فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل النفقة في سبيل الله

( بابُُ فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيل الله)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله، المُرَاد من سَبِيل الله: الْجِهَاد، وَلَكِن اللَّفْظ أَعم من هَذَا يتَنَاوَل الْجِهَاد وَغَيره.



[ قــ :2713 ... غــ :2841 ]
- حدَّثني سَعْدُ بنُ حَفُصٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ يَحْياى عنْ أبِي سلَمَةَ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ الله دَعَاهُ خَزَنَةُ الجَنَّةِ كلُّ خَزَنَةِ بابٍُ أيْ فُلْ هَلُمَّ قَالَ أبُو بَكْرٍ يَا رسولَ الله ذااك الَّذي لَا تَوَى عَلَيْهِ فَقالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسعد بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الطلحي الْكُوفِي، يُقَال لَهُ: الضخم وَهُوَ من أَفْرَاده، وشيبان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن كثير، وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن آدم.
وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد ابْن رَافع وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم.

قَوْله: ( من أنْفق زَوْجَيْنِ) ، أَي: شَيْئَيْنِ من أَي نوع كَانَ، مِمَّا ينْفق.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَالزَّوْج خلاف الْفَرد، وكل وَاحِد مِنْهُمَا يُسمى أَيْضا زوجا.
قلت: يَنْبَغِي أَن يُطلق هُنَا على الْوَاحِد قطعا.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: يُرِيد بالزوجين أَن يشفع إِلَى كل شَيْء مَا يشفعه من شَيْء مثله، إِن كَانَ دَرَاهِم فبدرهمين، وَإِن كَانَ دَنَانِير فبدينارين، وَإِن كَانَ سِلَاحا وَغَيره كَذَلِك.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: يَقع الزَّوْج على الْوَاحِد والإثنين، وَهنا على الْوَاحِد.
وَاحْتج بقوله: خلق الزَّوْجَيْنِ، وَاعْتَرضهُ ابْن التِّين، فَقَالَ: لَيْسَ قَوْله ببيِّن.
قلت: هَذَا بيّن فَلَا وَجه لاعتراضه.
قَوْله: ( خَزَنَة الْجنَّة) ، الخزنة جمع: خَازِن، وَهُوَ الَّذِي يخزن تَحت يَده الْأَشْيَاء.
قَوْله: ( كل خَزَنَة بابُُ) ، قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ من المقلوب.
قلت: لَا حَاجَة إِلَى قَوْله: كَأَنَّهُ، بل هُوَ من المقلوب، إِذْ أَصله: خَزَنَة كل بابُُ.
قَوْله: ( أَي فل) كلمة: أَي، حرف نِدَاء.
وَقَوله: ( فل) ، رُوِيَ بِضَم اللَّام وَفتحهَا، وَأَصله: فلَان، فَحذف مِنْهُ الْألف وَالنُّون بِغَيْر ترخيم، وَلَفظ: فلَان، كِنَايَة عَن اسْم سمي بِهِ الْمُحدث عَنهُ.
وَيُقَال فِي النداء: يَا فل، وَإِنَّمَا قُلْنَا: بِغَيْر ترخيم، إِذْ لَو كَانَ ترخيماً لقيل: يَا فَلَا.
قَوْله: ( هَلُمَّ) ، مَعْنَاهُ: تعال، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجمع فِي اللُّغَة الحجازية، وَأهل نجد يَقُولُونَ: هَل هلما هلموا.
قَوْله: ( لَا توى عَلَيْهِ) أَي: لَا ضيَاع عَلَيْهِ.
وَقيل: لَا هَلَاك، من قَوْلك: توى المَال يتوي تِوًى.
.

     وَقَالَ  ابْن فَارس: التوى يمد وَيقصر، وَأَكْثَرهم على أَنه مَقْصُور.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب فِي هَذَا الحَدِيث: إِن الْجِهَاد أفضل الْأَعْمَال، لِأَن الْمُجَاهِد يُعْطَى أجر الْمُصَلِّي والصائم والمتصدق، وَإِن لم يفعل ذَلِك، وَلِأَن بابُُ الريان للصائمين، وَقد ذكر فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْمُجَاهِد يدعى من تِلْكَ الْأَبْوَاب كلهَا بإنفاق قَلِيل من المَال فِي سَبِيل الله.
انْتهى.
قلت: هَذَا الَّذِي ذكره إِنَّمَا يتمشى على القَوْل بِأَن المُرَاد بقوله: فِي سَبِيل الله: الْجِهَاد، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِهِ مَا هُوَ أَعم من الْجِهَاد وَغَيره من الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَيُؤَيّد هَذَا مَا جَاءَ فِي الحَدِيث من زِيَادَة أخرجهَا أَحْمد، وَهِي قَوْله، فِيهِ: لكل أهل عمل بابُُ يدعونَ بذلك الْعَمَل، وَالله أعلم.





[ قــ :714 ... غــ :84 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحٌ قَالَ حدَّثنا هِلاَلٌ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قامَ عَلى المِنْبَرِ فَقال إنَّمَا أخْشاى علَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكاتِ الأرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فبَدَأ بإحْدَاهُمَا وثَنَّى بالأُخْراى فَقام رَجُلٌ فَقالَ يَا رسولَ الله أوَ يَأتِي الخَيْرُ بالشَّرِّ فسَكَتَ عَنْهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنا يُوحاى إلَيْهِ وسَكَتَ النَّاسُ كأنَّ علَى رُؤوسِهِمِ الطَّيْرَ ثُمَّ إنَّهَ مَسَحَ عنْ وَجْهِهِ الرُحَضَاءَ فَقال أيْنَ السَّائِلُ آنِفَاً أوَ خَيْرٌ هُوَ ثَلاثَاً إِن الْخَيْر لَا يَأْتِي إلاَّ بالْخَيْرِ وإنَّهُ كلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعَ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُّ إلاَّ آكِلَةَ الخُضَرِ كلَّمَا أكلَتْ حتَّى إذاا امْتَلأتْ خاصِرَتاها اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسُ فثَلَطَتْ وبالَتْ ثُمَّ رَتعَتْ وإنَّ هذَا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ونِعْمَ صاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أخَذَهُ بِحَقِّهِ يَجعَلَهُ فِي سَبِيلِ الله واليَتَامى والمَساكِينِ وابنِ السَّبِيلِ ومَنْ لَمْ يأخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهْوَ كالآكِلِ الَّذِي لَا يَشْبَعُ ويَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيداً يَوْمَ القيَامَةِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَجعله فِي سَبِيل الله) ، وَمُحَمّد بن سِنَان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون: أَبُو بكر الْعَوْفِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَعْمَى، وَهُوَ من أَفْرَاده.
وفليح بن سُلَيْمَان، وهلال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن أبي هِلَال، وَهُوَ هِلَال بن عَليّ الفِهري الْمَدِينِيّ والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي بابُُ الصَّدَقَة على الْيَتَامَى وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ فلنذكر بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة.

قَوْله: ( فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا) أَي: بالبركات.
قَوْله: ( وثنى بِالْأُخْرَى) أَي: بزهرة الدُّنْيَا.
قَوْله: ( أوَ يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ؟) أَي: تصير النِّعْمَة عُقُوبَة.
قَوْله: ( كَأَن على رؤوسهم الطير) قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي: أَن كل وَاحِد صَار كمن على رَأسه طَائِر يُرِيد صَيْده فَلَا يَتَحَرَّك كَيْلا يطير.
قَوْله: ( الرحضاء) ، بِضَم الرَّاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وبالمد: الْعرَاق الَّذِي أدره عِنْد نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ، يُقَال: رحض الرجل إِذا أضابه ذَلِك فَهُوَ مرحوض ورحيض.
قَوْله: ( أوَ خيرٌ هُوَ؟) أَي: المَال هُوَ خير؟ على سَبِيل الْإِنْكَار.
قَوْله: ( إِن الْخَيْر لَا يَأْتِي إلاَّ بِالْخَيرِ) أَي: الْخَيْر الْحَقِيقِيّ لَا يَأْتِي إلاَّ بِالْخَيرِ، لَكِن هَذَا لَيْسَ خيرا حَقِيقِيًّا لما فِيهِ من الْفِتْنَة والإشغال عَن كَمَال الإقبال إِلَى آخِره.
قَوْله: ينْبت، بِضَم الْيَاء، من: الإنبات.
قَوْله: ( حَبطًا) وَقعت هَذِه اللَّفْظَة فِي الْأُصُول، وَذكر ابْن التِّين أَنه مَحْذُوف، وَهُوَ بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة والطاء الْمُهْملَة، وَهُوَ انتفاخ الْبَطن من دَاء يُصِيب الْآكِل من أكله، وانتصابه على التَّمْيِيز.
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: حبطت الدَّابَّة إِذا أكلت المرعى حَتَّى ينتفخ جوفها فتموت.
قَوْله: ( أويلم) ، بِضَم الْيَاء، من: الْإِلْمَام أَي: يقرب أَن يقتل: قَوْله: ( إِلَّا آكِلَة الْخضر) ، أَي: إلاَّ الدَّابَّة الَّتِي تَأْكُل الْخضر فَقَط.
قَوْله: ( فثلطت) ، أَي: النَّاقة إِذا أَلْقَت بعرها رَقِيقا.
قَوْله: ( خضرَة) تأنيثه إِمَّا بِاعْتِبَار أَنْوَاعه، أَو التَّاء للْمُبَالَغَة: كالعلامة، أَو مَعْنَاهُ: أَن كَانَ المَال كالبقلة الخضرة.
قَوْله: ( وَنعم صَاحب الْمُسلم) الْمَخْصُوص بالمدح المَال.
قَوْله: ( وَيكون عَلَيْهِ شَهِيدا) ، وَذَلِكَ بِأَن يَأْتِيهِ فِي صُورَة من يشْهد عَلَيْهِ بالخيانة، كَمَا يَأْتِي على صُورَة شُجَاع أَقرع.