فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من احتبس فرسا " في سبيل الله

( بابُُ منِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ الله)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من احْتبسَ فرسا، يُقَال: حَبسته وَاحْتَبَسَتْهُ، وَاحْتبسَ أَيْضا بِنَفسِهِ يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى، وَالْمعْنَى يحْبسهُ على نَفسه لسد مَا عَسى أَن يحدث فِي ثغر من الثغور من ثلمة، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ.
قَوْله: ( فِي سَبِيل الله) ، وَفِي بعض النّسخ أَيْضا: ( من احْتبسَ فرسا فِي سَبِيل الله) .

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { ومِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ} ( الْأَنْفَال: 06) .


وأوله: { وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ ... } ( الْأَنْفَال: 06) .
الْآيَة، أَمر الله تَعَالَى بإعداد آلَات الْحَرْب لمقاتلة الْكفَّار حسب الطَّاقَة والإمكان والاستطاعة، فَقَالَ: { وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم} ( الْأَنْفَال: 06) .
أَي: مهما أمكنكم من قُوَّة أَي: رمي.
روى أَحْمد فِي ( مُسْنده) من حَدِيث عقبَة بن عَامر، يَقُول: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول وَهُوَ على الْمِنْبَر: { وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة} ( الْأَنْفَال: 06) .
ألاَّ أَن الْقُوَّة الرَّمْي، أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي) .
وَرَوَاهُ مُسلم عَن هَارُون بن مَعْرُوف، وَأَبُو دَاوُد عَن سعيد بن مَنْصُور، وَابْن مَاجَه عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى.
وَقيل: الْقُوَّة كل مَا يتقوى بِهِ على الْحَرْب: كالسيف وَالرمْح والقوس.
وَقيل: ذُكُور الْخَيل، وَقيل: اتِّفَاق الْكَلِمَة، وَقيل: الثِّقَة بِاللَّه وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ.
قَوْله: { وَمن رِبَاط الْخَيل} ( الْأَنْفَال: 06) .
يَعْنِي: ربطها واقتناءها للغزو، وَهُوَ عَام للذكور وَالْإِنَاث فِي قَول الْجُمْهُور.
وَعَن عِكْرِمَة: الْإِنَاث.
قَوْله: { ترهبون بِهِ} ( الْأَنْفَال: 06) .
أَي: تخوِّفون بِهِ، وقرىء مشدداً ومخففاً.



[ قــ :2725 ... غــ :2853 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ الْمُبَارَكِ قَالَ أخبرَنا طَلْحَةُ بنُ أبي سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيداً المَقْبُرِيَّ يُحَدِّثُ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ الله إِيمَانًا بِاللَّه وتَصْدِيقاً بِوَعْدِهِ فإنَّ شِبَعَهُ ورِيَّهُ ورَوْثَهُ وبَوْلَهُ فِي مِيزَانهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن حَفْص الْمروزِي نزل عسقلان، قَالَ البُخَارِيّ: لَقيته بعسقلان سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَلم يروِ عَنهُ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَآخر فِي مَنَاقِب الزبير مَوْقُوفا، وَآخر فِي كتاب الْقدر مَقْرُونا ببشير بن مُحَمَّد، وَابْن الْمُبَارك هُوَ عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي، وَطَلْحَة بن أبي سعيد الْمصْرِيّ نزيل الْإسْكَنْدَريَّة، وَكَانَ أَصله من الْمَدِينَة.
وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْخَيل عَن الْحَارِث بن مِسْكين.

قَوْله: ( من احْتبسَ) ، قد مضى مَعْنَاهُ عَن قريب.
قَوْله: ( إِيمَانًا) ، نصب على أَنه مفعول لَهُ أَي: ربطه خَالِصا لله تَعَالَى امتثالاً لأَمره.
قَوْله: ( وَتَصْدِيقًا بوعده) عبارَة عَن الثَّوَاب الْمُتَرَتب على الاحتباس، وَيُقَال: بوعده، أَي: للثَّواب فِي الْقِيَامَة.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: تلخيصه أَنه احْتبسَ امتثالاً واحتساباً، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى وعد الثَّوَاب على الاحتباس، فَمن احْتبسَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: صدقت فِيمَا وَعَدتنِي.
قَوْله: ( شبعه) ، بِكَسْر الشين أَي: مَا يشبه بِهِ.
قَوْله: ( وريه) ، بِكَسْر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: من رويت من المَاء، بِالْكَسْرِ أروي رياً ورياً وروياً أَيْضا، مثل: رَضِي، وَوَقع فِي حَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد أخرجه أَحْمد: وَمن ربطها رِيَاء وَسُمْعَة ... الحَدِيث.
وَفِيه: فَإِن شبعها وجوعها ... إِلَى آخِره، خسران فِي مَوَازِينه.
قَوْله: ( وروثه) أَرَادَ بِهِ ثَوَاب ذَلِك، لَا أَن الأرواث توزن بِعَينهَا، وروى ابْن بنت منيع من حَدِيث عَليّ مَرْفُوعا: من ارْتبط فرسا فِي سَبِيل الله فعلفه وأثره فِي مَوَازِينه يَوْم الْقِيَامَة.
وروء ابْن أبي عَاصِم من حَدِيث الْمطعم بن الْمِقْدَام عَن الْحسن عَن سهل بن الحنظلية يرفعهُ: من ارْتبط فرسا فِي سَبِيل الله كَانَت النَّفَقَة عَلَيْهِ كالماد يَده بِصَدقَة لَا يقبضهَا، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث مُحَمَّد بن عقبَة القَاضِي عَن أَبِيه عَن جده عَن تَمِيم الدَّارِيّ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ( من ارْتبط فرسا فِي سَبِيل الله، فعالج علفه، كَانَ لَهُ بِكُل حَبَّة حَسَنَة.

وَفِيه: أَن النِّيَّة يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الْأجر.
وَفِيه: أَن الْأَمْثَال تضرب لصِحَّة الْمعَانِي.
وَقيل: يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث أَن هَذِه الْحَسَنَات تقبل من صَاحبهَا لتنصيص الشَّارِع على أَنَّهَا فِي مِيزَانه، بِخِلَاف غَيرهَا، فقد لَا تقبل فَلَا تدخل الْمِيزَان.