فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض

( بابُُ الَطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غَسْلِهَا مِنَ الحَيْضِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان إِبَاحَة الطّيب للْمَرْأَة عِنْد غسلهَا من الْحيض، وَفِي بعض النّسخ من الْمَحِيض.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبابُُ الأول إِزَالَة الدَّم من الثَّوْب، وَهِي التَّنْظِيف والانقاء، وَفِي هَذَا الْبابُُ، التَّطَيُّب، وَهُوَ زِيَادَة التَّنْظِيف.



[ قــ :309 ... غــ :313 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبُدِ الوَهَّابِ قالَ حدّثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ أوْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمَ عَطِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ كُنَّا نُنْهَى أنْ نُحِدَّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وَلَا نَكْتَحِلَ وَلا نَتَطَيَّبَ وَلَا نَلْبَسَ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطَّهْرِ إذَا اغْتَسَلَتْ إحْدانَا مِنْ مَحِيضِها فِي نُبْذةٍ مِنْ كُسْتٍ أظْفَارِ وَكُنَّا نُنْهَى عَنُ اتِّباعِ الجَنَائِزِ.
.


مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَقد رخص لناعند الطُّهْر) إِلَى آخِره.
وَفِيه من التَّأْكِيد حَتَّى إِنَّه رخص للمحد الَّتِي حرم عَلَيْهَا اسْتِعْمَال الطّيب.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ.
الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، تقدم غير مرّة.
الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ.
الرَّابِع: حَفْصَة بنت سِيرِين الْأنْصَارِيّ أم الْهُذيْل.
الْخَامِس: أم عَطِيَّة من فاضلات الصَّحَابَة، كَانَت تمرض المرضى وتداوي الْجَرْحى وتغسل الْمَوْتَى، وَاسْمهَا نسيبة بنت الْحَارِث.
وَقيل: بنت كَعْب الغاسلة.

بَين لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته الْأَرْبَعَة بصريون.
وَفِيه: فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وكريمة.
قَالَ: حَدثنَا حما بن زيد عَن أَيُّوب، قَالَ: أَبُو عبد الله أَو هِشَام بن حسان عَن حَفْصَة وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، فَكَأَنَّهُ شكّ فِي شيخ حَمَّاد، وَهُوَ أَيُّوب أَو هِشَام، وَلَيْسَ ذَلِك عِنْد بَقِيَّة الروَاة، وَلَا عِنْد أَصْحَاب الْأَطْرَاف، وَقد أورد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الطَّلَاق بِهَذَا الْإِسْنَاد فَلم يذكر ذَلِك.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب.
وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب بِهِ وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن أبي نعيم عَن عبد السَّلَام بن حَرْب قَالَ:.

     وَقَالَ  الْأنْصَارِيّ: أخرجه مُسلم فِيهِ عَن حسن بن الرّبيع عَن عبد الله بن إِدْرِيس وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد الله بن نمير، وَعَن عَمْرو والناقد عَن يزِيد بن هَارُون.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن هَارُون بن عبد الله وَمَالك بن عبد الله المسمعي، كِلَاهُمَا عَن هَارُون بن عبد الله وَعَن عبد الله بن الْجراح عَن عبد الله بن بكر السَّهْمِي وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد عَن خَالِد وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة بِهِ.

ذكر لغاته قَوْلهَا: ( أَن نحد) بِضَم النُّون وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة من الْإِحْدَاد، وَهُوَ الِامْتِنَاع من الزِّينَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: أحدت الْمَرْأَة: أَي امْتنعت من الزِّينَة والخضاب بعد وَفَاة زَوجهَا، وَكَذَلِكَ حدث تحد بِالضَّمِّ، وتحد، بِالْكَسْرِ، حداداً وَهِي حاد، وَلم يعرف الْأَصْمَعِي إلاَّ أحدت، فَهِيَ محدة، كَذَا فِي ( الْمُحكم) وأصل هَذِه الْمَادَّة الْمَنْع، وَمِنْه قيل: البواب حداد لِأَنَّهُ يمْنَع الدُّخُول وَالْخُرُوج، وَأغْرب بَعضهم فحكاه بِالْجِيم نَحْو: جددت الشَّيْء، إِذا قطعت، فَكَأَنَّهَا قد انْقَطَعت عَن الزِّينَة عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ قبل ذَلِك.
قَوْله: ( ثوب عصب) بِفَتْح الْعين وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَهُوَ من برود الْيمن يصْبغ غزلها ثمَّ تنسج، وَفِي ( الْمُحكم) هُوَ ضرب من برود الْيمن يعصب غزلها أَي يجمع ثمَّ يصْبغ ثمَّ ينسج، وَقيل: هِيَ مخططة.
وَفِي ( الْمُنْتَهى) العصب فِي اللُّغَة إحكام الْقَتْل والطي وَشدَّة الْجمع واللي وكل شَيْء أحكمته فقد عصبته، وَمِنْه أَخذ عصب الْيمن، وَهُوَ: المفتول من برودها، والعصب الْخِيَار، وَفِي ( الْمُحكم) وَلَيْسَ من برود الرقم، وَلَا يجمع إِنَّمَا يُقَال: برد عصب وبرود وَعصب، وَرُبمَا اكتفوا بِأَن يَقُولُوا عَلَيْهِ العصب لِأَن الْبرد عرف بذلك زَاد فِي ( الْمُخَصّص) لَا يثنى وَلَا يجمع لِأَنَّهُ أضيف إِلَى الْفِعْل، إِنَّمَا الْعلَّة فِيهِ بِالْإِضَافَة إِلَى الْجِنْس.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: السَّحَاب كاللطخ، عصب، قَالَ الْقَزاز: وَكَانَ الْمُلُوك يلبسونها، وروى عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه أَرَادَ أَن ينْهَى عَن عصب الْيمن،.

     وَقَالَ : تثبت أَنه يصْبغ ثمَّ بالبول، ثمَّ قَالَ: نهينَا عَن التعمق، وَفِي حَدِيث ثَوْبَان: اشْتَرِ لفاطمة قلادة من عصب، قَالَ الْخطابِيّ: إِن لم تكن الثِّيَاب اليمانية فَلَا أَدْرِي، وَمَا أرى أَن القلادة تكون مِنْهَا.

     وَقَالَ  أَبُو مُوسَى ذكر لي بعض أهل الْيمن أَنه سنّ دَابَّة بحريّة تسمى فرس فِرْعَوْن يتَّخذ مِنْهَا الخرز وَغَيره يكون أَبيض.
قَوْله: ( فِي نبذة) بِضَم النُّون، وَفتحهَا وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالذال الْمُعْجَمَة، وه الشَّيْء الْيَسِير، وَالْمرَاد بِهِ الْقطعَة، قَالَ ابْن سَيّده: وَالْجمع إنباذ.
قَوْله: ( كسبت أظفار) كَذَا هُوَ فِي هَذِه الرِّوَايَة،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: صَوَابه، قسط ظفار، مَنْسُوب إِلَى ظفار، وَهِي سَاحل من سواحل عدن.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: هِيَ مَدِينَة بِالْيمن، وَالَّذِي فِي مُسلم قسط وأظفار، وَهُوَ الْأَحْسَن فَإِنَّهَا نَوْعَانِ قيل: هُوَ شَيْء من الْعطر أسود الْقطعَة مِنْهُ شَبيهَة بالظفر، وَهُوَ بخور رخص فِيهِ للمغتسلة من الحيث لإِزَالَة الرَّائِحَة الكريهة،.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: ظفار، وبفتح أَوله وَفِي آخِره رَاء مَكْسُورَة مَبْنِيّ على الْكسر، وَهُوَ مَدِينَة بِالْيمن، وَبهَا قصر الملكة، وَيُقَال: إِن الْجِنّ بنتهَا وَعَن الصغاني، ظفار فِي الْيمن أَرْبَعَة مَوَاضِع: مدينتان وحصتان أما المدينتان.
فإحداهما: ظفار الحقل، كَانَ ينزلها التابعية، وَهِي على مرحلَتَيْنِ من صنعاء وإليها ينْسب الْجزع، وَالْأُخْرَى: ظفار السَّاحِل، قرب مرابط، وإليها ينْسب الْقسْط: يجلب إِلَيْهَا من الْهِنْد، والحصتان: أَحدهمَا: فِي يماني صنعاء، على مرحلَتَيْنِ؟ وَيُسمى: ظفار الواديين.
وَالثَّانِي: فِي بِلَاد هَمدَان وَيُسمى: ظفار الطَّاهِر، وَفِي ( الْمُحكم) الظفر ضرب من الْعطر أسود مُقَلِّب من أَصله على شكل ظفر الْإِنْسَان يوضع فِي الدخنة، وَالْجمع أظفار وأظافير.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْعين) لَا وَاحِد لَهُ، وظفّر ثَوْبه.
طيبه الظفر، وَفِي ( الْجَامِع) الْأَظْفَار شَيْء من الْعطر يشبه الْأَظْفَار يتَّخذ مِنْهَا مَعَ الأخلاط وَلَا يفرد وَاحِدهَا: وَأَن أفرد فَهُوَ أظفارة.
وَفِي كتاب ( الطّيب) للمفضل بن سَلمَة، الْقسْط والكسط والكشط، ثَلَاث لُغَات قَالَ: وَهُوَ من طيب الأعربا، وَسَماهُ ابْن البيطار فِي كتاب ( الْجَامِع) راسناً أَيْضا وَفِي كتاب أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ، قَالَ الْأَزْهَرِي، واحده ظفر،.

     وَقَالَ  غَيره الْأَظْفَار، شَيْء من الْعطر.

     وَقَالَ  الإِمَام إِسْمَاعِيل: الْأَظْفَار شَيْء يتداوى بِهِ كَأَنَّهُ عود وَكَأَنَّهُ يثقب وَيجْعَل فِي القلادة، وَفِي أثبت الرِّوَايَات: ( من جزع ظفار) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: ( ظفاري) .

ذكر مَعَانِيه وَإِعْرَابه قَوْلهَا: ( كُنَّا ننهى) ، بِضَم النُّون الأولى على صِيغَة الْمَجْهُول، والناهي هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا دلّت عَلَيْهِ رِوَايَة هِشَام الْمُعَلقَة الْمَذْكُورَة فِي آخر الحَدِيث، وَهَذِه الصِّيغَة فِي حكم الْمَرْفُوع، وَكَذَلِكَ، كنار وَكَانُوا، وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ وَقع فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقررهم عَلَيْهِ فَهُوَ مَرْفُوع.
معنى: قَوْله: ( أَن تحد) كلمة أَن مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: كُنَّا ننهى عَن الْإِحْدَاد.
قَوْله: ( فَوق ثَلَاث) يَعْنِي بِهِ اللَّيَالِي مَعَ أَيَّامهَا وَلذَلِك أنث الْعدَد.
قَوْله: ( إِلَّا على زوج) كَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: إلاَّ على زَوجهَا الأول مُوَافق للفظ: تحد غَائِبَة.
وَالثَّانِي: بِصِيغَة الْمُتَكَلّم قَالَه الْكرْمَانِي: وَيُقَال: تَوْجِيه الثَّانِي أَن الضَّمِير يعود على الْوَاحِدَة المندرجة فِي قَوْلهَا: ( كُنَّا ننهى) أَي: كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ.
قَوْله: ( وَعشرا) أَي: عشر لَيَال، إِذا وَأُرِيد بِهِ الْأَيَّام لقيل: ثَلَاثَة بِالتَّاءِ،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: فِي قَوْله تَعَالَى: { أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} ( سُورَة الْبَقَرَة: 234) لَو قلت فِي مثله: عشرَة، لخرج من كَلَام الْعَرَب، لَا نراهم قطّ يستعملون التَّذْكِير فِيهِ،.

     وَقَالَ  الْفرق بَين الْمُذكر والمؤنث فِي الإعداد إِنَّمَا هُوَ عِنْد ذكر الْمُمَيز أما لَو لم يذكر جَازَ فِيهِ التَّاء وَعَدَمه مُطلقًا فَإِن قلت: وَعشرا مَنْصُوب بِمَاذَا؟ قلت: هُوَ عطف على قَوْله: أَرْبَعَة وَهُوَ مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة.
قَوْله: ( وَلَا تكتحل) بِالرَّفْع، ويروي بِالنّصب، فتوجيهه أَن تكون لَا زَائِدَة وتأكيداً فَإِن قلت: لَا، لاتؤكد إلاَّ إِذا تقدم النَّفْي عَلَيْهِ.
قلت: تقدم معنى النَّفْي وَهُوَ النَّهْي.
قَوْله: ( وَقد رخص) أَي: التَّطَيُّب.

ذكر استنباط الْأَحْكَام.
الأول: وجوب الْإِحْدَاد على كل من هِيَ ذَات زوج، سَوَاء فِيهِ الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا، وَالصَّغِيرَة والكبيرة، وَالْبكْر وَالثَّيِّب، والحرة وَالْأمة، وَعند أبي حنيفَة: لَا إحداد على الصَّغِيرَة وَلَا على الزَّوْجَة الْأمة، وَأَجْمعُوا أَن لَا إحداد على أم الْوَلَد وَالْأمة إِذا توفّي عَنْهَا سَيِّدهَا، وَلَا على الرَّجْعِيَّة، وَفِي الْمُطلقَة ثَلَاثًا قَولَانِ،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة، وَالْحكم أَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد: عَلَيْهَا الْإِحْدَاد، وَهُوَ قَول ضَعِيف للشَّافِعِيّ،.

     وَقَالَ  عَطاء وَرَبِيعَة وَمَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْمُنْذر: بِالْمَنْعِ، وَحكي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد على الْمُطلقَة وَلَا على المتوفي عَنْهَا زَوجهَا، وَهُوَ شَاذ.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: أَجمعُوا على وجوب الْإِحْدَاد، إلاَّ الْحسن فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِب، وَتعلق أَبُو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر وَمَالك فِي أحد قوليه، وَابْن كنَانَة وَابْن نَافِع وَأَشْهَب بِأَن لَا إحداد على الْكِتَابِيَّة المتوفي عَنْهَا زَوجهَا الْمُسلم بقوله فِي الحَدِيث: ( لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد) الحَدِيث،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي وَعَامة أَصْحَاب مَالك: عَلَيْهَا الْإِحْدَاد سَوَاء دخل بهَا أَو لم يدْخل بهَا.
فَإِن قلت: لم خص الْأَرْبَعَة الْأَشْهر وَالْعشرَة؟ قلت: لِأَن غَالب الْحمل تبين حركته فِي هَذِه الْمدَّة، وأنث الْعشْر، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْأَيَّام بلياليها، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ مَا حُكيَ عَن يحيى بن أبي كثير، والأزاعي أَنه أَرَادَ أَرْبَعَة أشهر وَعشر لَيَال، وَإِنَّهَا تحل فِي الْيَوْم الْعَاشِر، وَعند الْجُمْهُور: لَا تحل حَتَّى تدخل اللَّيْلَة الْحَادِي عشر، وَهَذَا خرج على غَالب أَحْوَال المعتدات أَنَّهَا تَعْتَد بِالْأَشْهرِ، أما إِذا كَانَت حَامِلا فعدتها بِالْحملِ ويلزمها الْإِحْدَاد فِي جَمِيع الْمدَّة حَتَّى تضع، سَوَاء قصرت الْمدَّة أم طَالَتْ، فَإِذا وضعت فَلَا إحداد بعده.

     وَقَالَ  بعض الْعلمَاء: لَا يلْزمهَا الْإِحْدَاد بعد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَإِن لم تضع الْحمل.

الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم الْكحل سَوَاء احْتَاجَت إِلَيْهِ أم لَا، وَجَاء فِي ( الْمُوَطَّأ) وَغَيره عَن أم سَلمَة: إجعليه بِاللَّيْلِ وامسحيه بِالنَّهَارِ.
وَوجه الْجمع إِذا لم تحتج إِلَيْهِ لَا يحل لَهَا فعله، وَإِن احْتَاجَت لم يجز بِالنَّهَارِ دون اللَّيْل، وَالْأولَى تَركه لحَدِيث: إِن ابْنَتي اشتكت عينهَا أفنكحلها؟ قَالَ: لَا، وَلِهَذَا إِن سالما وَسليمَان بن يسَار قَالَا: إِذا خشيت على بصرها إِنَّهَا تكتحل وتتداوى بِهِ وَإِن كَانَ مطيباً، وَجوزهُ مَالك فِيمَا حَكَاهُ الْبَاجِيّ تكتحل بِغَيْر مُطيب.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) وَالْمرَاد بالكحل الْأسود والأصفر، أما الْأَبْيَض كالتوتيا وَنَحْوه فَلَا تَحْرِيم فِيهِ عِنْد أَصْحَابنَا إِذْ لَا زِينَة فِيهِ، وَحرمه بَعضهم على الشعْثَاء حَتَّى تتزين.

الثَّالِث: فِيهِ تَحْرِيم الطّيب، وَهُوَ مَا حرم عَلَيْهَا فِي حَال الْإِحْرَام وَسَوَاء ثوبها وبدنها.
وَفِي ( التَّوْضِيح) يحرم عَلَيْهَا أَيْضا كل طَعَام فِيهِ طيب.

الرَّابِع: فِيهِ تَحْرِيم لبس الثِّيَاب المعصفرة،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء، على أَنه لَا يجوز للحادة لبس الثِّيَاب المعصفرة والمصبغة، إلاَّ مَا صبع بسواد، فَرخص فِيهِ عُرْوَة العصب، وَأَجَازَهُ الزُّهْرِيّ وَأَجَازَ مَالك تخليطه، وَصحح الشَّافِعِيَّة تَحْرِيم البرود مُطلقًا، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لمن أجَازه نعم، أجازوه فِيمَا إِذا كَانَ الصَّبْغ لَا يقْصد بِهِ الزِّينَة، بل يعْمل للمصيبة وَاحْتِمَال الْوَسخ كالأسود، والكحل، بل هُوَ أبلغ فِي الْحداد بل حكى الْمَاوَرْدِيّ وَجها أَنَّهَا يلْزمهَا فِي الْحداد، أَعنِي: الْأسود.

الْخَامِس: فِيهِ الترخيص للحادة إِذا اغْتَسَلت من الْحيض لإِزَالَة الرَّائِحَة الكريهة،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ وَلَيْسَ الْقسْط والظفرة مَقْصُودا للتطييب، وَإِنَّمَا رخص فِيهِ لإِزَالَة الرَّائِحَة،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: رخص لَهَا فِي التبخرية لدفع رَائِحَة الدَّم عَنْهَا، لما تستقبله من الصَّلَاة.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: أُبِيح للحائض، محداً أَو غير محد عِنْد غسلهَا من الْحيض أَن تدرأ رَائِحَة الدَّم عَن نَفسهَا بالبخور بالقسد مُسْتَقْبلَة للصَّلَاة ومجالسة الْمَلَائِكَة لِئَلَّا تؤذيهم رَائِحَة الدَّم.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ فِي ( شرح مُسلم) الْمَقْصُود بِاسْتِعْمَال الْمسك إِمَّا تطييب الْمحل وَدفع الرَّائِحَة الكريهة، وَإِمَّا كَونه أسْرع إِلَى علوق الْوَلَد، أَن قُلْنَا بِالْأولِ يقوم مقَامه الْقسْط والأظفار، وشبههما.
قلت: كَلَامه يدل على أَن الْأَظْفَار، بِالْهَمْز، طيب لَا مَوضِع.

السَّادِس: فِيهِ تَحْرِيم إتباع النِّسَاء الْجَنَائِز، وسنذكره مفصلا فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قالَ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمَّ عَطِيَّةَ عَنِ النَّبيِّ لله
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره وَرَوَاهُ، أَي: روى هِشَام الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه مَوْصُول، وَرَوَاهُ فِي كتاب الطَّلَاق مَوْصُولا من حَدِيث هِشَام الْمَذْكُور على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَهُوَ إِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَإِمَّا مقول حَمَّاد، فَيكون مُسْندًا قلت: قَوْله إِمَّا تَعْلِيق فَظَاهر.
وَأما قَوْله: وَإِمَّا مقول حَمَّاد فَلَا وَجه لَهُ وَفِي نُسْخَة ذكر البُخَارِيّ حَدِيث هِشَام أَولا وَفِي بَعْضهَا ذكره آخر أَو قَالَ مُسلم فِي ( صَحِيحه) حَدثنَا حسن بن الرّبيع حَدثنَا ابْن إِدْرِيس: قَالَ: حَدثنَا هِشَام عَن حَفْصَة بِهِ، وَفَائِدَته بَيَان أَن أم عَطِيَّة أسندته إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَرِيحًا، وَكَذَا هُوَ فِي ( سنَن أبي دَاوُد) وَالنَّسَائِيّ ابْن مَاجَه من حَدِيث هِشَام مُسْندًا.
.

     وَقَالَ  البُخَارِيّ فِي مَوضِع آخر: ( توفّي ابْن لأم عَطِيَّة، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث دعت بصفرة فتمسحت بِهِ،.

     وَقَالَ ت: نهينَا أَن نحد أَكثر من ثَلَاث إلاَّ لزوج)
وَعند الطَّبَرَانِيّ: ( وأمرنا أَن لَا نلبس فِي الْإِحْدَاد الثِّيَاب المصبغة إلاَّ العصب، وأمرنا أَن لَا نمس طيبا إلاَّ أدناه للطهرة، الكست والأظفار) وَفِي لفظ: ( وَلَا نختضب) وَفِي لفظ: ( إلاَّ ثوبا مغسولاً) .