فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب التوديع

( بابُُ التَّوْدِيعِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة التوديع عِنْد السّفر، وَلَفظه بتناول توديع الْمُسَافِر للمقيم ويتناول أَيْضا عَكسه، وَحَدِيث الْبابُُ يشْهد للْأولِ وَيُؤْخَذ الثَّانِي مِنْهُ بطرِيق الأولى، بل هُوَ الْغَالِب فِي الْوُقُوع.



[ قــ :2823 ... غــ :2954 ]
- وقالَ ابنُ وَهْبٍ أخْبَرَنِي عَمْرٌ وعنْ بُكَيْرٍ عنْ سُلَيُمَانَ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ قالَ بَعَثَنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَعْثٍ.

     وَقَالَ  لَنا إنْ لَقِيتُمْ فُلاناً وفُلاناً لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُما فَحَرِّقُوهُما بالنَّارِ قَالَ ثُمَّ أتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أرَدْنَا الخُرُوجَ فَقَالَ إنِّي كُنْتُ أمَرْتُكُمْ أَن تُحَرِّقُوا فُلاناً وفُلاناً بالنَّارِ وإنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِها إِلَّا الله فإنْ أخَذْتُمُوهُما فاقْتُلُوهُما.

( الحَدِيث 4592 طرفه فِي: 6103) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ثمَّ أتيناه نودعه) وَهُوَ توديع الْمُسَافِر للمقيم فِي ظَاهر الحَدِيث، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ الْآن، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: هُوَ ابْن الْحَارِث الْمصْرِيّ، وَبُكَيْر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: تَصْغِير بكر بن عبد الله بن الْأَشَج، وَسليمَان بن يسَار ضد الْيَمين.

وَهَذَا الحَدِيث أخرجه هُنَا مُعَلّقا، وَأخرجه أَيْضا فِي كتاب الْجِهَاد بعد عدَّة أَبْوَاب مُسْندًا، وَترْجم بقوله: بابُُ لَا يعذب بِعَذَاب الله، ثمَّ قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا اللَّيْث عَن بكير عَن سُلَيْمَان عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَزَاد أَبُو دَاوُد وَيزِيد بن خَالِد عَن اللَّيْث.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن الْحَارِث بن مِسْكين وَيُونُس بن عبد الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث وَزَاد النَّسَائِيّ وَذكر آخر، كِلَاهُمَا عَن بكير.

قَوْله: ( عَن بكير عَن سُلَيْمَان) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث هَاشم بن الْقَاسِم عَن اللَّيْث حَدثنِي بكير بن عبد الله بن الْأَشَج، وأوضح بنسبته وبالتحديث.
قَوْله: ( عَن أبي هُرَيْرَة) كَذَا وَقع فِي جَمِيع الطّرق عَن اللَّيْث لَيْسَ لين سُلَيْمَان بن يسَار وَأبي هُرَيْرَة أحد، وَكَذَا وَقع عِنْد النَّسَائِيّ وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي السِّيرَة وَأدْخل بَين سُلَيْمَان وَأبي هُرَيْرَة رجلا وَهُوَ أَبُو إِسْحَاق الدوسي، وَأخرجه الدَّارمِيّ وَابْن السكن وَابْن حبَان فِي ( صَحِيحه) من طَرِيق ابْن إِسْحَاق،.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وَقد ذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بَين سُلَيْمَان بن يسَار وَبَين أبي هُرَيْرَة رجلا فِي هَذَا الحَدِيث، وروى غير وَاحِد مثل رِوَايَة اللَّيْث وَحَدِيث اللَّيْث بن سعد أشبه وَأَصَح.
انْتهى.
وَسليمَان بن يسَار صَحَّ سَمَاعه من أبي هُرَيْرَة، وَهَذَا الرجل ذكره أَبُو أَحْمد الْحَاكِم فِي ( الكنى) فِيمَن تكنى بِأبي إِسْحَاق وَلم يقف لَهُ على إسم، وَلم يذكر لَهُ رَاوِيا غير سُلَيْمَان بن يسَار،.

     وَقَالَ : حَدِيثه فِي أهل الْحجاز، وَذكره صَاحب ( الْمِيزَان) فِي الكنى،.

     وَقَالَ : أَبُو إِسْحَاق الدوسي عَن أبي هُرَيْرَة مَجْهُول، وَسَماهُ ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) إِبْرَاهِيم فِي رِوَايَته هَذَا الحَدِيث: عَن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان عَن أبي إِسْحَاق بن يزِيد بن حبيب عَن بكير بن عبد الله بن الْأَشَج، فَذكره.
قَوْله: ( فِي بعث) ، أَي: فِي جَيش، وَكَانَ أَمِير هَذَا الْبَعْث حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أمره على سَرِيَّة، قَالَ: فَخرجت فِيهَا،.

     وَقَالَ : إِن وجدْتُم فلَانا فاحرقوه بالنَّار، فوليت فناداني فَرَجَعت إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِن وجدْتُم فلَانا فَاقْتُلُوهُ وَلَا تحرقُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يعذب بالنَّار إلاَّ رب النَّار.
وَهَذَا كَمَا رَأَيْت ذكر فلَانا بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَغَيره: فلَانا وَفُلَانًا وهما: هَبَّار بن الْأسود وَالرجل الَّذِي سبق مِنْهُ إِلَى زَيْنَب بنت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا سبق وَكَانَ زَوجهَا أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع لما أسره الصَّحَابَة ثمَّ أطلقهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْمَدِينَة شَرط عَلَيْهِ أَن يُجهز إِلَيْهِ ابْنَته زَيْنَب فجهزها، فتبعها هَبَّار بن الْأسود ورفيقه فنخسا بَعِيرهَا فَأسْقطت ومرضت من ذَلِك، وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح: أَن هَبَّار بن الْأسود أصَاب زَيْنَب بنت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء وَهِي فِي خدرها، فَأسْقطت، فَبعث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَرِيَّة فَقَالَ: إِن وجدتموه فَاجْعَلُوهُ بَين حزمتي حطب ثمَّ أشعلوا فِيهِ النَّار.
ثمَّ قَالَ: إِنِّي لأستحيى من الله، لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يعذب بِعَذَاب الله، فَكَانَ إِفْرَاد هَبَّار هُنَا بِالذكر لكَونه كَانَ الأَصْل فِي ذَلِك، وَالْآخر كَانَ تبعا لَهُ، وَسَماهُ ابْن السكن فِي رِوَايَته من طَرِيق إِبْنِ إِسْحَاق: نَافِع بن عبد قيس، وَكَذَا نَص عَلَيْهِ ابْن هِشَام فِي سيرته، وَحكى السُّهيْلي عَن ( مُسْند الْبَزَّار) أَنه: خَالِد بن عبد قيس، قيل: لَعَلَّه تصحف عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَافِع، كَذَلِك هُوَ فِي النّسخ الْمُعْتَمدَة من مُسْند الْبَزَّار، وَكَذَلِكَ أوردهُ ابْن بشكوال من ( مُسْند الْبَزَّار) وَأخرجه مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي شيبَة فِي تَارِيخه من طَرِيق ابْن لَهِيعَة كَذَلِك، وَأما هَبَّار، فَهُوَ بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: ابْن الْأسود بن الْمطلب بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي الْقرشِي الْأَسدي، قَالَ أَبُو عمر: ثمَّ أسلم هَبَّار بعد الْفَتْح وَحسن إِسْلَامه وَصَحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر الزبير أَنه لما أسلم وَقدم مُهَاجرا جعلُوا يَسُبُّونَهُ، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: سبّ من سبك فَانْتَهوا عَنهُ.
قَوْله: ( وَإِن النَّار لَا يعذِّب بهَا إلاَّ الله) هُوَ خبر بِمَعْنى النَّهْي، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن لَهِيعَة: وَإنَّهُ لَا يَنْبَغِي، وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق: ثمَّ رَأَيْت أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يعذب بالنَّار إلاَّ الله،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: لَيْسَ نَهْيه عَن التحريق بالنَّار على معنى التَّحْرِيم، وَإِنَّمَا هُوَ على سَبِيل التَّوَاضُع لله تَعَالَى، وَالدَّلِيل على أَنه لَيْسَ بِحرَام سمل أعين الرُّعَاة بالنَّار فِي مصلى الْمَدِينَة بِحَضْرَة الصَّحَابَة، وتحريق الْخَوَارِج بالنَّار، وَأكْثر عُلَمَاء الْمَدِينَة يجيزون تحريق الْحُصُون على أَهلهَا بالنَّار، وَقَول أَكْثَرهم بتحريق المراكب، وروى ابْن شاهين من حَدِيث صَالح بن حبَان عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث رجلا إِلَى رجل كذب عَلَيْهِ ...

.
وَفِي امْرَأَة وَاقعهَا فَقَالَ: إِن وجدته حَيا فاقتله، وَإِن وجدته مَيتا فحرقه بالنَّار، فَوَجَدَهُ لدغ فَمَاتَ فحرقه.
وَفِي الحَدِيث أَن نَبيا من الْأَنْبِيَاء، صلوَات الله عَلَيْهِم، قرصته نملة، فَأمر بقرية النَّمْل فأحرقت، فَقَالَ الله لَهُ: هلاَّ نملة وَاحِدَة؟ قَالَ الْحَكِيم فِي ( نَوَادِر الْأُصُول) : وَهُوَ إِذن فِي إحراقها، لِأَنَّهُ إِذا جَازَ إحراق وَاحِدَة جَازَ فِي غَيرهَا، وَقَالُوا: لَا حجَّة فِيمَا ذكر للْجُوَاز، لِأَن قصَّة العرنيين كَانَت قصاصا أَو مَنْسُوخَة، وتجويز الصَّحَابِيّ معَارض بِمَنْع صَحَابِيّ آخر، وقصة الْحُصُون والمراكب مُقَيّدَة بِالضَّرُورَةِ إِلَى ذَلِك إِذا تعين طَرِيقا للظفر بالعدو، وَمِنْهُم من قَيده بِأَن لَا يكون مَعَهم نسَاء وَلَا صبيان، وَقيل: حَدِيث الْبابُُ يرد هَذَا كُله، لِأَن ظَاهر النَّهْي فِيهِ التَّحْرِيم، وَهُوَ نسخ لأَمره الْمُتَقَدّم، سَوَاء كَانَ ذَلِك بِوَحْي أَو بِاجْتِهَاد مِنْهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.

     وَقَالَ  ابْن الْعَرَبِيّ فِي هَذَا نسخ الحكم قبل الْعَمَل بِهِ.
وَمنع مِنْهُ المبتدعة والقدرية،.

     وَقَالَ  الْحَازِمِي: ذهبت طَائِفَة إِلَى منع الإحراق فِي الْحُدُود، قَالُوا: يقتل بِالسَّيْفِ، وَإِلَيْهِ ذهب أهل الْكُوفَة النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَمن الْحِجَازِيِّينَ: عَطاء، وَذَهَبت طَائِفَة فِي حق الْمُرْتَد إِلَى مَذْهَب عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: من حرق يحرق، وَبِه قَالَ مَالك وَأهل الْمَدِينَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأحمد وَإِسْحَاق.

وَفِي الحَدِيث: جَوَاز الحكم احتهاداً، ثمَّ الرُّجُوع عَنهُ، واستحبابُ ذكر الدَّلِيل عِنْد الحكم لرفع الإلباس.
وَفِيه: نسخ السّنة بِالسنةِ وَهُوَ بالِاتِّفَاقِ.
وَفِيه: جَوَاز نسخ الحكم قبل الْعلم بِهِ، أَو قبل التَّمَكُّن من الْعَمَل بِهِ، وَفِي الْأَخير خلاف علم فِي مَوْضِعه.
وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة توديع الْمُسَافِر لأكابر أهل بَلَده وتوديع أَصْحَابه لَهُ أَيْضا.