فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال

( بابُُ غَزْوِ النِّساءِ وقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان غَزْو النِّسَاء، يَعْنِي: خروجهن إِلَى الْغُزَاة مَعَ الرِّجَال.



[ قــ :2752 ... غــ :2880 ]
- حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا عبدُ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ لَمَّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ولَقَدْ رَأيْتُ عائِشَةَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ وأُمَّ سُلَيْمٍ وإنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أرَى خَدَمَ سُوقِهما تَنْقُزَانِ القِرَبَ.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ تَنْقُلانِ القِرَبَ علَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أفْوَاهِ القَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلآنِها ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتفْرِغَانِهَا فِي أفْوَاهِ القَوْمِ..
قيل: بوب البُخَارِيّ على غزوهن وقتالهن، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَنَّهُنَّ قاتلن، فَأَما أَن يُرِيد إِن إعانتهن للغزاة غَزْو، وَإِمَّا أَن يُرِيد أَنَّهُنَّ مَا ثبتن للمداواة ولسقي الْجَرْحى إلاَّ وَهن يدافعن عَن أَنْفسهنَّ.
وَهُوَ الْغَالِب، فأضاف إلَيْهِنَّ الْقِتَال لذَلِك.
قلت: كلا الْوَجْهَيْنِ جيد.
وَيُؤَيّد الْوَجْه الأول مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي ( سنَنه) من حَدِيث حشرج بن زِيَاد عَن جدته أم أَبِيه: أَنَّهَا خرجت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي غَزْوَة خَيْبَر ... الحَدِيث، وَفِيه: فخرجن نعزل الشّعْر ونعين فِي سَبِيل الله، ومعنا دَوَاء الْجرْح وَتَنَاول السِّهَام ونسقي السويق، فَقَالَ لَهُنَّ خيرا حَتَّى إِذا فتح الله خَيْبَر أسْهم لنا كَمَا أسْهم للرِّجَال ... الحَدِيث، فَهَذَا فِيهِ: نناول السِّهَام، يَعْنِي للغزاة، والمناول للغازي أجره مثل أجر الْغَازِي، كَمَا للمناول السهْم للرامي فِي غير الْغُزَاة، وَأجر المناول فِي الْغُزَاة بطرِيق الأولى.
وَيُؤَيّد الْوَجْه الثَّانِي مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أنس: أَن أم سليم اتَّخذت خنجراً يَوْم حنين، فَقَالَت: اتخذته إِن دنى مني أحد من الْمُشْركين بقرت بَطْنه، فَهَذِهِ أم سليم اتَّخذت عدَّة لقتل الْمُشْركين وعزمت على ذَلِك، فَصَارَ حكمهَا حكم الرِّجَال المقاتلين، وَذكر بَعضهم حَدِيث أبي دَاوُد الْمَذْكُور وَغَيره مثله، ثمَّ قَالَ: وَلم أر فِي شَيْء من ذَلِك التَّصْرِيح بأنهن قاتلن.
انْتهى.
قلت: التَّلْوِيح يُغني عَن التَّصْرِيح فَيحصل بِهِ الْمُطَابقَة على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: يحْتَمل أَن يكون غَرَض البُخَارِيّ بالترجمة أَن يبين أَنَّهُنَّ لَا يقاتلن وَإِن خرجن فِي الْغَزْو فالتقدير بقوله: وقتالهن مَعَ الرِّجَال، أَي: هَل هُوَ سَائِغ أَو إِذا خرجن مَعَ الرِّجَال فِي الْغَزْو ويقتصرن على مَا ذكر من مداواة الْجَرْحى وَنَحْو ذَلِك.
انْتهى.
قلت: لم يكن غَرَض البُخَارِيّ هَذَا الِاحْتِمَال الْبعيد أصلا وَلَا هَذَا التَّقْدِير الَّذِي قدره، لِأَنَّهُ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيب، فَكيف يَقُول: هَل هُوَ سَائِغ؟ بل هُوَ وَاجِب عَلَيْهَا الدّفع إِذا دنى مِنْهَا الْعَدو، وكما فِي حَدِيث أم سليم فَافْهَم.

ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: اسْمه عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد.
الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد.
الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب أَبُو حَمْزَة.
الرَّابِع: أنس بن مَالك.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل أبي طَلْحَة وَفِي الْمَغَازِي.
وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي معمر بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( وَأم سليم) ، هِيَ أم أنس بن مَالك.
قَوْله: ( المشمرتان) ، من التشمير، يُقَال: شمر إزَاره إِذا رَفعه، وشمر عَن سَاقه وشمر فِي أمره أَي: خفف، وشمر لِلْأَمْرِ، أَي: تهَيَّأ لَهُ.
قَوْله: ( خدم سوقهما) ، الخدم بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الدَّال الْمُهْملَة: الخلاخيل، الْوَاحِد: خدمَة،.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: وَقد سمي موضعهَا من السَّاقَيْن خدمَة، وَجمعه: خدام، بِالْكَسْرِ وَيُقَال: سمي الخلخال خدمَة لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ من سيور مركب فِيهِ الذَّهَب وَالْفِضَّة، والخدمة فِي الأَصْل: السّير، والمخدم مَوضِع الخلخال من السَّاق، وَيُقَال: أَصله أَن الْخدمَة سير عَلَيْهَا مثل الْحلقَة تشد فِي رسغ الْبَعِير ثمَّ تشد إِلَيْهَا شرايح نَعله، فَسُمي الخلخال: خدمَة لذَلِك، وَقيل: الْخدمَة مخرج الرِجل من السَّرَاوِيل، والسوق، بِالضَّمِّ جمع: سَاق.
قَوْله: ( تنقزان) ، من النقز، بالنُّون وَالْقَاف وَالزَّاي، وَهُوَ الوثب،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ: بسرعان الْمَشْي كالهرولة.
.

     وَقَالَ  غَيره: مَعْنَاهُ الْوُثُوب، وَنَحْوه فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه: كَانَ يُصَلِّي الظّهْر وَالْخَلَائِق تنقز من الرمضاء، أَي: تثب، يُقَال: نقز ينقز من بابُُ نصر ينصر،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: نقز الظبي فِي عدوه ينقز نقزاً ونقزاناً أَي: وثب، والتنقيز التثويب،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: أَحسب الرِّوَايَة: تزفران، بدل: تنقزان، والزفر حمل الْقرب الثقال.
قلت: مادته زَاي وَفَاء وَرَاء، قَالَ الْجَوْهَرِي: الزفر، مصدر قَوْلك: زفر الْحمل يزفره زفراً أَي: حمله، وأزفره أَيْضا، والزفر بِالْكَسْرِ الْجمل، وَالْجمع أزفار، والزفر أَيْضا الْقرْبَة، وَمِنْه قيل للإماء اللواتي يحملن الْقرب: زوافر، وَقيل: الزفر الْبَحْر الْفَيَّاض، فعلى هَذَا كَانَت تملأ الْقرب حَتَّى تفيض.
قَوْله: ( الْقرب) ، بِكَسْر الْقَاف: جمع قربَة، وَفِي ( التَّلْوِيح) ضبط الشُّيُوخ الْقرب، بِنصب الْبَاء وَهُوَ مُشكل، لِأَن تنقزان لَازم وَوَجهه أَن يكون النصب بِنَزْع الْخَافِض، أَي: تنقزان بِالْقربِ، وَأما على رِوَايَة: تزفران وتنقلان، فَلَا إِشْكَال على مَا لَا يخفى.
قيل: كَانَ بعض الشُّيُوخ يرفع الْقرب على الِابْتِدَاء، وَالْخَبَر مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: الْقرب على متونها، فَتكون الْجُمْلَة الإسمية فِي مَوضِع الْحَال بِلَا وَاو، وَقيل: وجد فِي بعض الْأُصُول: تنقزان، بِضَم التَّاء، فعلى هَذَا يَسْتَقِيم نصب الْقرب، أَي: تحركان الْقرب بِشدَّة عدوهما، فَكَانَت الْقرب ترْتَفع وتنخفض مثل الوثب على ظهورهما.
قَوْله: ( وَقَالَ غَيره) ، أَي: قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ غير أبي معمر عَن عبد الْوَارِث: تنقلان الْقرب من النَّقْل، بِاللَّامِ دون الزَّاي، وَهِي رِوَايَة جَعْفَر بن مهْرَان عَن عبد الْوَارِث أخرجهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ.
قَوْله: ( ثمَّ تفرغانه) ، من الإفراغ، بالغين الْمُعْجَمَة، يُقَال: فرغ المَاء بِالْكَسْرِ يفرغ فراغاً مثل سمع سَمَاعا، أَي: صب، وأفرغته أَنا أَي: صببته.
فَإِن قلت: مَا وَجه قَوْله: أرى خدم سوقهما.
قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: الرُّؤْيَة للخدم لم يكن فِيهَا نهي، لِأَن يَوْم أحد كَانَ قبل أَمر النِّسَاء بالحجاب، أَو لِأَنَّهُ لم يقْصد النّظر إِلَى بعض السَّاق، فَهُوَ مَحْمُول على أَن تِلْكَ النظرة وَقعت فَجْأَة بِغَيْر قصد إِلَيْهَا، قيل: قد تمسك بِظَاهِرِهِ من يرى أَن تِلْكَ الْمَوَاضِع لَيست بِعَوْرَة من الْمَرْأَة وَلَيْسَ بِصَحِيح.

وفوائد: اخْتلف فِي الْمَرْأَة: هَل يُسهم لَهَا؟ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يُسهم للنِّسَاء، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْهم لَهُنَّ بِخَيْبَر، وَأخذ الْمُسلمُونَ بذلك وَبِه، قَالَ ابْن حبيب،.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ والكوفيون وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ: لَا يُسهم لَهُنَّ وَلَكِن يرْضخ لَهُنَّ محتجين بقول ابْن عَبَّاس فِي ( صَحِيح مُسلم) لنجدة: كن النِّسَاء يجدين من الْغَنِيمَة وَلم يضْرب لَهُم بِسَهْم.
وَذكر التِّرْمِذِيّ: أَن بعض أهل الْعلم، قَالَ: يُسهم للذِّمِّيّ، إِذا شهد الْقِتَال مَعَ الْمُسلمين، وروى عَن الزُّهْرِيّ أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْهم لقوم من الْيَهُود قَاتلُوا مَعَه، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق.
وَالْمَجْنُون المطبق لَا يُسهم لَهُ كَالصَّبِيِّ، وَقيل: يُسهم لَهُ، وَالظَّاهِر أَنه لَا يُسهم لَهُ كالمفلوج الْيَابِس.

وَاخْتلفُوا فِي الْأَعْمَى والمقعد، وأقطع الْيَدَيْنِ لاختلافهم، هَل يتَمَكَّن لَهُم نوع من أَنْوَاع الْقِتَال كإدارة الرَّأْي إِن كَانُوا من أَهله، وكقتال المقعد رَاكِبًا، وَالْأَعْمَى يناول النبل، وَنَحْو ذَلِك، ويكثرون السوَاد فَمن رأى لمثل ذَلِك أثرا فِي اسْتِحْقَاق الْغَنِيمَة أسْهم لَهُم.
وَأما الَّذِي يخرج وَبِه مرض فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّة فِيهِ خلاف: هَل يُسهم لَهُ أم لَا؟ فَإِن مرض بعد الإدراب فَفِيهِ خلاف، الْأَكْثَرُونَ يسهمون لَهُ، وَلم يَخْتَلِفُوا أَن من مرض بعد الْقِتَال يُسهم لَهُ، وَإِن كَانَ مَرضه بعد حوز الْغَنِيمَة.

وَاخْتلف فِي التَّاجِر والأجير على ثَلَاثَة أَقْوَال، قيل: يُسهم لَهما إِذا شَهدا الْقِتَال مَعَ النَّاس، قَاتلا أَو لم يقاتلا، وَقيل: لَا يُسهم لَهما مُطلقًا، وَقيل: إِن قَاتلا يُسهم لَهما وإلاَّ فَلَا، وَعَن مَالك: لَا يُسهم للْأَجِير والتاجر إلاَّ أَن يقاتلا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَعَن مَالك: يُسهم لكل حر قَاتل، وَهُوَ قَول أَحْمد،.

     وَقَالَ  الْحسن بن حَيّ: يُسهم للْأَجِير، وَرُوِيَ مثل ذَلِك عَن ابْن سِيرِين وَالْحسن فِي التَّاجِر والأجير: يُسهم لَهما إِذا حضرا الْقِتَال قَاتلا أَولا،.

     وَقَالَ  الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق: لَا يُسهم للْعَبد وَلَا للْأَجِير الْمُسْتَأْجر على خدمَة الْقَوْم.