فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب كيف كان بدء الحيض وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم»

(كتاب الحيضِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْحيض.
وَلما فرغ مِمَّا ورد فِي بَيَان أَحْكَام الطَّهَارَة من الإحداث أصلا وخلفاً، شرع فِي بَيَان مَا ورد فِي بَيَان الْحيض الَّذِي هُوَ من الأنجاس، وَقدم مَا ورد فِيهِ على مَا ورد فِي النّفاس لِكَثْرَة وُقُوع الْحيض بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُقُوع النّفاس.
وَالْحيض فِي اللُّغَة السيلان، يُقَال حَاضَت السمرَة، وَهِي شَجَرَة يسيل مِنْهَا شَيْء كَالدَّمِ، وَيُقَال: الْحيض لُغَة الدَّم الْخَارِج يُقَال: حَاضَت الأرانب، إِذا خرج مِنْهَا الدَّم وَفِي (الْعباب) التحييض التسييل، يُقَال حَاضَت الْمَرْأَة تحيض حيضا ومحاضاً ومحيضاً.
وَعَن اللحياني: حاض وجاض وحاص، بالمهملتين، وحاد كلهَا بِمَعْنى: وَالْمَرْأَة حَائِض، وَهِي اللُّغَة الفصيحة الفاشية بِغَيْر تَاء، وَاخْتلف النُّحَاة فِي ذَلِك، فَقَالَ الْخَلِيل: لما لم يكن جَارِيا على الْفِعْل كَانَ بِمَنْزِلَة الْمَنْسُوب بِمَعْنى حائضي، أَي: ذَات حيض، كدراع ونابل وتامر وَلابْن، وَكَذَا طَالِق وطامت وقاعد للآيسة أَي: ذَات طَلَاق وَمذهب سِيبَوَيْهٍ أَن ذَلِك صفة شَيْء مُذَكّر أَي شَيْء أَو أنسان أَو شخص حَائِض.
وَمذهب الْكُوفِيّين أَنه اسْتغنى عَن عَلامَة التَّأْنِيث لِأَنَّهُ مَخْصُوص بالمؤنث، وَنقض: بجمل باذل، وناقة بازل، وضامر فيهمَا.
وَإِمَّا مَعْنَاهُ فِي الشَّرْع فَهُوَ: دم ينفضه رحم امْرَأَة سليمَة عَن دَاء وَصغر،.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: الْحيض دم يرخيه رحم الْمَرْأَة بعد بُلُوغهَا فِي أَوْقَات مُعْتَادَة من قَعْر الرَّحِم.

     وَقَالَ  الْكَرْخِي: الْحيض دم تصير بِهِ الْمَرْأَة بَالِغَة بابتداء خُرُوجه، وَقيل: هُوَ دم ممتد خَارج عَن مَوضِع مَخْصُوص، وَهُوَ القيل، والاستحاضة، جَرَيَان الدَّم فِي غير أَوَانه،.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: الِاسْتِحَاضَة مَا ترَاهُ الْمَرْأَة فِي أقل من ثَلَاثَة أَيَّام أَو على أَكثر من عشرَة أَيَّام.
وقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيضِ قُلْ هُوَ أَذَى فَاعَتَزِلُوا النِّساءَ فِي المَحِيضِ إِلَى} قَوْله: { وَيُحِبُ المُتَطَهِّرِينَ} (سُورَة الْبَقَرَة: 222) قَول الله بِالْجَرِّ، عطفا على قَوْله: الْحيض الْمُضَاف إِلَيْهِ لفظ، كتاب، وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن الْيَهُود كَانُوا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة فيهم لم يؤاكلوها وَلم يجامعوها فِي الْبيُوت فَسَأَلَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله تَعَالَى: { ويسألونك عَن الْمَحِيض} (سُورَة الْبَقَرَة: 222) الْآيَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (افعلوا كل شَيْء إلاَّ النِّكَاح).

     وَقَالَ  الواحدي: السَّائِل هُوَ أَبُو الدحداح، وَفِي مُسلم أَن أسيد بن حضير وَعباد بن بشر قَالَا بعد ذَلِك، أَفلا نجامعهن فَتغير وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحَدِيث، وَهَذَا بَيَان للأذى الْمَذْكُور فِي الْآيَة.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: سمي الْحيض أَذَى لنتنه وقذره ونجاسته.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: الْأَذَى الْمَكْرُوه الَّذِي لَيْسَ بشديد كَمَا قَالَ تَعَالَى: { لن يضروكم إلاَّ أذَىً} (سُورَة آل عمرَان: 111) فَالْمَعْنى أَن الْمَحِيض أَذَى يعتزل من الْمَرْأَة بِوَضْعِهِ، وَلَكِن لَا يتَعَدَّى ذَلِك إِلَى بَقِيَّة بدنهَا.
قَالُوا: وَالْمرَاد من الْمَحِيض الأول الدَّم، وَأما الثَّانِي فقد اخْتلف فِيهِ أهوَ نفس الدَّم أَو زمن الْحيض،أَو الْفرج؟ وَالْأول هُوَ الْأَصَح.
فَإِن قلت: أورد هَذِه الْآيَة هَاهُنَا وَلم يبين مِنْهَا شَيْئا فَمَا كَانَت فَائِدَة ذكرهَا هَاهُنَا.
قلت: أقل فَائِدَة التَّنْبِيه إِلَى نَجَاسَة الْحيض، وَالْإِشَارَة أَيْضا إِلَى وجوب الاعتزال عَنْهُن فِي حَالَة الْحيض، وَغير ذَلِك.


(بابُُ كَيْفَ كانَ بَدْءَ الحَيْضِ)

أَي: هَذَا بابُُ، فارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَيجوز فِيهِ التَّنْوِين بِالْقطعِ عَمَّا بعده، وَتَركه للإضافة إِلَى مَا بعده وَالْبابُُ أَصله: البوب، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَيجمع على أَبْوَاب وابوية، وَالْمرَاد من الْبابُُ هُنَا النَّوْع.
كَمَا فِي قَوْلهم: من فتح بابُُا من الْعلم أَي: نوعا وَكلمَة، كَيفَ اسْم لدُخُول الْجَار عَلَيْهِ بِلَا تَأْوِيل فِي قَوْلهم: على كَيفَ تبيع الأحمرين؟ فَإِن قلت: مَا مَحل: كَيفَ، من الْإِعْرَاب؟ قلت: يجوز أَن تكون حَالا، كَمَا فِي قَوْلك كَيفَ جَاءَ زيد، أَي: على أَي حَالَة جَاءَ زيد؟ وَالتَّقْدِير هَاهُنَا على أَي حَالَة كَانَ ابْتِدَاء الْحيض؟ وَلَفظ كَانَ من الْأَفْعَال النَّاقِصَة تدل على الزَّمَان الْمَاضِي من غير تعرض لزواله فِي الْحَال أَو لَا زَوَاله وَبِهَذَا يفْتَرق عَن: صَار، فَإِن مَعْنَاهُ الِانْتِقَال من حَال إِلَى حَال، وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال: صَار الله، وَلَا يُقَال إِلَّا كَانَ كَانَ الله.
قَوْله: (بَدْء الْحيض) من بَدَأَ يبدؤ بدوأ أَي: ظهر، والبدأ بِالْهَمْزَةِ فِي آخِره على فعل، بِسُكُون الْعين من بدأت الشَّيْء بدأت: ابتدأت بِهِ.

وقَوْلُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا شَيْءٌ كتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ
هَذَا من تعليقات البُخَارِيّ، والآن يذكرهُ مَوْصُولا لَا عقيب هَذَا، وسيذكره أَيْضا فِي الْبابُُ السَّادِس فِي جملَة حَدِيث،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا شَيْء، يُشِير إِلَى حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور عَقِيبه.
قلت: هَذَا الْكَلَام غير صَحِيح، بل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا شَيْء، يُشِير بِهِ إِلَى الْحيض فَكَذَلِك لفظ: شَيْء فِي الحَدِيث الَّذِي سَيَأْتِي فِي الْبابُُ السَّادِس، وَلكنه بِلَفْظ: (فَإِن ذَلِك شَيْء كتبه الله على بَنَات آدم) وَفِي الحَدِيث الَّذِي عَقِيبه: (إِن هَذَا أَمر كتبه الله على بَنَات آدم) وعَلى كل تَقْدِير الْإِشَارَة إِلَى الْحيض، وَقد استدركه هَذَا الْقَائِل فِي آخر كَلَامه بقوله: وَالْإِشَارَة بقوله هَذَا إِلَى الْحيض.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ كانِ أَوَّلُ مَا أُرْسلَ الحَيْضُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ
هَذَا قَول عبد الله بن معسود وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
أخرجه عبد الرَّزَّاق عَنْهُمَا وَلَفظه (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي بني إِسْرَائِيل يصلونَ جَمِيعًا، وَكَانَت الْمَرْأَة تتشرف للرجل فَألْقى الله عَلَيْهِنَّ الْحيض ومنعهن الْمَسَاجِد) فَإِن قلت: الْحيض أرسل على بَنَات بني إِسْرَائِيل على هَذَا القَوْل: وَلم يُرْسل على بنيه، فَكيف قَالَ: على بني إِسْرَائِيل؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: يسْتَعْمل بَنو إِسْرَائِيل، وَيُرَاد بِهِ أَوْلَاده، كَمَا يُرَاد من بني آدم أَوْلَاده.
أَو المُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة.
قلت: هَذَا من حَيْثُ اللُّغَة يمشي، وَمن حَيْثُ الْعرف لَا يذكر الإبن وَيُرَاد بِهِ الْوَلَد، حَتَّى لَو أوصى بِثلث مَاله لِابْنِ زيد، وَله ابْن وَبنت لَا تدخل الْبِنْت فِيهِ، وَدخُول الْبَنَات فِي بني آدم بطرِيق التّبعِيَّة.
وَقَوله: أَو المُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة، لَيْسَ لَهُ وَجه أصلا لِأَن الْقَبِيلَة تجمع الْكل فَيدْخل فِيهِ الرِّجَال أَيْضا.
وَقد علم أَن طَبَقَات الْعَرَب سِتّ، فالقبائل تجمع الْكل وَيُمكن أَن يُقَال إِن الْمُضَاف فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره، على بَنَات بني إِسْرَائِيل، يشْهد بذلك قَوْله: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (كتبه الله على بَنَات بني آدم) وَقد ذكر التَّوْفِيق بَينهمَا عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن قلت: مَا مَحل قَوْله: على بني إِسْرَائِيل من الْإِعْرَاب؟ قلت: النصب لِأَنَّهَا جملَة وَقعت خَبرا لَكَانَ قَوْله أَو ل مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْمه، وَكلمَة مَا، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره، كَانَ أول إرْسَال الْحيض على بني إِسْرَائِيل.

قالَ أبُو عبْدِ اللَّهِ وَحَدِيثُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكْثَرُ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى دَرَجَة التَّوْفِيق بَين الْخَبَرَيْنِ، وَهُوَ أَن كَلَام الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر قُوَّة وقبولاً من كَلَام غَيره من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي:، ويروي: (أكبر) بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَمَعْنَاهُ: على هَذَا، وَحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وسلمأعظم وَأجل وآكد ثبوتاً وَفسّر الْكرْمَانِي الْأَكْثَر، بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَأي: أشمل، لِأَنَّهُ يتَنَاوَل بَنَات إِسْرَائِيل وغيرهن،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَكثر أَي: أشمل لِأَنَّهُ عَام فِي جَمِيع بَنَات بني آدم، فَيتَنَاوَل الْإسْرَائِيلِيات وَمن قبلهن.
قلت: لم لَا يجوز أَن يكون الشُّمُول فِي بَنَات إِسْرَائِيل وَمن بعدهن؟.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ لَيْسَ بَينهمَا مُخَالفَة، فَإِن نسَاء بني إِسْرَائِيل من بَنَات آدم،.

     وَقَالَ  بَعضهم: فعلى هَذَا فَقَوله: بَنَات آدم أُرِيد بِهِ الْخُصُوص.
قلت: مَا أبعد كَلَام الدَّاودِيّ فِي التَّوْفِيق بَينهمَا.
نعم، نَحن مَا ننكر أَن نسَاء من بني إِسْرَائِيل من بَنَات آدم، وَلَكِن الْكَلَام فِي لفظ الأولية فيهمَا وَلَا تَنْتفِي الْمُخَالفَة إِلَّا بالتوفيق بَين لَفْظِي الأولية، وَأبْعد من هَذَا قَول هَذَا الْقَائِل: عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فَكيف يجوز تَخْصِيص عُمُوم كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَلَام غَيره؟ ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُمكن أَن يجمع بَينهمَا بِأَن الَّذِي أرسل على نسَاء بني إِسْرَائِيل طول مكثه بِهن عُقُوبَة لَهُنَّ لَا ابْتِدَاء وجوده.
قلت: هَذَا كَلَام من لَا يَذُوق الْمَعْنى، وَكَيف يَقُول: لَا ابْتِدَاء وجوده؟ وَالْخَبَر فِيهِ أول مَا أرسل، وَبَينه وَبَين كَلَامه مُنَافَاة، وَأَيْضًا من أَيْن ورد أَن الْحيض طَال مكثه فِي نسَاء بني إِسْرَائِيل؟ وَمن نقل هَذَا؟ وَقد روى الْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس: رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
أَن ابْتِدَاء الْحيض كَانَ على حَوَّاء، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعد أَن أهبطت من الْجنَّة وَكَذَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر.
وَقد روى الطَّبَرِيّ وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره أَن قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: { وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت} (سُورَة هود: 71) أَي: حَاضَت، والقصة مُتَقَدّمَة على بني إِسْرَائِيل بِلَا ريب، لِأَن إِسْرَائِيل هُوَ يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قلت: وَلَقَد حضر لي جَوَاب فِي التَّوْفِيق من الْأَنْوَار الإلهية بعونه ولطفه، وَهُوَ أَنه، يُمكن أنالله تَعَالَى قطع نِسَائِهِم، لِأَن من حكم الله تَعَالَى أَنه جعل الْحيض مسبباً لوجو، النَّسْل، أَلا ترى أَن الْمَرْأَة إِذا ارْتَفع حَيْضهَا لَا تحمل عَادَة؟ أَعَادَهُ عَلَيْهِنَّ كَانَ ذَلِك أول الْحيض بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُدَّة الِانْقِطَاع، فَأطلق الأولية عَلَيْهِ بِهَذَا الِاعْتِبَار، لِأَنَّهَا من الْأُمُور النسبية فَافْهَم.



[ قــ :290 ... غــ :294 ]
- حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ المَدِينِي حدّثنا سُفْيَانُ قالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنْنَ القَاسِمِ قالَ سَمِعْتُ القَاسِمَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ خَرَجْنَا لَا نَرَى إلاَّ الحَجْ فَلَمَّا كُنَّا بِسِرِفَ حِضْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا أَبْكِي فَقَالَ مالَكَ أنُفِسْتِ.

قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إنَّ هَذَا إِمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتَ آدَمَ فَافْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ قَالَتْ وضَحَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ نِسَائِهِ بالْبَقَر.
.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن هَذَا أَمر كتبه الله على بَنَات آدم) .
وعَلى رَأس هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت بابُُ الْأَمر بالنفساء إِذا نفس، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات هَذِه التَّرْجَمَة سَاقِطَة، أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الْأَمر الْمُتَعَلّق بالنفساء قَالَ الْكرْمَانِي: الْبَحْث فِي الْحيض، فَمَا وَجه تعلقه بِهِ.
قلت: المُرَاد بالنفساء الْحَائِض.
قلت: النُّفَسَاء مُفْرد، وَجمعه نِفَاس.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي لَيْسَ فِي الْكَلَام من فعلاء يجمع على فعال غير نفسَاء وعشراء، وَهِي الْحَامِل من الْبَهَائِم، ثمَّ قلت: وَيجمع أَيْضا على نفساوات بِضَم النُّون،.

     وَقَالَ  صَاحب (الْمطَالع) بِالْفَتْح أَيْضا، وَيجمع أَيْضا على نفس، بِضَم النُّون وَالْفَاء، قَالَ: وَيُقَال فِي الْوَاحِد نَفسِي مثل كبرى، وبفتح النُّون أَيْضا، وَامْرَأَتَانِ نفساوان، وَنسَاء نِفَاس، وَالنّفاس أَيْضا مصدر سمي بِهِ الدَّم كَمَا يُسمى بِالْحيضِ مَأْخُوذ من تنفس الرَّحِم بِخُرُوج النَّفس الَّذِي الدَّم وَفِي المعزب النفا مصدر نفست الْمَرْأَة بِضَم النُّون وَفتحهَا إِذا ولدت فَهِيَ نفسَاء قَوْله: إِذا نفس، بِضَم الْفَاء وَفتحهَا، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى النُّفَسَاء، وتذكيره بِاعْتِبَار الشَّخْص أَو لعدم الإلتباس كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب فَإِن قلت: الْبَاء فِي النُّفَسَاء مَا هِيَ؟ قلت: زَائِدَة لِأَن النُّفَسَاء مأمورة لَا مَأْمُور بهَا، أويكون التَّقْدِير الْأَمر الملتبس بالنفساء.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الدَّال قَالَ ابْن الْأَثِير: مَنْسُوب إِلَى مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا أحد مَا اسْتعْمل بِالنّسَبِ فِيهِ خَارِجا عَن الْقيَاس، فَإِن قِيَاسه الْمدنِي،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: تَقول فِي النِّسْبَة إِلَى مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مدنِي وَإِلَى مَدِينَة الْمَنْصُور: مديني، للْفرق.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم.
الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الْخَامِس: عَائِشَة الصديقة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.

ذكر تعدده وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن قُتَيْبَة وَعَن مُسَدّد وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب عَن سُفْيَان وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن عبد الله والْحَارث بن مِسْكين، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن يحيى بن آدم وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد.

ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (لَا نرى إلاَّ الْحَج) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال، وَلَا نرى، بِضَم النُّون، بِمَعْنى: لَا نظن وَقَوله: إلاَّ الْحَج، يَعْنِي: إلاَّ قصد الْحَج، لأَنهم كَانُوا يظنون امْتنَاع الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، فَأخْبرت عَن اعتقادها، أَو عَن الْغَالِب عَن حَال النَّاس، أَو عَن حَال الشَّارِع أما هِيَ فقد قَالَت: إِنَّهَا لم تحرم إلاَّ بِالْعُمْرَةِ.
قَوْله: (فَلَمَّا كنت) وَفِي بعض النّسخ: (فَلَمَّا كُنَّا) قَوْله: (بسرف) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء فِي آخِره فَاء وَهُوَ اسْم مَوضِع قريب من مَكَّة بَينهمَا نَحْو من عشرَة أَمْيَال، وَقيل: عشرَة، وَقيل: تِسْعَة، وَقيل: سَبْعَة، وَقيل: سِتَّة، وَهُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث.
قَوْله: (حِضْت) بِكَسْر الْحَاء، لِأَنَّهُ من حاض يحيض، كبعت من بَاعَ يَبِيع، بِأَصْلِهِ حيضت، قلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، ثمَّ حذفت لالتقاء الساكنين فَصَارَ، حِضْت، بِالْفَتْح ثمَّ أبدلت الفتحة كسرة لتدل على الْيَاء المحذوفة.
قَوْله: (وَأَنا أبْكِي) جملَة إسمية وَقعت حَالا بِالْوَاو.
قَوْله: (أنفست؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، ونفست، قَالَ النَّوَوِيّ: بِضَم الْفَاء وَفتحهَا فِي الْحيض وَالنّفاس، لَكِن الضَّم فِي الْولادَة وَالْفَتْح فِي الْحيض أَكثر.
وَحكى صَاحب (الْأَفْعَال) الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَفِي (شرح مُسلم) الْمَشْهُور فِي اللُّغَة أَن نفست، بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء مَعْنَاهُ: حِضْت، وَأما فِي الْولادَة فَيُقَال: نفست، بِضَم النُّون،.

     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ: نفست، بِضَم النُّون وَفتحهَا فِي الْولادَة وَفِي الْحيض بِالْفَتْح لَا غير.
قَوْله: (إِن هَذَا أَمر) إِشَارَة إِلَى الْحيض، فَالْأَمْر بِمَعْنى الشَّأْن.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قَوْله: أَمر، وَفِي التَّرْجَمَة، شَيْء، فَهُوَ إِمَّا من بابُُ نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَإِمَّا أَن اللَّفْظَيْنِ ثابتان.
قلت: لَا يحْتَاج إِلَى الترديد، إِذْ اللفظان ثابتان.
قَوْله: (فاقضى) خطاب لعَائِشَة، فَلذَلِك لم تسْقط الْيَاء، وَمَعْنَاهُ، فأدي لِأَن الْقَضَاء يَأْتِي بِمَعْنى الْأَدَاء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا} (سُورَة الْجُمُعَة: 10) أَي: إِذا أدّيت صَلَاة الْجُمُعَة.
قَوْله: (مَا يقْضِي الْحَاج) قَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد من الْحَاج الْحسن، فَيشْمَل الْجمع، هُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: { سامر اتهجرون} (سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 67) قلت: لَا ضَرُورَة إِلَى هَذَا الْكَلَام، بل هُوَ اسْم فَاعل، وَأَصله، حاجج، وَرُبمَا يَأْتِي فِي ضَرُورَة الشّعْر هَكَذَا قَالَ الراجز:
بِكُل شيخ عَامر أَو حاجج
وَفِي (الصِّحَاح) تَقول: حججْت الْبَيْت أحجه حجا فَأَنا حَاج، وَيجمع على: حجج مثل: بازل وبزل.
قَوْله: (غير ألاَّ تطوفي) بِنصب غير، وإلاَّ بِالتَّشْدِيدِ أَصله أَن لَا يجوز، أَن تكون: أَن مُخَفّفَة، من المثقلة، وَفِيه ضمير الشَّأْن، وَلَا تطوفي، مجزوم وَالْمعْنَى لَا تطوفي مَا دمت حَائِضًا لفقدان شَرط صِحَة الطّواف، وَهُوَ الطَّهَارَة.
قَوْله: (بالبقر) ويروي: (بالبقر) وَالْفرق بَينهمَا: كتمرة وتمر، وعَلى تَقْدِير عدم التَّاء يحْتَمل التَّضْحِيَة بِأَكْثَرَ من بقرة وَاحِدَة.

ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن الْمَرْأَة إِذا حَاضَت بعد الْإِحْرَام يَنْبَغِي لَهَا أَن تَأتي بِأَفْعَال الْحَج كلهَا غير أَنَّهَا لَا تَطوف بِالْبَيْتِ، فَإِذا طافت قبل أَن تتطهر فعلَيْهَا بدلة، وَكَذَلِكَ النُّفَسَاء وَالْجنب عَلَيْهِمَا بَدَنَة بِالطّوافِ قبل التطهر عَن النّفاس والجنابة، وَأما الْمُحدث فَإِن طَاف طواف الْقدوم فَعَلَيهِ صَدَقَة،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَا يعْتد بِهِ، وَالطَّهَارَة من شَرطه عِنْده، وَكَذَا الحكم فِي كل طواف هُوَ تطوع، وَلَو طَاف طواف الزِّيَارَة مُحدثا فَعَلَيهِ شَاة، وَإِن كَانَ جنبا فَعَلَيهِ بَدَنَة، وَكَذَا الْحَائِض وَالنُّفَسَاء.
وَمِنْهَا: جَوَاز الْبكاء والحزن لأجل حُصُول مَانع لِلْعِبَادَةِ وَمِنْهَا جَوَاز التَّضْحِيَة ببقرة وَاحِدَة لجَمِيع نِسَائِهِ وَمِنْهَا جَوَاز تضحية الرجل لامْرَأَته.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: هَذَا مَحْمُول على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، استأذنهن فِي ذَلِك، فَإِن تضحية الْإِنْسَان عَن غَيره لَا يجوز إلاَّ بِإِذْنِهِ قلت: هَذَا فِي الْوَاجِب، وَأما فِي التَّطَوُّع فَلَا يحْتَاج إِلَى الْإِذْن، فاستدل مَالك بِهِ على أَن التَّضْحِيَة بالبقر أفضل من الْبَدنَة، وَلَا دلَالَة فِيهِ وَالْأَكْثَرُونَ، مِنْهُم الشَّافِعِي ذَهَبُوا إِلَى أَن التَّضْحِيَة بالبدنة أفضل من الْبَقَرَة لتقديم الْبَدنَة على الْبَقَرَة فِي حَدِيث سَاعَة الْجُمُعَة.

وَهَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ هَاهُنَا حَدِيث طَوِيل فِيهِ أَحْكَام كَثِيرَة وخلافات بَين الْعلمَاء، وموضعها كتاب الْحَج.