فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الكافر يقتل المسلم، ثم يسلم، فيسدد بعد ويقتل

( بابُُ الكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ بَعْدُ ويُقْتَلُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْكَافِر الَّذِي يقتل الْمُسلم ثمَّ يسلم، بِضَم الْيَاء أَي: الْقَاتِل.
قَوْله: ( فيسدد) بِالسِّين الْمُهْملَة أَي: يسدد دينه يَعْنِي: يَسْتَقِيم.
قَوْله: ( بعدُ) بِضَم الدَّال أَي: بعد قَتله الْمُسلم.
قَوْله: ( ويُقتل) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: أَو يقتل، وَعَلَيْهَا اقْتصر ابْن بطال والإسماعيلي،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَو ثمَّ يصير مقتولاً، وَالْجَوَاب فِيهِ يفهم من الحَدِيث، وَلم يذكرهُ اكْتِفَاء بِهِ.



[ قــ :2698 ... غــ :2826 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَضْحِكُ الله إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أحدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ يُقَاتِلُ هذَا فِي سَبيلِ الله فيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ الله عَلى القَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة كالشرح لِمَعْنى الحَدِيث، وَذَلِكَ أَن الْمَذْكُور فِيهَا: فيسدد، وَفِي الحَدِيث ( فيستشهد) وَالشَّهَادَة إِنَّمَا تعْتَبر على وَجه التسديد، وَهُوَ الاسْتقَامَة فِيهَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: يظْهر لي أَن البُخَارِيّ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَة إِلَى مَا أخرجه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم من طَرِيق أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّار مُسلم قتل كَافِرًا ثمَّ سدد الْمُسلم وقارب ... الحَدِيث.
انْتهى.
قلت: التَّرْجَمَة لَا تكون إلاَّ بِمَا يدل على شَيْء من الحَدِيث الَّذِي وضعت التَّرْجَمَة لَهُ، فَكيف تكون التَّرْجَمَة هُنَا والْحَدِيث فِي كتاب آخر أخرجه غَيره؟ والإسناد الْمَذْكُور بِعَين هَؤُلَاءِ الرِّجَال قد ذكر غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي النعوت عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( يضْحك الله) ، الضحك وَأَمْثَاله إِذا أطلقت على الله يُرَاد بهَا لوازمها مجَازًا، ولازم الضحك الرِّضَا.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: الضحك الَّذِي يعتري الْبشر عِنْدَمَا يستخفهم الْفَرح أَو يستفزهم الطَّرب غير جَائِز على الله، عز وَجل وَإِنَّمَا هُوَ مثل ضربه لهَذَا الصنع الَّذِي هُوَ مَكَان التَّعَجُّب عِنْد الْبشر، وَفِي صفة الله تَعَالَى الْإِخْبَار عَن الرِّضَا بِفعل أحد هذَيْن وَالْقَبُول للْآخر، ومجازاتهما على صنيعهما الْجنَّة مَعَ اخْتِلَاف أحوالهما، وتباين مقاصدهما، وَمَعْلُوم أَن الضحك يدل على الرِّضَا وَقبُول الْوَسِيلَة وإنجاح الطّلبَة، فَمَعْنَاه: أَن الله يجزل الْعَطاء لَهما لِأَنَّهُ هُوَ مُقْتَضى الضحك وموجبه، أَو يكون مَعْنَاهُ: تضحك مَلَائِكَة الله من صنيعهما، لِأَن الإيثار على النَّفس أَمر نَادِر فِي الْعَادة مستغرب فِي الطباع،.

     وَقَالَ  ابْن حبَان فِي ( صَحِيحه) : يُرِيد: أضْحك الله مَلَائكَته من وجود مَا قضى.
.

     وَقَالَ  ابْن فورك: أَي: يُبْدِي الله من فَضله تَوْفِيقًا لهذين الرجلَيْن، كَمَا تَقول الْعَرَب: ضحِكت الأَرْض من النَّبَات إِذا ظهر فِيهَا، وَكَذَلِكَ قَالُوا للطلع إِذا انفتق عَنهُ: كفري الضحك، لأجل أَن ذَلِك يَبْدُو مِنْهُ الْبيَاض الظَّاهِر كبياض الثغر،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: أَرَادَ قبُول أعمالهما ورحمتهما وَالرِّضَا عَنْهُمَا.
قَوْله: ( إِلَى رجلَيْنِ) ، عدى: بإلى، لتَضَمّنه معنى الإقبال، يُقَال: ضحِكت إِلَى فلَان إِذا تَوَجَّهت إِلَيْهِ بِوَجْه طلق، وَأَنت عَنهُ راضٍ.
قلت: هَذَا يدل على أَن المُرَاد بالضحك هُنَا الإقبال بِالْوَجْهِ.
قَوْله: ( يدخلَانِ الْجنَّة) فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة للرجلين، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق همام عَن أبي هُرَيْرَة، قَالُوا: كَيفَ يَا رَسُول الله؟ .
قَوْله: ( يُقَاتل هَذَا) ، جملَة مستأنفة، يدل عَلَيْهِ رِوَايَة مُسلم هَذِه، لِأَن الْمَعْنى: قَالُوا: يَا رَسُول الله! كَيفَ يدخلَانِ الْجنَّة؟ فَقَالَ: ( يُقَاتل هَذَا فِي سَبِيل الله فَيقْتل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَزَاد فِي رِوَايَة همام: ( فيلج الْجنَّة، ثمَّ يَتُوب الله على الْقَاتِل) ، أَي: فَيسلم.
وَفِي رِوَايَة همام: ( فيهديه الله إِلَى الْإِسْلَام، ثمَّ يُجَاهد فِي سَبِيل الله فيستشهد) .

وَقَالَ أَبُو عمر: يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث أَن كل من قتل فِي سَبِيل الله فَهُوَ فِي الْجنَّة.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: معنى هَذَا الحَدِيث عِنْد أهل الْعلم: أَن الْقَاتِل الأول كَانَ كَافِرًا.
قيل: هُوَ الَّذِي استنبطه البُخَارِيّ فِي تَرْجَمته، وَلَكِن لَا مَانع أَن يكون مُسلما، لعُمُوم قَوْله: ( ثمَّ يَتُوب الله على الْقَاتِل) كَمَا لَو قتل مُسلم مُسلما عمدا بِلَا شُبْهَة ثمَّ تَابَ الْقَاتِل وَاسْتشْهدَ فِي سَبِيل الله عز وَجل.





[ قــ :699 ... غــ :87 ]
- حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ قَالَ أخْبرني عَنْبَسَةُ بنُ سَعِيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَما افْتَتَحُوهَا فَقُلْتُ يَا رسولَ الله أسْهِمْ لِي فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بنِ العاصِ لَا تُسْهِمْ لَهُ يَا رسولَ الله فَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ هَذَا قاتِلُ ابنِ قَوْقَلٍ فَقَالَ ابنُ سَعَيدِ بنِ العَاصِ واعَجَبَاً لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قُدُومِ ضأنٍ يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أكْرَمَهُ الله عَلَى يَدَيَّ ولَمْ يُهَنِّيءْ عَلَى يَدَيْهِ قَالَ فِلا أدْرِي أسْهَمَ لَهُ أمْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ قَالَ سُفْيَانُ وحَدَّثَنِيهِ السَعِيديُّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أبُو عَبْدِ الله السَّعِيديُّ عَمْرُو ابنُ يَحْيَى بنِ سَعِيدِ بنِ عَمْرِو بنِ سَعِيدِ بنِ الْعَاصِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَول ابْن سعيد بن الْعَاصِ، وَهُوَ أبان بن سعيد: أكْرمه الله بيَدي) ، وَأَرَادَ بذلك أَن ابْن قوقل وَهُوَ النُّعْمَان اسْتشْهد بيد أبان فَأكْرمه الله بِالشَّهَادَةِ، وَلم يقتل أبان على كفره فَيدْخل النَّار، بل عَاشَ حَتَّى تَابَ وَأسلم وَكَانَ إِسْلَامه قبل خَيْبَر وَبعد الْحُدَيْبِيَة، وَهَذَا هُوَ عين التَّرْجَمَة.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: هُوَ عبد الله بن الزبير أَبُو بكر، مَنْسُوب إِلَى أحد أجداده: حميد بن زُهَيْر وَهُوَ بطن من قُرَيْش.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: عَنْبَسَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة: ابْن سعيد الْأمَوِي.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.

وَفِيه: أَرْبَعَة أنفس أَيْضا.
الأول: هُوَ قَوْله: بعض بني سعيد بن الْعَاصِ، هُوَ أبان بن سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف الْقرشِي الْأمَوِي، قَالَ الزبير: تَأَخّر إِسْلَامه بعد إِسْلَام أَخَوَيْهِ: خَالِد وَعَمْرو، ثمَّ أسلم أبان وَحسن إِسْلَامه.
قَالَ أَبُو عمر: وَكَانَ إِسْلَام أبان بن سعيد بَين الْحُدَيْبِيَة وخيبر،.

     وَقَالَ  إِبْنِ إِسْحَاق: قتل أبان وَعَمْرو ابْنا سعيد بن الْعَاصِ يَوْم اليرموك، وَلم يُتَابع عَلَيْهِ ابْن إِسْحَاق، وَكَانَت اليرموك يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس مضين من رَجَب سنة خمس عشرَة فِي خلَافَة عمر،.

     وَقَالَ  مُوسَى بن عقبَة: قتل أبان يَوْم أجنادين، وَكَانَت وقْعَة أجنادين فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث عشرَة فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَقيل: إِنَّه قتل أَيَّام مرج الصفر، وَكَانَ فِي صدر خلَافَة عمر سنة أَربع عشرَة، وَكَانَ الْأَمِير يَوْم مرج الصفر خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الثَّانِي: ابْن قوقل: هُوَ النُّعْمَان بن مَالك بن ثَعْلَبَة بن أَصْرَم، بالصَّاد الْمُهْملَة: ابْن فهم بن ثَعْلَبَة بن غنم، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون بعْدهَا مِيم: ابْن عَمْرو بن عَوْف الْأنْصَارِيّ الأوسي، وقوقل لقب ثَعْلَبَة.
وَقيل: لقب أَصْرَم، وَقد ينْسب النُّعْمَان إِلَى جده، فَيُقَال لَهُ: النُّعْمَان بن قوقل، وقوقل بقافين على وزن: جَعْفَر، شهد بَدْرًا وَقتل يَوْم أحد شَهِيدا، وروى الْبَغَوِيّ فِي (الصَّحَابَة) : أَن النُّعْمَان بن قوقل قَالَ يَوْم أحد: أَقْسَمت عَلَيْك يَا رب أَن لَا تغيب الشَّمْس حَتَّى أَطَأ بعرجتي فِي الْجنَّة، فاستشهد ذَلِك الْيَوْم، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لقد رَأَيْته فِي الْجنَّة) الثَّالِث: السعيدي، وَهُوَ الَّذِي أوضحه البُخَارِيّ بقوله: هُوَ عَمْرو بن يحيى بن سعيد بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ، يكنى أَبَا أُميَّة الْمَكِّيّ.
قَالَ يحيى بن معِين: صَالح، وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات.
الرَّابِع: سعيد بن عَمْرو بن سعيد الْقرشِي أَبُو عُثْمَان الْأمَوِي، روى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، وَعَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، روى عَنهُ ابْن ابْنه عَمْرو بن يحيى الْمَذْكُور،.

     وَقَالَ  أَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ ثِقَة،.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم صَدُوق.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ بِخَيْبَر) جملَة حَالية، وَكَانَ افتتاحها فِي سنة ...

... قَوْله: (أسْهم لي) ، السَّائِل بِهَذَا هُوَ أَبُو هُرَيْرَة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث أبان بن سعيد ابْن الْعَاصِ على سَرِيَّة من الْمَدِينَة، قِبَل نَجْد، فَقدم أبان وَأَصْحَابه على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِخَيْبَر بعد أَن فتحهَا، فَقَالَ أبان: إقسم لنا يَا رَسُول الله، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَقلت: لَا تقسم لَهُ يَا رَسُول الله! فَقَالَ أبان: أَنْت هُنَا يَا وبر تحدر علينا من رَأس ضال؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس يَا أبان، وَلم يقسم لَهُم، وَفِي لفظ: فَقَالَ سعيد بن الْعَاصِ: يَا عجبا لوبر؟ قَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب: كَذَا عِنْد أبي دَاوُد، فَقَالَ سعيد: وَإِنَّمَا هُوَ ابْن سعيد، واسْمه أبان، قَالَ: وَالصَّحِيح أَن أَبَا هُرَيْرَة هُوَ السَّائِل، كَمَا هُوَ فِي البُخَارِيّ.
انْتهى.
قلت: على تَقْدِير صِحَة حَدِيث أبي دَاوُد ومقاومته لحَدِيث البُخَارِيّ يحْتَمل أَنَّهُمَا سَأَلَا جَمِيعًا، وَأَن أَحدهمَا جازى الآخر لما أسلفه من قَوْله: لَا تقسم لَهُ.
قَوْله: (بعض بني سعيد بن الْعَاصِ) ، هُوَ أبان بن سعيد كَمَا قُلْنَا.
قَوْله: (قَاتل ابْن قوقل) ، هُوَ النُّعْمَان بن مَالك، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن.
قَوْله: (وَاعجَبا) بِالتَّنْوِينِ، ويروى بِدُونِهِ، وَكلمَة: واهنا اسْم لأعجب، وانتصاب عجبا بِهِ.
قَوْله: (لوبر) ، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا رَاء، قَالَ ابْن قرقول: كَذَا لأكْثر الروَاة بِسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي دويبة غبراء، وَيُقَال: بَيْضَاء على قدر السنور حَسَنَة الْعَينَيْنِ من دَوَاب الْجبَال، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِك احتقاراً، وضبطها بَعضهم بِفَتْح الْبَاء، وتأوله: جمع وبرة وَهُوَ شعر الْإِبِل أَي: إِن شَأْنه كشأن الْوَبرَة، لِأَنَّهُ لم يكن لأبي هُرَيْرَة عشيرة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: أَحسب أَنَّهَا تُؤْكَل، لِأَنِّي وجدت بعض السّلف يُوجب فِيهَا الْفِدْيَة.
.

     وَقَالَ  الْقَزاز: هِيَ سَاكِنة الْبَاء: دويبة أَصْغَر من السنور، طحلاء اللَّوْن، يَعْنِي: تشبه الطحال لَا ذَنْب لَهَا، وَهِي من دَوَاب الْغَوْر، وَالْجمع: وبار، وَفِي (الْمُحكم (: على قدر السنور، وَالْأُنْثَى وبرة، وَالْجمع؛ وبر ووبور ووبار ووبار وابارة.
وَفِي (الصِّحَاح) ؛ ترحن فِي الْبيُوت: أَي: تقيم بهَا وتألفها.
.

     وَقَالَ  أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كتاب (المغيث) : يجب على الْمحرم فِي قَتلهَا شَاة لِأَنَّهَا تجتز كالشاة، وَقيل؛ لِأَن لَهَا كرشاً كالشاة، وَفِي (مجمع الغرائب) عَن مُجَاهِد: فِي الْوَبر شَاة، فَذكر مثله.
وَفِي (البارع) : لأبي عَليّ بن أبي حَاتِم: الطائيون يَقُولُونَ لما يكون فِي الْجبَال من الحشرات: الْوَبر، وَجَمعهَا: الوبارة، ولغة أُخْرَى الإبارة بِالْكَسْرِ والهمز،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَإِنَّمَا سكت أَبُو هُرَيْرَة عَن أبان فِي قَوْله هَذَا لِأَنَّهُ لم يرمه بِشَيْء ينقص دينه، إِنَّمَا ينقصهُ بقلة الْعَشِيرَة وَالْعدَد أَو لضعف الْمِنَّة.
قَوْله: (تدلى علينا) ، أَي: انحدر، وَلَا يخبر بِهَذَا إلاَّ عَمَّن جَاءَ من مَكَان عَال.
قَالَ الطَّبَرِيّ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْعَرَب.
قَوْله: (من قدوم ضان) ، قَالَ ابْن قرقول: هُوَ بِفَتْح الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال: اسْم مَوضِع، وَضم الْمروزِي الْقَاف وَالْأول أَكثر، وتأوله بَعضهم قدوم ضان، أَي: الْمُتَقَدّم مِنْهَا، وَهِي رؤوسها، وَهُوَ وهم بيِّن.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون جمع: قادم مثل: رُكُوع وَرَاكِع، وَسُجُود وَسَاجِد، وَيكون الْمَعْنى: تدلى علينا من جملَة القادمين، أَقَامَ الصّفة مقَام الْمَوْصُوف، وَيكون: من، فِي قَوْله: من قدوم، تبيينا للْجِنْس، كَمَا لَو قَالَ: تدلى علينا من سَاكِني ضان، وَلَا تكون من مرتبطة بتدلي، كَمَا هِيَ مرتبطة بِالْفِعْلِ فِي قَوْلك تدليت من الْجَبَل لِاسْتِحَالَة تدليه من قوم، لِأَنَّهُ لَا يُقَال: تدليت من بني فلَان، قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون قدوم مصدرا وصف بِهِ الفاعلون، وَيكون فِي الْكَلَام حذف وَتَقْدِيره: تدلى علينا من ذَوي قدوم، فَحذف الْمَوْصُوف وَأقَام الْمصدر مقَامه، كَمَا لَو قَالُوا: رجل صَوْم، أَي: ذُو صَوْم، و: من، على هَذَا التَّقْدِير أَيْضا تَبْيِين للْجِنْس، كَمَا كَانَت فِي الْوَجْه الأول.
قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: تدلى علينا من مَكَان قدوم ضَأْن، ثمَّ حذف الْمَكَان وَأقَام الْقدوم مَكَانَهُ، كَمَا قَالَت الْعَرَب: ذهب بِهِ مَذْهَب، وسلك بِهِ مَسْلَك، يُرِيد الْمَكَان الَّذِي يسْلك فِيهِ وَيذْهب، وَيشْهد لهَذَا رِوَايَة: (من رَأس ضان) ، وَيحْتَمل أَن يكون إسماً لمَكَان قدوم بِفَتْح الْقَاف دون الضَّم لقلَّة الضَّم فِي هَذَا الْبناء فِي الْأَسْمَاء وَكَثْرَة الْفَتْح، وَيحْتَمل أَن يكون قدوم ضَأْن بتَشْديد الدَّال وَفتح الْقَاف: لَو ساعدته رِوَايَة، لِأَنَّهُ من بِنَاء أَسمَاء الْمَوَاضِع، وطرف الْقدوم مَوضِع بِالشَّام، وَعَن ابْن دُرَيْد: قدوم ثنية بسراة أَرض دوس،.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد: رَوَاهُ النَّاس عَن البُخَارِيّ، ضَأْن، بالنُّون إلاَّ الْهَمدَانِي فَإِنَّهُ رَوَاهُ: (من قدوم ضال) ، بِاللَّامِ وَهُوَ الصَّوَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
والضال السدر الْبري، وَأما إِضَافَة هَذِه الثَّنية إِلَى الضَّأْن فَلَا أعلم لَهَا معنى.
وَقد مر عَن أبي دَاوُد أَنه بِاللَّامِ،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: كَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَزعم أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ أَن: ضان، بالنُّون جبل بِأَرْض دوس بلد أبي هُرَيْرَة، وَقيل: ثنية.
قَوْله: (ينعي عَليّ) من نعيت على الرجل فعله إِذا عبته عَلَيْهِ.
قَوْله: (قتل رجل) ، بِالنّصب مفعول، ينعى: أَي ينعي عَليّ بِأَنِّي قتلت رجلا أكْرمه الله على يَدي، حَيْثُ صَار شَهِيدا بواسطتي، وَلم يكن بِالْعَكْسِ، إِذْ لَو صرت مقتولاً بِيَدِهِ لصرت مهاناً من أهل النَّار، إِذا لم أكن حِينَئِذٍ مُسلما.
قَوْله: (قَالَ: فَلَا أَدْرِي أسْهم لَهُ) ، وَهُوَ من قَول ابْن عُيَيْنَة أَو من دونه، إِلَى شيخ البُخَارِيّ، قَالَه ابْن التِّين.
قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحميدِي فِي (مُسْنده) : عَن سُفْيَان: وحدثنيه السعيدي أَيْضا، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي عمر: عَن سُفْيَان سَمِعت السعيدي.
قَوْله: (وحدثنيه السعيدي) ، مَعْطُوف على قَوْله: حَدثنَا الزُّهْرِيّ، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) ، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، هَذَا وَقع هَكَذَا ولغير أبي ذَر.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الرجل قد يوبخ بِمَا قد سلف إلاَّ أَن يَتُوب فَلَا توبيخ عَلَيْهِ، وَلَا تَثْرِيب ألاَ يُرى أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يوبخ ابْن سعيد بن الْعَاصِ على قتل ابْن قوقل، كَيفَ رد عَلَيْهِ أقبح الرَّد، وَصَارَت لَهُ عَلَيْهِ الْحجَّة، كَمَا صَارَت لآدَم على مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، من أجل أَنه وبخه بعد التَّوْبَة من الذَّنب.
وَفِيه: أَن التَّوْبَة تمحو مَا سلف قبلهَا من الذُّنُوب: الْقَتْل وَغَيره، لقَوْله: أكْرمه الله على يَدي وَلم يهنيء على يَدَيْهِ، لِأَن ابْن قوقل وَجَبت لَهُ الْجنَّة بقتل ابْن سعيد لَهُ، وَلم يجب لِابْنِ سعيد النَّار لِأَنَّهُ أسلم وَمَات.
ويصحح، هَذَا سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قَوْله: وَلَو كَانَ غير صَحِيح لما لزمَه السُّكُوت، لِأَنَّهُ بعث للْبَيَان.
وَفِيه: قيل: حجَّة على الْكُوفِيّين فِي قَوْلهم فِي المدد: يلْحق بالجيش فِي أَرض الْحَرْب بعد الْغَنِيمَة أَنهم شركاؤهم فِي الْغَنِيمَة وَسَائِر الْعلمَاء إِنَّمَا تجب الْغَنِيمَة عِنْدهم لمن شهد الْوَقْعَة، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأَن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُسهم لَهُم، وَأَبُو حنيفَة إِنَّمَا يُسهم لمن غَابَ عَن الْوَقْعَة لشغل شغله بِهِ الإِمَام من أُمُور الْمُسلمين، كَمَا فعل بعثمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين قسم لَهُ من غَنَائِم بدر بِسَهْم وَلم يحضرها، لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبا فِي حَاجَة الله وَرَسُوله، فَكَانَ كمن حضرها أَو مثل أَن يَبْعَثهُ الإِمَام لقِتَال قوم آخَرين فَيُصِيب الإِمَام غنيمَة بعد مُفَارقَة الرجل إِيَّاه، أَو يبْعَث رجلا، مِمَّن مَعَه فِي دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام ليمده بسلاح وَرِجَال فَلَا يعود ذَلِك الرجل إِلَى الإِمَام حَتَّى يقسم غنيمه، فَهُوَ شريك فِيهَا وَهُوَ كمن حضرها، وَكَذَلِكَ كل من أَرَادَ الْغَزْو فَرده الإِمَام وشغله بِشَيْء من أُمُور الْمُسلمين فَهُوَ كمن حضرها.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَإِنَّمَا ذَلِك وَالله أعلم لِأَنَّهُ وَجه أبان لنجد قبل أَن يتهيأ خُرُوجه إِلَى خَيْبَر، فَتوجه أبان ثمَّ حدث خُرُوجه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى خَيْبَر فَكَانَ مَا غَابَ فِيهِ أبان لَيْسَ هُوَ شغل شغل بِهِ عَن حُضُورهَا بعد إِرَادَته إِيَّاهَا، فَيكون كمن حضرها.