فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب حرق الدور والنخيل

( بابُُ حَرْقِ الدُّورِ والنَّخِيل)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان جَوَاز إحراق دور الْمُشْركين ونخيلهم، قَالَ بَعضهم: كَذَا وَقع فِي جَمِيع النّسخ: حرق الدّور، وضبطوه بِفَتْح أَوله وَإِسْكَان الرَّاء وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الْمصدر حرق، وَإِنَّمَا يُقَال: تحريق وإحراق، لِأَنَّهُ رباعي، فَلَعَلَّهُ كَانَ بتَشْديد الرَّاء بِلَفْظ الْفِعْل الْمَاضِي، وَهُوَ المطابق للفظ الحَدِيث، وَالْفَاعِل مَحْذُوف تَقْدِيره: النَّبِي بِفِعْلِهِ أَو بِإِذْنِهِ، وعَلى هَذَا فَقَوله: الدّور، مَنْصُوب بالمفعولية، والنخيل كَذَلِك نسقاً عَلَيْهِ.
انْتهى.
قلت: دَعْوَاهُ النّظر فِي الضَّبْط الْمَذْكُور فِي جَمِيع النّسخ فِيهَا نظر، لِأَنَّهُ لم يبين أَن الَّذين ضبطوه هَكَذَا هم النساخ أَو الْمَشَايِخ أَصْحَاب هَذَا الْفَنّ، فَإِن كَانُوا هم النساخ فَلَا اعْتِبَار لضبطهم، وَإِن كَانُوا الْمَشَايِخ فَهُوَ صَحِيح لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون لفظ حرق بِهَذَا الضَّبْط إسماً للإحراق، فَلَا يكون مصدرا حَتَّى لَا يرد مَا ذكره، لِأَن الحرق بالضبط الْمَذْكُور مصدر حرقت الشَّيْء حرقاً إِذا بردته، وحككت بعضه بِبَعْض، وَأما الَّذِي يسْتَعْمل فِي النَّار فَلَا يُقَال إلاَّ أحرقته من الإحراق أَو حرقته بِالتَّشْدِيدِ من التحريق.
وَقَوله: لِأَنَّهُ رباعي غير مصطلح عِنْد الصرفيين لِأَنَّهُ لَا يُقَال: رباعي، عِنْدهم إلاَّ لما كَانَ حُرُوفه الْأَصْلِيَّة على أَرْبَعَة أحرف، وَإِنَّمَا يُقَال لمثل هَذَا: ثلاثي مزِيد فِيهِ.
وَقَوله: فَلَعَلَّهُ كَانَ ... إِلَى آخِره، فِيهِ تعسف وتكلف جدا، لِأَن فِيهِ إضماراً قبل الذّكر، ثمَّ تَقْدِير الْفَاعِل، وَالْفَاعِل لَا يحذف.



[ قــ :2886 ... غــ :3020 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثني قَيْسُ بنُ أبِي حازِمٍ قَالَ قَالَ لِي جَرِيرٌ قَالَ لي رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا تُرِيحُنِي منْ ذِي الخَلَصَةِ وكانَ بَيْتً فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى كعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ قالَ فانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ ومائَةِ فارِسٍ منْ أحْمَسَ وكانُوا أصْحَبَ خَيْلٍ قالَ وكُنْتُ لَا أثْبُتُ علَى الخَيْلِ فضَرَبَ فِي صَدْرِي حتَّى رأيْتُ أثَرَ أصابِعِهِ فِي صَدْرِي.

     وَقَالَ  اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ واجْعَلْهُ هادِياً مَهْدِياً فانْطَلَقَ إلَيْهَا فكَسَرَهَا وحَرَّقَها ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخْبِرُهُ فَقالَ رسولُ جَرِيرٍ والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ مَا جِئْتُكَ حتَّى تَرَكْتُها كأنَّهَا جَمَلٌ أجْوَفُ أوْ أجْرَبُ قَالَ فَبارَكَ فِي خَيْلِ أحْمَسَ ورِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وحرقها) وَهُوَ ظَاهر، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد الأحمسي البَجلِيّ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد أَيْضا، وَفِي الْمَغَازِي عَن أبي مُوسَى وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن يُوسُف بن مُوسَى، وَفِي الدَّعْوَات عَن عَليّ بن عبد الله.
وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عبد الحميد بن بَيَان وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن مُحَمَّد بن عباد الْمَكِّيّ وَعَن ابْن أبي عَمْرو وَعَن مُحَمَّد بن رَافع.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن الرّبيع بن نَافِع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد ابْن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن يُوسُف بن عِيسَى، وَفِي المناقب عَن مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( أَلا تريحني) ، كلمة: أَلا، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام، مَعْنَاهَا هُنَا: الْعرض والتحضيض، وتختص بِالْجُمْلَةِ الفعلية.
و: تريحني، من الإراحة، بالراء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة.
قَوْله: ( من ذِي الخلصة) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وباللام وبالصاد الْمُهْملَة المفتوحات، وَقيل: بِسُكُون اللَّام، وَقيل: بِضَم الْخَاء وَسُكُون اللَّام وَهُوَ اسْم لذَلِك الْبَيْت، وَقَيده أَبُو الْوَلِيد الوقشي بِفَتْح الْخَاء وَإِسْكَان اللَّام، وَضَبطه الدمياطي بِخَطِّهِ بفتحهما،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: ذُو الخلصة طاغية كَانَت لدوس يعبدونها، وَقيل: هُوَ بَيت كَانَ لخثعم يُسمى الْكَعْبَة اليمانية، وَهُوَ الَّذِي أخربه جرير بن عبد الله البَجلِيّ، بَعثه إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِي ( صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: ( لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تضطرب أليات نسَاء دوس حول ذِي الخلصة) .
وَكَانَت صنماً تعبدها دوس،.

     وَقَالَ  ابْن دحْيَة: قيل: هُوَ بَيت أصنام كَانَ لدوس وخثعم وبجيلة وَمن كَانَ ببلادهم، وَقيل: هُوَ صنم كَانَ لعَمْرو بن لحي نَصبه بِأَسْفَل مَكَّة حِين نصبت الْأَصْنَام، وَكَانُوا يلبسونه القلائد ويعلقون عَلَيْهِ بيض النعام ويذبحون عِنْده.
قَوْله: ( يُسمى كعبة اليمانية) ، من إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى الصّفة، جوزه الْكُوفِيُّونَ وَقدر فِيهِ البصريون حذفا أَي: كعبة الْجِهَة اليمانية وَالْمَشْهُور فِيهِ تَخْفيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، لِأَن الْألف بدل من إِحْدَى يائي النّسَب، وَقد جَاءَ بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي رِوَايَة: الْكَعْبَة اليمانية والكعبة الشامية، وَفِي بعض النّسخ بِغَيْر وَاو بَين اليمانية والكعبة الشامية لخثعم والشامية للكعبة الْحَرَام المشرفة.
قَوْله: ( فَانْطَلَقت) وَكَانَ انطلاقه قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بشهرين.
قَوْله: ( من أحمس) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَفِي آخِره سين مُهْملَة: وأحمس هَذَا هُوَ ابْن الْغَوْث بن أَنْمَار بن أراش بن عَمْرو بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب ابْن يعرب بن قحطان.
وخثعم، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَهُوَ ابْن أفتل، بفاء وتاء مثناة من فَوق، وَقيل: أقبل، بقاف وباء مُوَحدَة: ابْن أَنْمَار بن أراش بن عَمْرو ... إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ الْآن.
قَوْله: ( فَضرب فِي صَدْرِي) إِنَّمَا ضربه فِي صَدره لِأَن فِيهِ الْقلب.
قَوْله: ( هادياً) إِشَارَة إِلَى قُوَّة التَّكْمِيل ومهدياً إِلَى قُوَّة الْكَمَال أَي: اجْعَلْهُ كَامِلا مكملاً: قَالَ ابْن بطال: هُوَ من بابُُ التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير لِأَنَّهُ لَا يكون هادياً لغيره إلاَّ بعد أَن يَهْتَدِي هُوَ فَيكون مهدياً، وببركة دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: أللهم ثبته، مَا سقط بعد ذَلِك من فرس.
قَوْله: ( وحرقها) بِالتَّشْدِيدِ.
قَوْله: ( ثمَّ بعث) ، أَي: جرير.
قَوْله: ( يُخبرهُ) ، من الْأَحْوَال المققدرة.
قَوْله: ( فَقَالَ رَسُول جرير) ، جَاءَ مُبينًا فِي بعض الرِّوَايَات أَنه أَبُو أَرْطَأَة حُصَيْن بن ربيعَة، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ، قَالَ عِيَاض: وروى حصن وَالصَّوَاب هُوَ الأول،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر حُصَيْن: وَيُقَال حصن وَالْأَكْثَر حُصَيْن بن ربيعَة الأحمسي أَبُو أَرْطَأَة، يُقَال: حُصَيْن بن ربيعَة بن عَامر بن الْأَزْوَر، وَالْأَزْوَر مَالك الشَّاعِر، وَرُوِيَ: فِي خيل أحمس، وَقد قيل فِي اسْم أبي أَرْطَأَة، هَذَا ربيعَة بن حُصَيْن، وَالصَّوَاب: حُصَيْن بن ربيعَة، وَكَانَ مَعَ جرير فِي هَذَا الْجَيْش.
قَوْله: ( أجوف) ، أَي: مجوف، وَهُوَ ضد الصمت أَي: خَال عَن كل مَا يكون فِي الْبَطن، وَوجه الشّبَه بَينهمَا عدم الِانْتِفَاع بِهِ، وَكَونه فِي معرض الفناء بِالْكُلِّيَّةِ لَا بَقَاء وَلَا ثبات لَهُ،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: معنى أجوف أَنَّهَا أحرقت فَسقط السّقف وَبَعض الْبناء وَمَا كَانَ فِيهَا من كسْوَة، وَبقيت خاوية على عروشها.
قَوْله: ( أَو أجرب) شكّ من الرَّاوِي، قَالَ الْخطابِيّ: مَطْلِي بالقطران لما بِهِ من الجرب فَصَارَ أسود لذَلِك يَعْنِي: صَار من الإحراق.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: شبهها حِين ذهب سقفها وكسوتها فَصَارَت سَوْدَاء بالجمل الَّذِي زَالَ شعره وَنقص جلده من الجرب، وَصَارَ إِلَى الهزال.
قَوْله: ( فَبَارك) أَي: دَعَا بِالْبركَةِ، خمس مَرَّات.

وَفِي الحَدِيث: تَوْجِيه من يرِيح من النَّوَازِل وَجَوَاز هتك مَا افْتتن بِهِ النَّاس من بِنَاء أَو إِنْسَان أَو حَيَوَان أَو غَيره.
وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد.
وَفِيه: الدُّعَاء للجيش.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ إرْسَال البشير بالفتوح.
وَفِيه: النكاية بِإِزَالَة الْبَاطِل وآثاره وَالْمُبَالغَة فِي إِزَالَته.





[ قــ :887 ... غــ :301 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا سُفْيَانُ عنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ حَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْمُزَارعَة فِي: بابُُ قطع الشّجر والنخيل، وَقد اخْتَصَرَهُ هُنَاكَ، وهنأ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي بأتم مِنْهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى جَوَاز التحريق والتخريب فِي بِلَاد الْعَدو، وَكَرِهَهُ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتَجُّوا بِوَصِيَّة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لجيوشه أَن لَا يَفْعَلُوا شَيْئا من ذَلِك.
وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ كَانَ يعلم أَن تِلْكَ الْبِلَاد ستفتح، فَأَرَادَ إبقاءها على الْمُسلمين،.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: النَّهْي مَحْمُول على الْقَصْد لذَلِك بِخِلَاف مَا إِذا أَصَابُوا ذَلِك فِي خلال الْقِتَال، كَمَا وَقع فِي نصب المنجنيق على الطَّائِف.
.

     وَقَالَ  غَيره: أثر الصّديق مُرْسل، والراوي سعيد بن الْمسيب،.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ سعيد بن الْمسيب لم يُولد فِي أَيَّام الصّديق، وَيُقَال: حَدِيث ابْن عمر دَال على أَن للْمُسلمين أَن يكيدوا عدوهم من الْمُشْركين بِكُل مَا فِيهِ تَضْعِيف شوكتهم وتوهين كيدهم وتسهيل الْوُصُول إِلَى الظفر بهم من قطع ثمارها وتغوير مِيَاههمْ والتضييق عَلَيْهِم بالحصار.
وَمِمَّنْ أجَاز ذَلِك الْكُوفِيُّونَ، وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَالثَّوْري وَابْن الْقَاسِم.
.

     وَقَالَ  الْكُوفِيُّونَ: يحرق شجرهم وتخرب بِلَادهمْ وتذبح الْأَنْعَام وتعرقب إِذا لم يُمكن إخْرَاجهَا،.

     وَقَالَ  مَالك: يحرق النّخل وَلَا تعرقب الْمَوَاشِي،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: يحرق الشّجر المثمر والبيوت وأكره حريق الزَّرْع والكلأ،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَا يحل قتل الْمَوَاشِي وَلَا عقرهَا، وَلَكِن تخلى.