أصفر وصمغ أَبيض قَلِيل الْمَنْفَعَة، وَيخرج من السمرَة شَيْء يشبه الدَّم، يُقَال: حَاضَت السمرَة، إِذا خرج مِنْهَا ذَلِك.
قَوْله: ( العضاه) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره هَاء: يقرؤ فِي الْوَصْل وَالْوَقْف بِالْهَاءِ، وَهُوَ كل شجر عَظِيم لَهُ شوك، وَوَاحِد العضاه: عضاهة وعضهة وعضة، حذفوا مِنْهَا الْأَصْلِيَّة كَمَا حذفت فِي: شفة، ثمَّ ردَّتْ فِي عضاه كَمَا ردَّتْ فِي شفَاه وتصغر على عضيهة وينسب إِلَيْهَا، فَيُقَال: بعير عضهي للَّذي يرعاها، وبعير عضاهي وإبل عضاهية،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: ويقرؤ بِالْهَاءِ وَقفا ووصلاً، وَهُوَ شجر الشوك: كالطلح والعوسج والسدر.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: هُوَ على ضَرْبَيْنِ: خَالص: كالعرف والطلح وَالسّلم والسيال والسمر والقتاد والغرب، وَغير خَالص: كالشوحط والنبع والشريان والسراء والقشم.
قَوْله: ( نعما) ، بِفَتْح النُّون وَالْعين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: نعم، بِالرَّفْع، وَجه الرّفْع أَنه اسْم: كَانَ.
وَقَوله: ( فِي عدد) خَبره، وَوجه النصب أَنه تَمْيِيز، و: كَانَ، تكون تَامَّة، وَالنعَم الْإِبِل خَاصَّة.
كَذَا قَالَه أَكثر أهل التَّفْسِير.
.

     وَقَالَ  أَبُو جَعْفَر النّحاس: قيل: النعم الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَإِن انْفَرَدت الْإِبِل يُقَال لَهَا: نعم، وَإِن انْفَرَدت الْبَقر وَالْغنم لَا يُقَال لَهَا نعم، وَاخْتلف فِي الْأَنْعَام فَقيل: هِيَ جمع: نعم، فَيكون لِلْإِبِلِ خَاصَّة وَقيل: إِذا قلت: أنعام، دخل تَحْتَهُ الْبَقر وَالْغنم.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: النعم وَاحِد الْأَنْعَام، وَهِي المَال الراعية، قَالَ الْفراء: هُوَ ذكر لَا يؤنث، يَقُولُونَ: هَذَا نعم، وَأَرَادَ، وَيجمع على: نعْمَان، مثل: حمل وحملان، والأنعام تذكر وتؤنث، قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع: مِمَّا فِي بطونه، وَفِي مَوضِع: مِمَّا فِي بطونها، وَجمع الْجمع أناعيم.
قَوْله: ( ثمَّ لَا تجدوني) ، ويروى: لَا تجدونني، على الأَصْل فِيهِ أَنه لَا بَأْس للرجل الْفَاضِل أَن يخبر عَن نَفسه بِمَا فِيهِ من الْخلال الشَّرِيفَة عِنْدَمَا يخَاف سوء ظن أهل الْجَاهِلِيَّة.
قَوْله: ( بَخِيلًا) ، قَالَ الْفراء: الْبَخِيل الشحيح،.

     وَقَالَ  ابْن مَسْعُود: الْبَخِيل أَن لَا يُعْطي شَيْئا.
والشحيح أَخذه مَال أَخِيه بِغَيْر حق.
.

     وَقَالَ  طَاوُوس: الْبَخِيل أَن يبخل مِمَّا فِي يَده، والشحيح أَن يشح بِمَا فِي أَيدي النَّاس، يحب أَن يكون لَهُ مَا فِي أَيدي النَّاس بالحلال وَالْحرَام.
وَقيل: الْبُخْل فِي اللُّغَة دون الشُّح، وَالشح أَشد مِنْهُ، يُقَال: بخل يبخل بخلا وبخلاً، وَقيل: الْبُخْل أَن يضن الْإِنْسَان بِمَالِه أَن يبذله فِي المكارم أَو اللوازم.
قَوْله: ( وَلَا كذوباً) من كذب كذبا وكذباً، وَهُوَ خلاف الصدْق، فَهُوَ كَاذِب وَكَذَّاب وكذوب وكيذبان

ومكذبان ومكذبانة وكذبة، مِثَال: همزَة وكذبذب مخففاً، وَقد يشدد.
قَوْله: ( وجباناً) صفة مشبهة من الْجُبْن، وَهُوَ ضد الشجَاعَة، لَا يُقَال: لَا يلْزم من نفي الكذوبية نفي الْكَذِب، وَلَا من نفي البخيلية نفي الْبُخْل، وَلَا من نفي الجبان نفي نفس الْجُبْن لأَنا نقُول: قد تَجِيء هَذِه الأوزان بِمَعْنى: ذِي كَذَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَمَا رَبك بظلام للعبيد} ( فصلت: 64) .
وَالتَّقْدِير: وَمَا رَبك بِذِي ظلم، لِأَن نفي الظلامية لَا يَنْفِي نفس الظُّلم وَكَذَلِكَ هَهُنَا فيؤل الْمَعْنى إِلَى نفي هَذِه الْأَشْيَاء بِالْكُلِّيَّةِ، ثمَّ اقتران الْكَذِب مَعَ الجبان، مَعَ أَن مُقْتَضى الْمقَام نفي الْبُخْل فَقَط هُوَ إِشَارَة إِلَى أَنه يَقُول: لَا أكذب فِي نفي الْبُخْل عني، لِأَن نفي الْبُخْل عني لَيْسَ من خوفي مِنْكُم، وَهَذَا من جَوَامِع الْكَلم إِذْ أصُول الْأَخْلَاق: الْحِكْمَة وَالْكَرم والشجاعة، وَأَشَارَ بِعَدَمِ الْكَذِب إِلَى كَمَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة، أَي: الْحِكْمَة وبعدم الْجُبْن إِلَى كَمَال الْقُوَّة الغضبية أَي: الشجَاعَة وبعدم الْبُخْل إِلَى كَمَال الْقُوَّة الشهوية أَي: الْجُود، وَهَذِه الثَّلَاث هِيَ أُمَّهَات فواضل الْأَخْلَاق، وَالْأول هُوَ مرتبَة الصديقين، وَالثَّانِي هُوَ مرتبَة الشُّهَدَاء، وَالثَّالِث هُوَ مرتبَة الصَّالِحين أللهم اجْعَلْنَا مِنْهُم.
<"