فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض، وكيف تغتسل، وتأخذ فرصة ممسكة، فتتبع أثر الدم

(بابُُ دَلْكِ المَرْأَةِ نَفْسَها أذَا تَطَهَّرَتْ مِنَ المَحِيضِ وَكَيْفَ تَغْتَسِلُ وَتَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَتَّبِعُ بِهَا أَثَرَ الدَّمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان اسْتِحْبابُُ ذَلِك الْمَرْأَة نَفسهَا إِذا تطهرت من الْمَحِيض، أَي: الْحيض.
قَوْله: (وَكَيف تَغْتَسِل) عطف على قَوْله: (دلك الْمَرْأَة نَفسهَا) أَي: وَفِي بَيَان كَيفَ تَغْتَسِل الْمَرْأَة.
قَوْله: (وَتَأْخُذ) عطف على قَوْله: (تَغْتَسِل) أَي: وَكَيف تَأْخُذ فرْصَة، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَهِي الْقطعَة، يُقَال فرصت الشَّيْء فرصاً أَي: قطعته،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي هِيَ قِطْعَة قطن أَو خرقَة تمسح بهَا الْمَرْأَة من الْحيض.
قَوْله: (ممسكة) بتَشْديد السِّين وَفتح الْكَاف، وَلها مَعْنيانِ: أَحدهمَا: قِطْعَة فِيهَا مسك.
وَالْآخر: خرقَة مستعملة بالإمساك عَلَيْهَا، على مَا سنوضح ذَلِك عَن قريب.
قَوْله: (فتتبع بهَا) أَي: بِتِلْكَ الفرصة وَفِي بعض النّسخ: (تتبعبدون الْفَاء، وَهُوَ بِلَفْظ الغائبة مضارع الْفِعْل، وَأَصله بالتاآت الثَّلَاث، فحذفت إِحْدَاهَا فَافْهَم.

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ ظَاهِرَة فِي كل مِنْهُمَا اسْتِعْمَال الطّيب.



[ قــ :310 ... غــ :314 ]
- حدّثنا يَحْيَىَ قالَ حدّثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَةَ عَنْ أُمَّهُ عَنْ عائِشَةَ أنَّ امرَأَةَ سَأَلَتْ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ غُسْلِها مِنَ المَحِيضِ فَأَمَرها كَيْفَ تَغْتَسِلُ قالَ خُذِي فُرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتٍّ طَهَّرِي بِا قالَتْ كَيْفَ تَطَهَّرُ قالَ تَطَهَّرِي بِها قالَتْ كَيْفَ قالَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي فاجْتبَذْتُها إلَيَّ فقُلْتُ تَنَبَّعِي بِها أَثَرَ الدَّمَ.

ي: 315، 7357) [/ ح.


مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة إلاَّ فِي الدَّلْك وَكَيْفِيَّة الْغسْل صَرِيحًا، لِأَن التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على الدَّلْك أَولا، وَكَيْفِيَّة الْغسْل وَأخذ الفرصة الممسكة، والتتبع بهَا أثر الدَّم، والْحَدِيث أَيْضا مُشْتَمل على هَذِه الْأَشْيَاء مَا خلا الدَّلْك، وَكَيْفِيَّة الْغسْل، فَإِنَّهُ لَا يدل عَلَيْهَا صَرِيحًا، وَيدل على الدَّلْك بطرِيق الاستلزام، لِأَن تتبع الدَّم يسْتَلْزم الدك، وَهُوَ طَاهِر، وَأما كَيْفيَّة الْغسْل فَالْمُرَاد بهَا الصّفة المختصة لغسل الْمَحِيض، وهوالتطيب لانفس الِاغْتِسَال، وَلَئِن سلمنَا أَن المُرَاد بالكيفية نفس الْغسْل فَهِيَ فِي أصل الحَدِيث الَّذِي ذكره وَاكْتفى بِهِ على عَادَته بِذكر تَرْجَمَة، وَيذكر فِيهَا مَا تضمنه بعض طرق الحَدِيث الَّذِي يذكرهُ إِمَّا لكَون تِلْكَ الطَّرِيق على غير شَرطه، أَو باكتفائه بِالْإِشَارَةِ أَو لغير ذَلِك من الْأَغْرَاض، وَتَمَامه عِنْد مُسلم، فَإِنَّهُ أخرجه من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور الَّتِي أخرجه مِنْهَا البُخَارِيّ فَذكره بعد قَوْله: (كَيفَ تَغْتَسِل، ثمَّ تَأْخُذ) ، ثمَّ رَوَاهُ من طرق أُخْرَى عَن صَفِيَّة عَن عَائِشَة، وفيهَا كَيْفيَّة الِاغْتِسَال وَلَفظه: (فَقَالَ: تَأْخُذ إحداكن ماءها وسدرها فَتطهر فتحسن الطّهُور ثمَّ تصب على رَأسهَا فتدلكه دلكا شَدِيدا حَتَّى تبلغ شؤون رَأسهَا.
(أَي: أُصُوله ثمَّ تصب عَلَيْهَا المَاء، ثمَّ تَأْخُذ فرْصَة) فَذكر الحَدِيث، وَإِنَّمَا لم يخرج البُخَارِيّ هَذَا الطَّرِيق لكَونه من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن صَفِيَّة، وَلَيْسَ هُوَ على شَرطه.

     وَقَالَ  البُخَارِيّ عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ لإِبْرَاهِيم هَذَا نَحْو أَرْبَعِينَ حَدِيثا.

     وَقَالَ  ابْن مهْدي: قَالَ سُفْيَان: لَا بَأْس بِهِ.

     وَقَالَ  أَحْمد لَا بَأْس بِهِ.
.

     وَقَالَ  يحيى بن سعيد الْقطَّان: لم يكن يُقَوي، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الضُّعَفَاء.

ذكر رِجَاله وهم حمسة: الأول: يحيى هُوَ ابْن مُوسَى الْبَلْخِي، وَجزم بِهِ ابْن السكن فِي رِوَايَته عَن الْفربرِي،.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ هُوَ يحيى بن جَعْفَر.
.

     وَقَالَ  الغساني: فِي (تَقْيِيد المهمل) قَالَ ابْن السكن: يحيى هُوَ ابْن عُيَيْنَة الْمَذْكُور فِي بابُُ الْحيض هُوَ: يحيى ابْن مُوسَى،.

     وَقَالَ  فِي مَوضِع آخر مِنْهُ على سَبِيل الْقَاعِدَة الْكُلية، كل مَا كَانَ للْبُخَارِيّ فِي هَذَا الصَّحِيح عَن يحيى غير مَنْسُوب فَهُوَ يحيى بن مُوسَى الْبَلْخِي المعروق ببخت، بِفَتْح الْخَاء المنقوطة وَشدَّة الْمُثَنَّاة من فَوق؛ وَيعرف بالخنثى، وبابُن خت أَيْضا، كَانَ من خِيَار الْمُسلمين، مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ،.

     وَقَالَ : وَذكر أَبُو نصر الكلاباذي أَنه يحيى بن جَعْفَر أَي: البيكندي، يروي عَن ابْن عُيَيْنَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ الَّتِي عندنَا هَكَذَا: حَدثنِي يحيى بن البيكندي: حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة،.

     وَقَالَ  صَاحب (التَّوْضِيح) وَوَقع فِي شرح بعض شُيُوخنَا، حَدثنَا يحيى يَعْنِي ابْن مُعَاوِيَة بن أعين، وَلَا أعلم فِي البُخَارِيّ من اسْمه كَذَلِك وَفِي (أَسمَاء رجال الصَّحِيحَيْنِ) يحيى بن مُوسَى بن عبد ربه بن سَالم أَبُو زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الحذائي الْبَلْخِي: يُقَال لَهُ: خت، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْبيُوع وَالْحج ومواضع، وَذكر ابْن مَاكُولَا فِي بابُُ: خت وخب وثب، أما خت بخاء مُعْجمَة وتاء مُعْجمَة بِاثْنَتَيْنِ من فَوْقهَا.
فَهُوَ يحيى بن مُوسَى يعرف بِابْن الْبَلْخِي بِابْن خت الْبَلْخِي.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث: مَنْصُور بن صَفِيَّة.
الرَّابِع: صَفِيَّة بنت شيبَة.
الْخَامِس: عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَوَقع فِي (مُسْند الْحميدِي) التَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ فِي جَمِيع السَّنَد.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي ومكي.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن وهيب، وَفِي الِاعْتِصَام عَن مُحَمَّد بن عُيَيْنَة عَن فضل بن سُلَيْمَان، وَفِيهِمَا جَمِيعًا عَن يحيى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، ثَلَاثَتهمْ عَن مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ مَنْصُور بن صَفِيَّة، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عمر، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أَحْمد بن سعيد الدَّارمِيّ عَن حبَان بن هِلَال عَن وهيب بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد عَن عَفَّان عَن وهيب بِهِ.

ذكر لغاته قَوْله: (فرْصَة) الْمَشْهُور فِيهِ كسر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء.
قَالَ مُسَدّد كَانَ أَبُو عوَانَة يَقُول: فرْصَة، وَكَانَ أَبُو الْأَحْوَص يَقُول: فرْصَة.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: فرص الْجلد فرصاً، قِطْعَة، والمفراص الحديدة الَّتِي يقطع بهَا، والفرصة والفرصة والفرصة الأخيرتان عَن كرَاع الْقطعَة من الصُّوف أَو الْقطن،.

     وَقَالَ  كرَاع، هِيَ: الفرصة: بِالْفَتْح والفرصة، الْقطعَة من الْمسك عَن الْفَارِسِي، حَكَاهُ فِي البصريات،.

     وَقَالَ  أبوعلي الهجري فِي كتاب (الأمالي) وَقد فرص يفرص لزيد من حَقه يَعْنِي قطع لَهُ مِنْهُ شَيْئا.

     وَقَالَ  أَبُو سُلَيْمَان: يفرص وأفرص لزيد فريصة من حَقه، بجر الْفَاء لَا اخْتِلَاف فِيهَا، وافترص لي من حَقي فرْصَة، الفرصة الْخِرْقَة الَّتِي تستعملها الْحَائِض لتعرق التبرأة ونقاءها عِنْد الْحيض فِي آخِره وَفِي (غَرِيب) أبي عبيد هِيَ: الْقطعَة من الصُّوف أَو الْقطن أَو غير ذَلِك.
وَفِي (الباهر) لِابْنِ عديس، والفرص بِالْكَسْرِ وَالصَّاد: جمع الفرصة، وَهِي الْقطعَة من الْمسك، وَأنكر ابْن قُتَيْبَة كَونهَا بِالْفَاءِ،.

     وَقَالَ : إِنَّمَا هِيَ فرْصَة بِالْقَافِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهِي الْقطعَة.

     وَقَالَ  بَعضهم إِنَّمَا هِيَ: فرْصَة، بقاف وصاد مُهْملَة.

     وَقَالَ  الْمُنْذِرِيّ أَي شَيْئا يَسِيرا مثل الفرصة، بِطرف الإصبعين.
قَوْله: (من مسك) يَعْنِي دم الغزال الْمَعْرُوف.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: ميمه مَفْتُوحَة، أَي: جلد عَلَيْهِ شعر.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وأنكرها ابْن قُتَيْبَة.

     وَقَالَ : الْمسك لم يكن عِنْدهم من السعَة بِحَيْثُ يمتهنونه فِي هَذَا، وَالْجَلد لَيْسَ فِيهِ مَا يُمَيّز غَيره فَيخْتَص بِهِ قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ فرْصَة من شَيْء صوف أَو قطن أَو خرقَة أَو نَحوه، يدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى: فرْصَة ممسكة بِضَم الْمِيم الأولى وَفتح الثَّانِيَة وَتَشْديد السِّين مَعَ فتحهَا: أَي قِطْعَة من صوف أَو نَحْوهَا مطيبة بالمسك، وروى بَعضهم: ممسكة، بِضَم الْمِيم الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وسين مُخَفّفَة مَفْتُوحَة، وَقيل: مكسوة أَي: من الْإِمْسَاك وَفِي بعض الرِّوَايَات: (خذي فرْصَة ممسكة فتحملي بهَا) قيل: أَرَادَ الْخلق الَّتِي أَمْسَكت كثيرا.
فَإِنَّهُ أَرَادَ أَن لَا تسْتَعْمل الْجَدِيد من الْقطن وَغَيره للارتقاق بِهِ، وَلِأَن الْخلق أصلح لذَلِك، وَوَقع فِي كتاب عبد الرَّزَّاق يَعْنِي بالفرصة: الْمسك، قَالَ بَعضهم هِيَ: الذريرة، وَفِي الْأَوْسَط للطبراني: (خذي سكيكك) .

ذكر مَعَانِيه قَوْلهَا: (إِن امْرَأَة) زَاد فِي رِوَايَة وهيب: (من الْأَنْصَار) وسماها مُسلم فِي رِوَايَة الْأَحْوَص عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر أَسمَاء بنت شكل، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْكَاف وَفِي آخِره لَام، وَلم يسم أَبَاهَا فِي رِوَايَة غنْدر عَن شُعْبَة عَن إِبْرَاهِيم.
.

     وَقَالَ  الْخَطِيب: أَسمَاء بنت يزِيد، وَجزم بِهِ الْأَنْصَارِيَّة الَّتِي يُقَال لَهَا خطيبة النِّسَاء وَتَبعهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّنْقِيح) والدمياطي وَزَاد أَن وَقع فِي مُسلم تَصْحِيف، وَيحْتَمل أَن يكون شكل، لقيا لَا إسماً، وَالْمَشْهُور فِي المسانيد والمجامع فِي هَذَا الحَدِيث أَسمَاء بنت شكل، كَمَا فِي مُسلم، وَأَسْمَاء بِغَيْر نسب كَمَا فِي أبي دَاوُد، وَكَذَا فِي (مستخرج) أبي نعيم من الطَّرِيق الَّتِي أخرجه مِنْهَا الْخَطِيب، وَحكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) الْوَجْهَيْنِ من غير تَرْجِيح، وَتبع رِوَايَة مُسلم جماعات مِنْهُم ابْن طَاهِر وَأَبُو مُوسَى فِي كِتَابه معرفَة الصَّحَابَة، وَصوب بعض الْمُتَأَخِّرين مَا قَالَه الْخَطِيب لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَنْصَار من اسْمه، شكل، وَفِي (التَّوْضِيح) بنت يزِيد، وَلم ينْفَرد مُسلم بذلك،، فقد أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُسْنده) وَأَبُو نعيم فِي (مستخرجه) كَمَا ذكره مُسلم سَوَاء، قَوْلهَا: (من الْمَحِيض) وَفِي رِوَايَة: (من الْحيض) وَكِلَاهُمَا مصدران قَوْلهَا: (قَالَ: خذي) هُوَ بَيَان لأمرها.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يكون بَيَانا للاغتسال وَهُوَ إِيصَال المَاء إِلَى جَمِيع الْبشرَة لَا أَخذ الفرصة؟ قلت: السُّؤَال لم يكن عَن نفس الِاغْتِسَال، لِأَن ذَلِك مَعْلُوما لكل أحد، بل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك مُخْتَصًّا بِغسْل الْحيض فَلذَلِك أجَاب بِهِ، أَو هُوَ جملَة حَالية لَا بَيَانِيَّة انْتهى.
قلت: هَذَا الْجَواب غير كَاف لِأَنَّهَا سَأَلت عَن غسلهَا من الْمَحِيض، وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ سؤالاً عَن مَاهِيَّة الِاغْتِسَال، فَلذَلِك قَالَ: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوَابه إِيَّاهَا: فَأمرهَا كَيفَ تَغْتَسِل، يَعْنِي قَالَ لَهَا: اغْتَسِلِي كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا بِمَعْنَاهُ ثمَّ قَول: (خذي فرْصَة من مسك) لَيْسَ بِبَيَان للاغتسال الْمَعْهُود، وَقَوله لِأَن ذَلِك مَعْلُوم لكل أحد.
فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن لَا يكون مَعْلُوما لَهَا على مَا يَنْبَغِي، أَو كَانَ فِي اعتقادها أَن الْغسْل عَن الْمَحِيض خلاف الْغسْل عَن الْجَنَابَة، فَلذَلِك قَالَت عَائِشَة: سَأَلت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن غسلهَا من الْمَحِيض، وَالْأَوْجه عِنْدِي أَن الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ مُخْتَصر عَن أصل هَذَا الحَدِيث، وَفِيه بَيَان كَيْفيَّة الْغسْل وَغَيره على مَا رَوَاهُ مُسلم: أَن أَسمَاء سَأَلت عَن غسل الْمَحِيض.
فَقَالَ: تَأْخُذ إحداكن ماءها وسدرها فَتطهر فتحسن الطّهُور، ثمَّ تصب على رَأسهَا فتدلكه دلكا شَدِيدا حَتَّى تبلغ شؤون رَأسهَا، ثمَّ تصب عَلَيْهَا المَاء، ثمَّ تَأْخُذ فرْصَة ممسكة فَتطهر بهَا، فَقَالَت أَسمَاء: وَكَيف أتطهر بهَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ الله تطهرين بهَا.
فَقَالَت عَائِشَة، كَأَنَّهَا تحفى ذَلِك: تتبعين بهَا أثر الدَّم، وَسَأَلته غسل الْجَنَابَة فَقَالَ: تَأْخُذ مَاء، فَتطهر فتحسن الطّهُور، أَو تبلغ الطّهُور ثمَّ تصب على رَأسهَا فتدلكه حَتَّى تبلغ شؤون رَأسهَا ثمَّ تفيض عَلَيْهَا المَاء.
فَقَالَت عَائِشَة: نعم النِّسَاء نسَاء الْأَنْصَار لم يكن يمنعهن الْحيَاء أَن يتفقهن فِي الدّين.
قَوْلهَا: (فتطهري بهَا) قَالَ: فِي الرِّوَايَة الَّتِي بعْدهَا: (فتوضئي ثَلَاثًا) .
قَوْله: (سُبْحَانَ الله) وَزَاد فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة، (ثمَّ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استحيا فَأَعْرض بِوَجْهِهِ) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَلَمَّا رَأَيْته يستحي علمتها) وَزَاد الدَّارمِيّ: (وَهُوَ يسمع وَلَا يُنكر) ، وَقد ذكرنَا: أَن: سُبْحَانَ الله، فِي مثل هَذَا الْموضع يُرَاد بهَا التَّعَجُّب، وَمعنى التَّعَجُّب هُنَا: كَيفَ يحفى مثل هَذَا الظَّاهِر الَّذِي لَا يحْتَاج الْإِنْسَان فِي فهمه إِلَى فكر؟ قَوْله: (فجذبتها) وَفِي بعض الرِّوَايَة: (فاجتبذنها) وَفِي رِوَايَة: (فاجتذبتها) يُقَال: جذبت واجتذبت واجتبذ، وَهُوَ مقول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: (تتبعي) أَمر من التتبع، وَهُوَ المُرَاد من تطهري.
قَوْله: (أثر الدَّم) مقول: تتبعي،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: المُرَاد بِهِ عِنْد الْعلمَاء، الْفرج،.

     وَقَالَ  المحاميل: يسْتَحبّ لَهَا أَن تطيب كل مَوضِع أَصَابَهُ الدَّم من بدنهَا، قَالَ، وَلم أره لغيره، وَيُؤَيّد مَا قَالَه الْمحَامِلِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ، (تتبعي بهَا مَوَاضِع الدَّم) .
بَيَان استنباط الْأَحْكَام فِيهِ: اسْتِحْبابُُ التَّطَيُّب للمغتسلة من الْحيض وَالنّفاس على جَمِيع الْمَوَاضِع الَّتِي أَصَابَهَا الدَّم من بدها قَالَ المحالي: لِأَنَّهُ أسْرع إِلَى الْعلُوق وأدفع للرائحة الكريهة، وَاخْتلف فِي وَقت اسْتِعْمَالهَا لذَلِك: فَقَالَ بَعضهم: بعد الْغسْل،.

     وَقَالَ  آخرونه قبله.
وَفِيه: أَنه لَا عَار على من سَأَلَ عَن أَمر دينه.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ تطييب فرج الْمَرْأَة يَأْخُذ قِطْعَة من صوف وَنَحْوهَا، وَتجْعَل عَلَيْهَا مسكاً أَو نَحوه وَتدْخلهَا فِي فرجهَا بعد الْغسْل، وَالنُّفَسَاء مثلهَا.
وَفِيه: التَّسْبِيح عِنْد التَّعَجُّب.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ الْكِنَايَات بِمَا يتَعَلَّق بالعورات.
وَفِيه: سُؤال الْمَرْأَة الْعَالم عَن أحوالها الَّتِي تحتشم مِنْهَا وَلِهَذَا قَالَت عَائِشَة فِي نسَاء الْأَنْصَار: (لم يمنعهن الحاير أَن يتفقهن فِي الدّين) وَفِيه الِاكْتِفَاء بالتعريض وَالْإِشَارَة فِي الْأُمُور المستهجنة.
وَفِيه: تَكْرِير الْجَواب لإفهام السَّائِل.
وَفِيه: تَفْسِير كَلَام الْعَالم بِحَضْرَتِهِ لمن خَفِي عَلَيْهِ إِذا عرف أَن ذَلِك يُعجبهُ.
وَفِيه: أَن السَّائِل إِذا لم يفهم فهمه بعض من فِي مجْلِس الْعَالم والعالم يسمع، وَأَن ذَلِك سَماع من الْعَالم يجوز أَن يَقُول فِيهِ: حَدثنِي وَأَخْبرنِي.
وَفِيه: الْأَخْذ عَن الْمَفْضُول مَعَ وجود الْفَاضِل وحضرته.
وَفِيه: صِحَة الْعرض على الْمُحدث إِذا أقره، وَلَو لم يقل عَقِيبه نعم.
وَفِيه: أَنه لَا يشْتَرط فهم السَّامع لجَمِيع مَا يسمعهُ.
وَفِيه: الرِّفْق بالمتعلم وَإِقَامَة الغذر لمن لَا يفهم.
وَفِيه: أَن الْمَرْء مَطْلُوب بستر عيوبه.
وَفِيه: دلَالَة على حسن خلقه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.