فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم

( بابٌُ إذَا غدَرَ المُشْرِكُونَ بالمُسْلِمينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا غدر الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين، والغدر ضد الْوَفَاء، والغدر: الْخِيَانَة، والغدر نقض الْعَهْد، وَلم يذكر جَوَاب الِاسْتِفْهَام لأجل الِاخْتِلَاف فِي معاقبة الْمَرْأَة الَّتِي أَهْدَت الشَّاة المسمومة.



[ قــ :3024 ... غــ :3169 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني سَعِيدٌ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاةُ فِيها سُمٌ

فَقال النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْمَعُوا إلَيَّ مَنْ كانَ هاهُنا مِنْ يَهُودَ فَجُمِعُوا لَهُ فَقال لَهُمْ إنِّي سائِلُكُمْ عنْ شَيْءٍ فهَلْ أنْتُمْ صادِقَيَّ عَنْهُ فَقالوا نَعَمْ قالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أبُوكُمْ قَالُوا فُلانٌ فَقال كذَبْتُمْ بَلْ أبُوكُمْ فُلانٌ قَالُوا صَدَقْتَ قَالَ فَهَلْ أنْتُمْ صادِقيَّ عنْ شَيءٍ إنْ سألْتُ عَنْهُ فَقالُوا نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ وإنْ كَذَبْنا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أبِينَا فَقَالَ لَهُمْ منْ أهْلُ النَّارِ قالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْسَئُوا فِيها وَالله لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيها أبَدَاً ثُمَّ قالَ هَلْ أنْتُمْ صادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إنْ سألْتُكُمْ عنْهُ فَقَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ قَالَ هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً قَالُوا نَعَمْ قَالَ مَا حَمَلَكُمْ علىَ ذالِكَ قَالُوا أرَدْنَا إنْ كُنْتَ كاذِباً نَسْتَرِيحُ وإنْ كُنْتَ نَبِيَّاً لَمْ يَضُرَّكَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُشْركين من أهل خَيْبَر غدروا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأهدوا لَهُ على يَد امْرَأَة شَاة مَسْمُومَة فَعَفَا عَنْهَا أَو قَتلهَا، فِيهِ خلاف على مَا نذكرهُ الْآن.

وَسَعِيد هُوَ المَقْبُري.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عبد الله بن يُوسُف أَيْضا، وَفِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ.
وَأخرجه مُسلم عَن أنس: أَن امْرَأَة يَهُودِيَّة أَتَت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة مَسْمُومَة فَأكل مِنْهَا، فجيء بهَا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهَا عَن ذَلِك، فَقَالَت: أردْت لأقتلك! فَقَالَ: مَا كَانَ الله لِيُسَلِّطك على ذَلِك، قَالَ، أَو قَالَ: عَليّ.
قَالَ: قَالُوا: أَلا نقتلها؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَا زلت أعرفهَا فِي لَهَوَات رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( أهديت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاة) ، وَكَانَ الَّذِي أَتَى بهَا امْرَأَة يَهُودِيَّة، صرح بذلك فِي ( صَحِيح مُسلم) .

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ فِي ( شرح مُسلم) : وَهَذِه الْمَرْأَة الْيَهُودِيَّة الفاعلة للسم اسْمهَا زَيْنَب بنت الْحَارِث أُخْت مرحب الْيَهُودِيّ.
قلت كَذَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا: مَا حملك على هَذَا؟ قَالَت: قتلت أبي وَعمي وَزَوْجي وَأخي، قَالَ مُحَمَّد: فَسَأَلت إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر عَن هَذَا فَقَالَ: أَبوهَا الْحَارِث، وعمها بشار وَكَانَ أجبن النَّاس وَهُوَ الَّذِي أنزل من الرف، وأخوها زبير، وَزوجهَا سَلام بن مشْكم.
قَوْله: ( سم) ، بِفَتْح السِّين وَضمّهَا وَكسرهَا، ثَلَاث لُغَات وَالْفَتْح أفْصح، وَجمعه: سمام وسموم.
قَوْله: ( صادقي) بتَشْديد الْيَاء لِأَن أَصله: صَادِقُونَ، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم وَسَقَطت النُّون وقلبت الْوَاو يَاء أدغمت الْيَاء فِي الْيَاء.
قَوْله: ( ثمَّ تخلفونا فِيهَا) ، أَي: فِي النَّار، وأصل تخلفونا: تخلفوننا، فإسقاط النُّون من غير جازم وَلَا ناصب لُغَة، وَهُوَ من خلف يخلف إِذا قَامَ مقَام غَيره، وَالْخلف بتحريك اللاَّم وسكونها كل من يَجِيء بعده من مضى، إلاَّ أَنه بِالتَّحْرِيكِ فِي الْخَيْر، وبالسكون فِي الشَّرّ، يُقَال: خلف صدق، وَخلف سوء.
قَوْله: ( اخْسَئُوا) ، زجر لَهُم بالطرد والإبعاد أَو دعاءٌ عَلَيْهِم بذلك، وَيُقَال لطرد الْكَلْب: إخسأ.

قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَاخْتلفت الْآثَار وَالْعُلَمَاء: هَل قَتلهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَا؟ فَوَقع فِي ( مُسلم) : أَنهم قَالُوا: ألاَ نقتلها؟ قَالَ: لَا، وَمثله عَن أبي هُرَيْرَة وَجَابِر، وَعَن جَابر من رِوَايَة أبي سَلمَة: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتلهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَفعهَا إِلَى أَوْلِيَاء بشر بن الْبَراء بن معْرور، وَكَانَ أكل مِنْهَا فَمَاتَ بهَا فَقَتَلُوهَا،.

     وَقَالَ  ابْن سَحْنُون: أجمع أهل الحَدِيث أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتلهَا، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد.
فَأمر بهَا فقتلت، وَفِي لفظ: قَتلهَا وصلتها وَفِي ( جَامع معمر) عَن الزُّهْرِيّ: لما أسلمت تَركهَا.
قَالَ معمر: كَذَا قَالَ الزُّهْرِيّ: أسلمت، وَالنَّاس يَقُولُونَ: قَتلهَا، وَأَنَّهَا لم تسلم.
.

     وَقَالَ  السُّهيْلي: قيل: إِنَّه صفح عَنْهَا.
قَالَ القَاضِي: وَجه الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات والأقاويل أَنه لم يَقْتُلهَا إلاَّ حِين اطلع على سحرها، وَقيل لَهُ: اقتلها، فَقَالَ: لَا، فَلَمَّا مَاتَ بشر بن الْبَراء من ذَلِك سلمهَا لأوليائه فَقَتَلُوهَا قصاصا، فصح قَوْلهم: لم يَقْتُلهَا أَي: فِي الْحَال، وَيصِح قَوْلهم: قَتلهَا أَي: بعد ذَلِك وَالله أعلم.

وَفِيه: أَن الإِمَام مَالِكًا احْتج بِهِ على أَن الْقَتْل بالسم كَالْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ الَّذِي يُوجب الْقصاص،.

     وَقَالَ  الْكُوفِيُّونَ: لَا قصاص فِيهِ.
وَفِيه: الدِّيَة على الْعَاقِلَة، قَالُوا: وَلَو دسه فِي طَعَام أَو شراب لم يكن عَلَيْهِ شَيْء وَلَا على عَاقِلَته،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: إِذا فعل ذَلِك وَهُوَ مكره فَفِيهِ قَولَانِ فِي وجوب الْقود أصَحهمَا: لَا.
وَفِيه: معْجزَة ظَاهِرَة لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، حَيْثُ لم يُؤثر فِيهِ السم، وَالَّذِي أكل مَعَه مَاتَ.
وَفِيه: أَن السم لَا يُؤثر بِذَاتِهِ بل بِإِذن الرب، جلّ جَلَاله، ومشيئته، ألاَ تَرَى أَن السم أثر فِي بشر وَلم يُؤثر فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَلَو كَانَ يُؤثر بِذَاتِهِ لأثر فيهمَا فِي الْحَال، وَالله أعلم.