فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق

( بابٌُ إذَا حَرَّقَ المُشْرِكُ المُسْلِمَ هَلْ يُحَرِّقُ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا أحرق الْمُشرك الرجل الْمُسلم، هَل يحرق هَذَا الْمُشرك جَزَاء بِفِعْلِهِ؟ وأحرق يحرق من بابُُ الْأَفْعَال، وَفِي بعض النّسخ: إِذا حرق، بتَشْديد الرَّاء، من التحريق، وَكَذَلِكَ: يحرق، بِالتَّشْدِيدِ قيل: كَانَ اللَّائِق أَن يذكر هَذِه التَّرْجَمَة قبل بابَُُيْنِ، فَلَعَلَّ تَأْخِيرهَا من تصرف النقلَة.
قلت: ذكر هَذِه التَّرْجَمَة فِي ذَلِك الْموضع لَيْسَ بِأَمْر مُهِمّ فَلَا يحْتَاج نسبه ذَلِك إِلَى تصرف النقلَة، ثمَّ قَالَ قَائِل هَذَا القَوْل: وَيُؤَيّد ذَلِك أَنَّهُمَا أَي: أَن الْبابَُُيْنِ الْمَذْكُورين قبل هَذَا الْبابُُ سقطا جَمِيعًا للنسفي، وَثبتت عِنْده تَرْجَمَة: إِذا أحرق الْمُشرك، تلو تَرْجَمَة: لَا يعذب بِعَذَاب الله.
قلت: لَا يلْزم من سُقُوط هذَيْن الْبابَُُيْنِ عِنْده تأييد مَا ذكره، لِأَن السَّاقِط مَعْدُوم والمعدوم لَا يُؤَيّد وَلَا يُؤَكد.



[ قــ :2884 ... غــ :3018 ]
- حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ أيُّوبَ عنْ أبِي قِلابَةَ عنْ أنَس بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رهْطاً مِنْ عُكْلٍ ثَمانِيَةً قَدِمُوا علَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاجْتَوَوُا المَدِينَةَ فَقَالُوا يَا رسولَ الله ابْغِنا رِسْلاً قَالَ مَا أجِدُ لَكُمْ إلاَّ أنْ تَلْحَقُوا بالذَّوْدِ فانْطَلَقُوا فشَرِبُوا مِنْ أبْوَالِهَا وألْبَانِها حتَّى صَحُّوا وسَمِنُوا وقتَلُوا الرَّاعِيَ واسْتَاقُوا الذَّوْدَ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ فأتَى الصَّرِيخُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبَعَثَ الطَّلَبَ فَما تَرَجَّلَ النَّهَارُ حتَّى أُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أيْدِيَهُمْ وأرْجُلَهُمْ ثُمَّ أمَرَ بِمَسامِيرَ فأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِها وطَرَحَهُمْ بالحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَما يُسْقَوْنَ حتَّى ماتُوا.
قَالَ أَبُو قِلابَة قَتَلُوا وسَرَقُو وحارَبُوا الله ورَسُولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسَعَوْا فِي الأرْضِ فَسادَاً..
قيل: لَيْسَ فِيهِ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَن هَذَا الرَّهْط من عكل فعلوا ذَلِك براعي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأجَاب الْكرْمَانِي: بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعل بهم مثل مَا فعلوا بالراعي من سمل الْعين وَنَحْوه، ويؤول: لَا تعذبوا بِعَذَاب الله، بِمَا إِذا لم يكن فِي مُقَابلَة فعل الْجَانِي، فالحديثان لموْضِع النَّهْي وَالْجَزَاء.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : وَقد يخرج معنى التَّرْجَمَة من هَذَا الحَدِيث بِالدَّلِيلِ، وَلَو لم يَصح سمل العرنيين للرعاء، وَذَلِكَ أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما سمل أَعينهم، والسمل التحريق بالنَّار، وَاسْتدلَّ مِنْهُ البُخَارِيّ أَنه لما جَازَ تحريق أَعينهم بالنَّار، وَلَو كَانُوا لم يحرقوا أعين الرعاء، أَنه أولى بِالْجَوَازِ فِي تحريق الْمُشرك إِذا أحرق الْمُسلم.
قلت: الْأَوْجه مَا قَالَه الْكرْمَانِي: بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعل بهم مثل مَا فعلوا بالراعي من سمل الْعين، وَقد ثَبت ذَلِك فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من وَجه آخر عَن أنس، قَالَ: إِنَّمَا سمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعين العرنيين لأَنهم سملوا أعين الرعاء، وَلَو اطلع صَاحب ( التَّوْضِيح) : على هَذَا لما قَالَ: لم يَصح سمل العرنيين للرعاء.

قَوْله: ( مُعلى) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: ابْن أَسد، كَذَا ثَبت مَنْسُوبا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَغَيره، ووهيب بِضَم الْوَاو وَفتح الْهَاء: هُوَ ابْن خَالِد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد الْجرْمِي.

والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْوضُوء فِي: بابُُ أَبْوَال الْإِبِل وَالدَّوَاب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: ( عكل) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْكَاف: قَبيلَة مَعْرُوفَة.
قَوْله: ( ثَمَانِيَة) ، بِالنّصب، بدل من رهطاً، أَو بَيَان لَهُ.
قَوْله: ( فاجتووا) من الاجتواء، وَهُوَ كَرَاهَة الْإِقَامَة.
قَوْله: ( ابغنا) أَي: أعنا، مُشْتَقّ من الإبغاء يُقَال: أبغيتك الشَّيْء إِذا أعنتك على طلبه.
قَوْله: ( رسلًا) ، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: وَهُوَ الدّرّ من اللَّبن.
قَوْله: ( بالذود) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: وَهُوَ من الْإِبِل مَا بَين الثَّلَاث إِلَى الْعشْرَة، قَوْله: ( الصَّرِيخ) هُوَ صَوت المستغيث أَو الصَّارِخ.
قَوْله: ( فَبعث الطّلب) بِفَتْح اللَّام جمع طَالب.
.
قَوْله: ( فَمَا ترجل النَّهَار) ، أَي: مَا ارْتَفع النَّهَار.
( حَتَّى أُتِي بهم) ، أَي: بالثمانية الْمَذْكُورين.
قَوْله: ( فأحميت) ، كَذَا وَقع من الإحماء مزِيد الثلاثي وَهُوَ الصَّوَاب فِي اللُّغَة، فَلَا يُقَال: فحميت من الثلاثي.
قَوْله: ( بِالْحرَّةِ) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء مَوضِع بِالْمَدِينَةِ، وَقد مر غير مرّة.
قَوْله: ( قَالَ أَبُو قلَابَة) ، هُوَ الرَّاوِي الْمَذْكُور.
قَوْله: ( سرقوا) ، لم يكن هَذَا سَرقَة إِنَّمَا كَانَ حرابة، وَهَذَا ظَاهر لَا يخفى.



( بابُُ)

كَذَا وَقع بِغَيْر تَرْجَمَة، وَهُوَ كالفصل من الْبابُُ الَّذِي قبله، وَقد مر نَحْو هَذَا كثيرا، وَهُوَ غير مُعرب لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بالتركيب.

[ قــ :885 ... غــ :3019 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَعيدِ ابنِ المُسَيَّبِ وَأبي سلَمَةَ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ قرَصَتْ نَمْلَةٌ نِبِيَّاً مِنَ الأنْبِيَاءِ فأمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فأحْرِقَتْ فأوْحَى الله إلَيْهِ أنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أحْرَقَتْ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ الله.

( الحَدِيث 9103 طرفه فِي: 9133) .

وَجه مناسبته بِمَا قبله من حَيْثُ إِنَّه لَا يجوز الْمُجَاوزَة بالتحريق إِلَى من لَا يسْتَحق ذَلِك، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر فِيهِ أَن الله، عز وَجل، عَاتب هَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإحراقه تِلْكَ الْأمة من النَّمْل، وَلم يكتف بإحراق النملة الَّتِي قرصته، فَلَو أحرقها وَحدهَا لما عوتب عَلَيْهِ.

وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن أَحْمد بن صَالح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد عَن وهب بن بَيَان.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر وَأحمد بن عِيسَى وَعَن مُحَمَّد بن يحيى.

قَوْله: ( قرصت) بِالْقَافِ أَي: لدغت.
قَوْله: ( نَبيا) قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: ذَلِك النَّبِي كَانَ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: ( بقرية النَّمْل) ، الْقرْيَة: الْمُجْتَمع.
قَوْله: ( أَن قرصتك؟) بِفَتْح الْهمزَة وبهمزة الِاسْتِفْهَام ملفوظة أَو مقدرَة،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: كَيفَ جَازَ إحراق النَّمْل قصاصا وَهُوَ لَيْسَ بمكلف، ثمَّ إِن جَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا، ثمَّ إِن القارص نملة وَاحِدَة، وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى.
قلت: لَعَلَّه كَانَ فِي شَرعه جَائِزا، وَيُقَال: المؤذي طبعا يقتل شرعا قِيَاسا على الأفعى.
فَإِن قلت: لَو كَانَ جَائِزا لما ذمّ عَلَيْهِ.
قلت: يحْتَمل أَن يذل على ترك الأولى وحسنات الْأَبْرَار سيئات المقربين.
انْتهى.
قلت: قَوْله: لَعَلَّه كَانَ فِي شَرعه جَائِزا، فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ حكم بالتخمين، وَالْأولَى أَن يُقَال: لَعَلَّه لم يكن يعلم حِينَئِذٍ أَنه لَا يجوز، وَقَوله: المؤذي طبعا، لَيْسَ النَّمْل بمؤذ طبعا، لِأَن قرصها يحْتَمل أَنه كَانَ على سَبِيل الِاتِّفَاق.
وَقَوله: يحْتَمل أَن يذم على ترك الأولي، لَا يُقَال فِي حق نَبِي أَن الله ذمه على فعل بل يُقَال: عاتبه.

وَفِي الحَدِيث: تَسْبِيح النَّمْل فَيدل ذَلِك على أَن جَمِيع الْحَيَوَانَات تسبح الله تَعَالَى.
كَمَا قَالَ فِي كِتَابه الْكَرِيم: { وَإِن من شَيْء إلاَّ يسبح بِحَمْدِهِ} ( الْإِسْرَاء: 44) .
الْآيَة،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَهُوَ دَلِيل لمن قَالَ: لَا يحرق النَّمْل، وَأَجَازَهُ ابْن حبيب، وَأما إِن أدَّت ضَرُورَة إِلَى ذَلِك فَجَائِز أَن تحرق أَو تغرق.