فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب السير وحده

( بابُُ سَيْرِ الرَّجُلِ وحْدَهُ بِاللَّيْلِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم سير الرجل بِاللَّيْلِ وَحده أَي: حَال كَونه وَحده من غير رَفِيق مَعَه، هَل يكره ذَلِك أم لَا؟ وَالْجَوَاب، يعلم من حَدِيثي الْبابُُ، فَالْحَدِيث الأول: يدل على عدم الْكَرَاهَة، وَالثَّانِي: يدل على الْكَرَاهَة، فَلذَلِك أبهم البُخَارِيّ التَّرْجَمَة، وَفِي نفس الْأَمر يرجع مَا فيهمَا إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ مَا قَالَ الْمُهلب: نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْوحدَة فِي سير اللَّيْل إِنَّمَا هُوَ إشفاق على الْوَاحِد من الشَّيَاطِين، لِأَنَّهُ وَقت انتشارهم، وَإِذا هم بالتمثل لَهُم وَمَا يفزعهم وَيدخل فِي قُلُوبهم الوساوس، وَلذَلِك أَمر النَّاس أَن يحبسوا صبيانهم عِنْد فَحْمَة اللَّيْل، وَمَعَ هَذَا إِن الْوحدَة لَيست بمحرمة، وَإِنَّمَا هِيَ مَكْرُوهَة، فَمن أَخذ بالأفضل من الصُّحْبَة فَهُوَ أولى، وَمن أَخذ بالوحدة فَلم يَأْتِ حَرَامًا.



[ قــ :2864 ... غــ :2997 ]
- حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الْمُنْكَدِرِ قالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقولُ ندَبَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاسَ يَوْمَ الخَنْدَقِ فانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمْ فانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ ندَبَهُمْ فانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّاً وحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ انتداب الزبير وتوجهه وَحده، وَسَيَأْتِي فِي مناقبه من طَرِيق عبد الله بن الزبير مَا يدل على ذَلِك، وَيرد بِهَذَا اعْتِرَاض الْإِسْمَاعِيلِيّ بقوله: لَا أعلم هَذَا الحَدِيث كَيفَ يدْخل فِي هَذَا الْبابُُ، وَقد رَأَيْت كَيْفيَّة دُخُوله فِيهِ، وَيرد أَيْضا مَا قَالَه بَعضهم بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون الزبير انتدب أَن لَا يكون سَار مَعَه غَيره مُتَابعًا.
قلت: وَلَا يلْزم أَيْضا كَونه تَابع مَعَه وترجح جَانب النَّفْي بِمَا ذكرنَا.

والْحميدِي: هُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى، وَقد تكَرر ذكره، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.

والْحَدِيث مر فِي كتاب الْجِهَاد قبل هَذَا بعدة أَبْوَاب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ فِي بابَُُيْنِ: أَحدهمَا: فِي بابُُ فضل الطليعة عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر، وَالْآخر فِي: بابُُ هَل يبْعَث الطليعة وَحده، عَن صَدَقَة عَن ابْن عُيَيْنَة إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قالَ سُفْيَانُ الحَوَارِيُّ النَّاصِرُ

سُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة أحد رَوَاهُ الحَدِيث،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هُوَ مَوْصُول عَن الْحميدِي عَنهُ، وَفِيه نظر لَا يخفى.





[ قــ :865 ... غــ :998 ]
- حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قالَ حدَّثنا عاصِمُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثني أبِي عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحدثنَا أَبُو نعيم قَالَ حَدثنَا عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الوَحْدَةِ مَا أعْلَمُ مَا سارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِطْلَاقهَا لِأَنَّهَا مُبْهمَة كَمَا ذكرنَا آنِفا، وَأخرجه من طَرِيقين.
الأول: عَن أبي الْوَلِيد هِشَام ابْن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ عَن عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، يروي عَن أَبِيه مُحَمَّد بن زيد وَمُحَمّد يروي عَن جده عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالثَّانِي: عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن عَاصِم ... إِلَى آخِره،.

     وَقَالَ  الْحَافِظ الْمزي فِي ( الْأَطْرَاف) قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد عَن عَاصِم بن مُحَمَّد بِهِ،.

     وَقَالَ  بعده: وَأَبُو نعيم عَن عَاصِم، وَلم يقل: حَدثنَا أَبُو نعيم، وَلَا فِي كتاب حَمَّاد بن شَاكر: حَدثنَا أَبُو نعيم.
وَأجِيب: عَن ذَلِك بِأَن الَّذِي وَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات عَن الْفربرِي عَن البُخَارِيّ حَدثنَا أَبُو نعيم، وَكَذَلِكَ وَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ عَن البُخَارِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد، فساق الْإِسْنَاد ثمَّ قَالَ: وَحدثنَا أَبُو الْوَلِيد وَأَبُو نعيم، قَالَا: حَدثنَا عَاصِم فَذكره وَبِذَلِك جزم أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي ( الْمُسْتَخْرج) فَقَالَ، بعد أَن أخرجه من طَرِيق عَمْرو بن مَرْزُوق عَن عَاصِم بن مُحَمَّد: أخرجه البُخَارِيّ عَن أبي نعيم وَأبي الْوَلِيد.
فَإِن قلت: ذكر التِّرْمِذِيّ أَن عَاصِم بن مُحَمَّد تفرد بِرِوَايَة هَذَا الحَدِيث؟ قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن أَخَاهُ عَمْرو بن مُحَمَّد قد رَوَاهُ مَعَه عَن أَبِيه أخرجه النَّسَائِيّ.

قَوْله: ( مَا فِي الْوحدَة) ، قَالَ ابْن التِّين: الْوحدَة، ضبطت بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا، وَأنكر بعض أهل اللُّغَة الْكسر،.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: وَحدك، مَنْصُوب بِكُل حَال عِنْد أهل الْكُوفَة على الظّرْف، وَعند الْبَصرِيين على الْمصدر، أَي: توَحد وَحده.
قَالَ: وكسرته الْعَرَب فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: عيير وَحده، وجحيش، وَحده ونسيج وَحده، وَعَن أبي عَليّ: رجيل وَحده، ووحد، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، ووحد ووحيد ومتوحد، وللأنثى وحدة ووحدة وحد بِكَسْر الْحَاء وَضمّهَا وحادة ووحدة ووحداً وتوحد كُله بَقِي وَحده، وَعَن كرَاع: الوحد الَّذِي ينزل وَحده.
قَوْله: ( مَا أعلم) أَي: الَّذِي أعلم، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا مفعول: لَو يعلم.
قَوْله: ( رَاكب) هَذَا من قبيل الْغَالِب وإلاَّ فالراجل أَيْضا كَذَلِك؟ فَإِن قلت: ذكر فِي الْبابُُ حديثين: أَحدهمَا: فِي الْجَوَاز.
وَالثَّانِي: فِي الْمَنْع.
قلت: تُؤْخَذ الْجَواب عَنهُ مِمَّا ذكرنَا فِي أول الْبابُُ، وَأَيْضًا أَن للسير فِي اللَّيْل حالتين: إِحْدَاهمَا: الْحَاجة إِلَيْهِ مَعَ غَلَبَة السَّلامَة، كَمَا فِي حَدِيث الزبير.
وَالْأُخْرَى: حَالَة الْخَوْف، فحذر عَنْهَا الشَّارِع، وَأَيْضًا إِذا اقْتَضَت الْمصلحَة الِانْفِرَاد كإرسال الجاسوس والطليعة، فَلَا كَرَاهَة وإلاَّ فالكراهة، وَالله أعلم.