فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل الخدمة في الغزو

( بابُُ فَضْلِ الخِدْمَةِ فِي الغَزْوِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل الْخدمَة للغازي فِي الْغُزَاة، سَوَاء كَانَت من صَغِير لكبير، أَو من كَبِير لصغير، أَو لمن يُسَاوِيه، وَفِي هَذَا الْبابُُ ثَلَاثَة أَحَادِيث كلهَا عَن أنس: فَفِي الأول: خدمَة الْكَبِير للصَّغِير، وَفِي الثَّانِي: خدمَة الصَّغِير للكبير، وَفِي الثَّالِث: تُوجد الْخدمَة لمن يُسَاوِيه، على مَا نذكرهُ.



[ قــ :2760 ... غــ :2888 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ يُونُسَ بنِ عُبَيْدٍ عنْ ثابِتٍ البُنانِيِّ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ صَحِبْتُ جَرِيرَ بنَ عَبْدِ الله فَكانَ يَخْدُمُنِي وهْوَ أكْبَرُ مِنْ أنَسٍ قَالَ جَرِيرٌ إنِّي رأيْتُ الأنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئاً لاَ أجِدُ أحَدَاً مِنْهُمْ إلاَّ أكْرَمْتُهُ.

قيل: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِي مَحَله، وَإِنَّمَا مَحَله المناقب، وَحَاصِله نفي الْمُطَابقَة.

قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن عرْعرة: حَدثنَا شُعْبَة عَن يُونُس بن عبيد عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن أنس بن مَالك، قَالَ: خرجت مَعَ جرير بن عبد الله فِي سفر وَكَانَ يخدمني، فَقلت لَهُ: لَا تفعل، إِنِّي رَأَيْت الْأَنْصَار تصنع برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا آلَيْت أَن لَا أصحب أحدا مِنْهُم إلاَّ خدمته، وَفِي آخِره: وَكَانَ جرير أكبر من أنس.
.

     وَقَالَ  ابْن بشار: أسن من أنس، انْتهى.
فَهَذَا يدل على أَن معنى قَوْله: ( صَحِبت جرير بن عبد الله) ، يَعْنِي: فِي السّفر.
وَهُوَ أَعم من أَن يكون سفر الْغَزْو أَو غَيره، فَبِهَذَا يَقع الحَدِيث فِي بابُُه، فتوجد الْمُطَابقَة.

قَوْله: ( وَهُوَ أكبر من أنس) فِيهِ الْتِفَات أَو تَجْرِيد، وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يَقُول: وَهُوَ أكبر مني قَوْله: ( يصنعون شَيْئا) ، أَي: من خدمَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يَنْبَغِي وَمن تعظيمهم إِيَّاه غَايَة مَا يكون.
قَوْله: ( مِنْهُم) ، أَي: من الْأَنْصَار.
وَقَوله فِي رِوَايَة مُسلم: آلَيْت، أَي: حَلَفت.

وَفِيه: فضل الْأَنْصَار وَفضل جرير وتواضعه ومحبته للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.





[ قــ :761 ... غــ :889 ]
- حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ عَمْرِو بنِ أبِي عَمْرٍ ومَوْلى المطَّلِبِ بنِ حَنْطَبٍ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ خَرَجْتُ مَعَ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خَيْبَرَ أخْدُمُهُ فلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاجِعَاً وبدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ هاذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ ثُمَّ أشارَ بِيَدِهِ إلَى المَدِينَةِ قَالَ ألَّلهُمَّ إنِّي احَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا كَتَحْرِيمِ إبْرَاهِيمَ مَكَّةَ أللَّهُمَّ بارِكْ لَنَا فِي صاعِنا ومُدِّنَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( خرجت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خَيْبَر أخدمه) .

وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير الْأنْصَارِيّ الْمَدِينِيّ وَعَمْرو بن أبي عَمْرو مولى الْمطلب بن حنْطَب، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي: بابُُ الْحِرْص على كِتَابَة الحَدِيث.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن القعْنبِي، وَفِي الْمَغَازِي عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الِاعْتِصَام عَن إِسْمَاعِيل بن أبي إويس.
وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن قُتَيْبَة وَيحيى بن أَيُّوب وَعلي بن حجر وَعَن قُتَيْبَة بن سعيد وَسَعِيد بن مَنْصُور كِلَاهُمَا عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن الْأنْصَارِيّ وَهُوَ إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن عِيسَى وَعَن قُتَيْبَة، كِلَاهُمَا عَن مَالك بِبَعْضِه طلع لَهُ أحد.

قَوْله: ( إِلَى خَيْبَر) ، أَي: إِلَى غَزْوَة خَيْبَر وَكَانَت سنة سِتّ، وَقيل: سنة سبع.
قَوْله: ( أخدمه) ، جملَة وَقعت حَالا.
قَوْله: ( رَاجعا) ، حَال من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( وبدا لَهُ) ، أَي ظهر لَهُ جبل أحد.
قَوْله: ( يحبنا) ، يُمكن حمله على الْحَقِيقَة بِأَن يخلق الله فِيهِ الْمحبَّة، وَالله على كل شَيْء قدير.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: الْحبّ والبغض لَا يجوزان على الْجَبَل نَفسه، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَة عَن أهل الْجَبَل وهم سكان الْمَدِينَة، يُرِيد بِهِ الثَّنَاء على الْأَنْصَار، والإخبار عَن حبهم لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحبه إيَّاهُم وَهُوَ نَحْو: { واسأل الْقرْيَة} ( يُوسُف: 8) .
قَوْله: ( لابتيها) ، أَي: لابتي الْمَدِينَة وَهِي تَثْنِيَة لابة بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْخَفِيفَة، وَهِي الْحرَّة وَالْمَدينَة بَين الحرتين، والحرة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، وَهِي الأَرْض ذَات الْحِجَارَة السود، وَيجمع على حر وحرار وحرات وحرين واحرين وَهُوَ من الجموع النادرة، واللاَّبة تجمع على لوب ولابات مَا بَين الثَّلَاث إِلَى الْعشْر فَإِذا كثرت جمعت على اللاَّب واللوب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْحَج فِي: بابُُ لابتي الْمَدِينَة.
قَوْله: ( كتحريم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) التَّشْبِيه فِي نفس الْحُرْمَة وَفِي وجوب الْجَزَاء وَنَحْوه.
قَوْله: ( أللهم بَارك لنا فِي صاعنا ومدنا) أَي: بَارك لنا فِي الطَّعَام الَّذِي يُكَال بالصيعان والأمداد ودعا لَهُم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْبركَةِ فِي أقواتهم، وَمر الْكَلَام فِيهِ أَيْضا فِي بابُُ مُجَرّد عَن التَّرْجَمَة فِي آخر كتاب الْحَج.

وَفِيه: جَوَاز خدمَة الصَّغِير للكبير لشرف فِي نَفسه أَو فِي قومه أَو لعلمه أَو لصلاحه، وَنَحْو ذَلِك.





[ قــ :76 ... غــ :890 ]
- حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ عنْ إسْمَاعِيلَ بنَ زَكَرِيَّاءَ قَالَ حَدثنَا عاصِمٌ عنْ مُورِّقٍ العِجْلِيِّ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكْثَرُنَا ظِلاًّ الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ وأمَّا الَّذِينَ صامُوا فلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئَاً وأمَّا الَّذِينَ أفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وامْتَهَنُوهَا وعالَجُوا فَقَالَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْم بالأجْرِ.

قيل: هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث الَّتِي أوردهَا فِي غير مظانها لكَونه لم يذكرهُ فِي الصّيام، وَاقْتصر على إِيرَاده هُنَا.
قلت: يُمكن أَن يُقَال: إِن لَهُ بعض مَظَنَّة هُنَا، وَهُوَ أَن قَوْله: ( فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا) عبارَة عَن الْخدمَة لِأَن معنى قَوْله: ( بعثوا الركاب) أَي: إِلَى المَاء للسقي، والركاب، بِالْكَسْرِ الْإِبِل الَّتِي يسَار عَلَيْهَا، وَمعنى قَوْله: ( وامتهنوا) أَي: خدموا، لِأَن الامتهان: الْخدمَة والابتذال، وَمعنى قَوْله: ( وعالجوا) أَي: تناولوا الطَّبْخ والسقي، وكل هَذَا عبارَة عَن الْخدمَة وَهِي أَعم من أَن يخدموا أنفسهم أَو يخدموا غَيرهم، أَو يخدموا أنفسهم وَغَيرهم، بل هم خدموا الصائمين لأَنهم سقطوا على مَا يَجِيء من رِوَايَة مُسلم، وَكَانَ ذَلِك فِي السّفر، لِأَن فِي رِوَايَة مُسلم عَن مُورق عَن أنس، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فِي السّفر ... الحَدِيث، فَحِينَئِذٍ يُطَابق الحَدِيث التَّرْجَمَة من هَذَا الْوَجْه، وَسليمَان بن دَاوُد أَبُو الرّبيع الْعَتكِي الزهْرَانِي الْبَصْرِيّ وَإِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّاء أَبُو زِيَاد الخلقاني الْكُوفِي وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول، ومورق بِكَسْر الرَّاء الْمُشَدّدَة وبالقاف: الْعجلِيّ وهما تابعيان فِي نسق،.

     وَقَالَ  بَعضهم: والإسناد كُله بصريون.
قلت: لَيْسَ كَذَلِك، وَإِسْمَاعِيل ومورق كوفيان.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن أبي كريب، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.

قَوْله: ( أكثرنا ظلاً من يستظل بكسائه) يُرِيد: لم يكن لَهُم أخبية، وَذَلِكَ لما كَانُوا عَلَيْهِ من الْقلَّة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فنزلنا منزلا فِي يَوْم حَار أكثرنا ظلاً صَاحب الكساء، فمنا من يَتَّقِي الشَّمْس بِيَدِهِ، وَأما الَّذين صَامُوا فَلم يعملوا شَيْئا، يَعْنِي: لعجزهم، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَسقط الصوامون.
قَوْله: ( وَأما الَّذين أفطروا) إِلَى قَوْله: ( وعالجوا) قد ذَكرْنَاهُ الْآن، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَقَامَ المفطرون فَضربُوا الْأَبْنِيَة وَسقوا الركاب.
قَوْله: ( ذهب المفطرون) بِالْأَجْرِ، أَي: بِالْأَجْرِ الْأَكْمَل الوافر، لِأَن نفع صَوْم الصائمين قَاصِر على أنفسهم وَلَيْسَ المُرَاد نقص أجرهم، بل المُرَاد أَن المفطرين حصل لَهُم أجر عَمَلهم وَمثل أجر الصوام لتعاطيهم اشغالهم واشغال الصوام.

قيل: فِيهِ: أَن أجر الْخدمَة فِي الْغَزْو أعظم من أجر الصّيام.
وَفِيه: أَن التعاون فِي الْجِهَاد وَفِي خدمَة الْمُجَاهدين فِي حل وارتحال وَاجِب على جَمِيع الْمُجَاهدين.
وَفِيه: جَوَاز خدمَة الرجل لمن يُسَاوِيه، لِأَن الْخدمَة أَعم كَمَا ذكرنَا.