فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الحرير في الحرب

( بابُُ الحَرِيرِ فِي الحَرَبِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان جَوَاز اسْتِعْمَال الْحَرِير فِي الْحَرْب، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَزعم بَعضهم أَنه بِالْجِيم وَفتح الرَّاء، وَلَيْسَ لذَلِك وَجه لِأَنَّهُ لَا يبْقى لَهُ مُنَاسبَة فِي أَبْوَاب الْجِهَاد.



[ قــ :2791 ... غــ :2919 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ المِقْدَامِ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ عنْ قَتَادَةَ أنَّ أنَساً حدَّثَهُمْ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوْفٍ والزُّبَيْرِ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ مِنْ حِكَّةٍ كانَتْ بِهِمَا..
قيل: لَيْسَ فِي الحَدِيث لفظ الجرب، فَلَا مُطَابقَة إلاَّ إِذا كَانَ قَوْله: فِي الجرب، بِالْجِيم، كَمَا زَعمه بَعضهم.
وَأجِيب: بِأَن ترخيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الرَّحْمَن وَالزُّبَيْر فِي قَمِيص من حَرِير كَانَ من حكة، وَكَانَ فِي الْغُزَاة، وَيشْهد لَهُ بذلك حَدِيث أنس الَّذِي يَأْتِي عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور، وَصرح فِيهِ بقوله: ورأيته عَلَيْهِمَا فِي غزَاة، وَلِهَذَا ترْجم التِّرْمِذِيّ أَيْضا: بابُُ مَا جَاءَ فِي لبس الْحَرِير فِي الْحَرْب، ثمَّ روى عَن أنس أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَالزُّبَيْر بن الْعَوام شكيا الْقمل فِي غزَاة لَهما فَرخص لَهما فِي قَمِيص الْحَرِير، قَالَ: ورأيته عَلَيْهِمَا.
قَالَ شَيخنَا زين الدّين: كَانَ التِّرْمِذِيّ رأى تَقْيِيد ذَلِك بِالْحَرْبِ، وَفهم ذَلِك من قَوْله: فِي غزَاة لَهما.
وَمِنْهُم من لَا يرى الترخيص بِوُجُود الحكة أَو الْقمل إِلَّا بِقَيْد ذَلِك فِي السّفر، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم فِي السّفر على مَا يَجِيء، وَقيل: التَّعْلِيل ظَاهر فِي ذكر الحكة وَالْقمل، وَأما كَونه فِي سفر أَو فِي غزَاة فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَرْجِيح كَون ذَلِك سَببا، وَإِنَّمَا ذكر فِيهِ الْمَكَان الَّذِي رخص لَهما فِيهِ، وَلَا يلْزم مِنْهُ كَون ذَلِك سَببا.
قلت: بل هُوَ سَبَب أَيْضا، لِأَن فِيهِ إرهاب الْعَدو كَمَا أُبِيح الْخُيَلَاء فِيهِ، فَيجوز أَن يكون كل وَاحِد من السّفر والغزو والحكة سَببا مُسْتقِلّا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْعَرَبِيّ: قد روى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرخص فِي كل وَاحِد مِنْهَا مُفردا، فإفرادها فِي رِوَايَة اقْتضى أَن يكون كل وَجه لَهُ حكم، وَجَمعهَا يُوجب أَن يكون ثَلَاث علل اجْتمعت فأثرت فِي الحكم على الِاجْتِمَاع كَمَا تَقْتَضِيه على الإنفراد.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن الْمِقْدَام أَبُو الْأَشْعَث الْعجلِيّ الْبَصْرِيّ.
الثَّانِي: خَالِد بن الْحَارِث بن سليم الهُجَيْمِي، بِضَم الْهَاء وَفتح الْجِيم، وَقد مر فِي اسْتِقْبَال الْقبْلَة.
الثَّالِث: سعيد بن أبي عرُوبَة، وَفِي بعض النّسخ: شُعْبَة، مَوضِع: سعيد.
الرَّابِع: قَتَادَة.
الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس: حَدثنَا أَبُو كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن سعيد بن أبي عرُوبَة حَدثنَا قَتَادَة أَن أنس بن مَالك أنبأهم: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رخص لعبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف وَالزُّبَيْر بن الْعَوام فِي قمص الْحَرِير فِي السّفر من حكة كَانَت بهما، أَو وجع كَانَ بهما، وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَرخص لَهما فِي قمص الْحَرِير فِي غزَاة لَهما.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي اللبَاس أَيْضا عَن النُّفَيْلِي وَلَفظه: رخص رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَالزُّبَيْر بن الْعَوام فِي قمص الْحَرِير من حكة كَانَت بهما.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث صَرِيح الدّلَالَة لمَذْهَب الشَّافِعِي وموافقيه أَنه يجوز لبس الْحَرِير للرجل إِذا كَانَت بِهِ حكة لما فِيهِ من الْبُرُودَة، وَكَذَلِكَ الْقمل، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
.

     وَقَالَ  مَالك: لَا يجوز، وَكَذَا يجوز لبسه عِنْد الضَّرُورَة كمن فاجأته الْحَرْب، وَلم يجد غَيره وَكَمن خَافَ من حر أَو برد،.

     وَقَالَ  الصَّحِيح: عِنْد أَصْحَابنَا أَنه يجوز لبسه للحكة وَنَحْوهَا فِي السّفر والحضر جَمِيعًا،.

     وَقَالَ  بعض أَصْحَابنَا، يخْتَص بِالسَّفرِ، وَهُوَ ضَعِيف حَكَاهُ الرَّافِعِيّ واستنكره،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: يدل الحَدِيث على جَوَاز لبسه للضَّرُورَة، وَبِه قَالَ بعض أَصْحَاب مَالك، وَأما مَالك فَمَنعه من الْوَجْهَيْنِ.
والْحَدِيث وَاضح الْحجَّة عَلَيْهِ إلاَّ أَن يَدعِي الخصوصية لَهما وَلَا يَصح، وَلَعَلَّ الحَدِيث لم يبلغهُ.

وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي لِبَاسه على عشرَة أَقْوَال: الأول: محرم بِكُل حَال.
الثَّانِي: يحرم إلاَّ فِي الْحَرْب.
الثَّالِث: يحرم إلاَّ فِي السّفر.
الرَّابِع: يحرم إلاَّ فِي الْمَرَض.
الْخَامِس: يحرم إلاَّ فِي الْغَزْو.
السَّادِس: يحرم إلاَّ فِي الْعلم.
السَّابِع: يحرم على الرِّجَال وَالنِّسَاء.
الثَّامِن: يحرم لبسه من فَوق دون لبسه من أَسْفَل وَهُوَ الْفرش، قَالَه أَبُو حنيفَة وَابْن الْمَاجشون.
التَّاسِع: يُبَاح بِكُل حَال.
الْعَاشِر: محرم، وَإِن خلط مَعَ غَيره كالخز.

وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف النَّاس فِي لِبَاسه فأجازته طَائِفَة وكرهته أُخْرَى: فَمِمَّنْ كرهه: عمر بن الْخطاب وَابْن سِيرِين وَعِكْرِمَة وَابْن محيريز، وَقَالُوا: الْكَرَاهَة فِي الْحَرْب أَشد لما يرجون من الشَّهَادَة، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة.
وَمِمَّنْ أجَازه فِي الْحَرْب أنس، روى معمر عَن ثَابت قَالَ: رَأَيْت أنس بن مَالك لبس الديباج فِي فزعة فزعها النَّاس،.

     وَقَالَ  أَبُو فرقد: رَأَيْت على تجافيف أبي مُوسَى الديباح وَالْحَرِير،.

     وَقَالَ  عَطاء: الديباج فِي الْحَرْب سلَاح، وَأَجَازَهُ مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَعُرْوَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَذكر ابْن حبيب عَن ابْن الْمَاجشون: أَنه اسْتحبَّ الْحَرِير فِي الْجِهَاد وَالصَّلَاة بِهِ حِينَئِذٍ للترهيب على الْعَدو والمباهاة.





[ قــ :79 ... غــ :90 ]
- حدَّثنا أبُو الْوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ ح وحدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ عَوْفٍ والزُّبَيْرَ شَكَوَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي القَمْلَ فأرْخَصَ لَهُمَا فِي الحَرِيرِ فرأيْتُهُ علَيْهِمَا فِي غَزَاةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فِي غزَاة) وَهِي للحرب، وَهَذَانِ طَرِيقَانِ آخرَانِ فِي حَدِيث أنس.
الأول: عَن أبي الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ عَن همام ابْن يحيى عَن قَتَادَة.
وَالثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن سِنَان أبي بكر الْعَوْفِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَعْمَى، وَهُوَ من أَفْرَاده.

قَوْله: ( شكوا) ، كَذَا هُوَ بِالْوَاو وَهُوَ لُغَة يُقَال: شَكَوْت وشكيت بِالْوَاو وَالْيَاء: وَادّعى ابْن التِّين أَنه وَقع شكياً، ثمَّ قَالَ: وَصَوَابه شكوا، لِأَن لَام الْفِعْل مِنْهُ: وَاو، فَهُوَ مثل: { دعوا الله ربهما} ( الْأَعْرَاف: 981) .
قلت: ذكر الْجُورِي: شكيا، أَيْضا، قَوْله: ( يَعْنِي الْقمل) يَعْنِي: كَانَت شكواهما من الْقمل.
فَإِن قلت: كَانَ السَّبَب فِي الحَدِيث الْمَاضِي الحكة، حَيْثُ قَالَ: من حكة كَانَت بهما، وَهنا السَّبَب: الْقمل؟ قلت: رجح ابْن التِّين رِوَايَة الحكة،.

     وَقَالَ : لَعَلَّ أحد الروَاة تَأَوَّلَه فَأَخْطَأَ، ووفق الدَّاودِيّ بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِاحْتِمَال أَن يكون إِحْدَى العلتين بِأحد الرجلَيْن،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: لَا مُنَافَاة بَينهمَا وَلَا منع لجمعهما،.

     وَقَالَ  بَعضهم: يُمكن الْجمع بِأَن الحكة حصلت من الْقمل فنسبت الْعلَّة تَارَة إِلَى السَّبَب، وَتارَة إِلَى سَبَب السَّبَب.
قلت: عِلّة كل مِنْهُمَا سَبَب مُسْتَقل فَلَا تعلق لأحديهما بِالْآخرِ، وَالْحكم يثبت بسببين وَأكْثر، فَالْأَحْسَن مَا قَالَه الْكرْمَانِي.
قَوْله: ( فرأيه) ، الرَّائِي هُوَ أنس.



[ قــ :793 ... غــ :91 ]
- حدَّثنا مسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ قَالَ أخبرَنِي قَتادَةُ أنَّ أنَساً حدَّثَهُمْ قَالَ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوْفٍ والزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ فِي حَرِيرٍ..
هَذَا طَرِيق آخر عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره.
قَوْله: ( فِي حَرِير) أَي: فِي لبس حَرِير، وَلم يذكر فِيهِ الْعلَّة وَالسَّبَب وَهِي مَحْمُولَة على الرِّوَايَة الَّتِي بَين فِيهَا السَّبَب الْمُقْتَضِي للترخيص.





[ قــ :793 ... غــ :9 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَر قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتادَةَ عنْ أنَسٍ قَالَ وخَصَّ أوْ رُخِّصَ لِحَكَّةٍ بِهِمَا..
هَذَا طَرِيق آخر خَامِس فِي حَدِيث أنس عَن مُحَمَّد بن بشار بِالْبَاء الْمُوَحدَة عَن غنْدر، بِضَم الْغَيْن وَسُكُون النُّون، وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج.
قَوْله: ( رخص) على صِيغَة الْمَعْلُوم أَي: رخص رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( أَو رخص) ، على صِيغَة الْمَجْهُول شكّ من الرَّاوِي.
قَوْله: ( لحكه) ، أَي: لأجل حكة.
قَوْله: ( بهما) أَي: بِعَبْد الرَّحْمَن ابْن عَوْف، وَالزُّبَيْر بن الْعَوام.