فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب}

( بابٌُ {واذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أوَّابٌ} إِلَى قَوْلِهِ {وفَصْلِ الخِطَابِ} ( ص: 71 02) .
)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر عَبدنَا دَاوُد ذَا الأيد إِنَّه أواب أَنا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق وَالطير محشورة كل لَهُ أواب وشددنا ملكه وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب} ( ص: 71 02) .
قَوْله: ( وَاذْكُر عَبدنَا) عطف على مَا قبله وَهُوَ قَوْله: {إصبر على مَا يَقُولُونَ} ( ص: 71) .
خَاطب الله تَعَالَى نبيه بقوله: إصبر على مَا يَقُولُونَ أَي: الْكفَّار، وَاذْكُر عَبدنَا دَاوُد فِي صبره على الْعِبَادَة وَالطَّاعَة.
قَوْله: ( ذَا الأيد) أَي: الْقُوَّة إِنَّه أواب أَي: رَاجع عَن كل مَا يكرههُ الله تَعَالَى.
قَوْله: ( بالْعَشي) ، أَي: بآخر النَّهَار وَالْإِشْرَاق أَوله.
قَوْله: ( وَالطير) ، أَي: وسخرنا لَهُ الطير محشورة أَي: مَجْمُوعَة.
قَوْله: ( كل لَهُ) أَي: كل وَاحِد من الْجبَال وَالطير لَهُ أَي: لداود أواب، أَي: مُطِيع.
قَوْله: ( وشددنا ملكه) ، أَي: ملك دَاوُد، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ دَاوُد أَشد مُلُوك الأَرْض سُلْطَانا كَانَ يحرس محرابه كل لَيْلَة ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ ألف رجل، وَعنهُ: سِتَّة وَثَلَاثُونَ ألف رجل، فَإِذا أَصْبحُوا قيل: إرجعوا فقد رَضِي نَبِي الله مِنْكُم، وَقيل: ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ ألفا من بني إِسْرَائِيل ثمَّ يَأْتِي عوضهم، قَالَ قَتَادَة: فَكَأَن جملَة حرسه مِائَتَان وَثَلَاثُونَ ألف حرس.
قَوْله: ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة) يَعْنِي: النُّبُوَّة وَالزَّبُور وَعلم الشَّرَائِع والإصابة فِي الْأَمر.
قَوْله: ( فصل الْخطاب) ، الْفَصْل: التَّمْيِيز بَين الشَّيْئَيْنِ وَقيل: الْكَلَام الْبَين، والفصل بِمَعْنى المفصول، وَقيل: الْفَصْل بِمَعْنى الْفَاصِل، والفاصل من الْخطاب الَّذِي يفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل وَالصَّحِيح وَالْفَاسِد، وَقيل: فصل الْخطاب هُوَ قَوْله: أما بعد، فَإِنَّهُ أول من قَالَهَا.

قَالَ مُجَاهِدٌ الْفَهْمَ فِي القَضاءِ

أَي: قَالَ مُجَاهِد: فصل الْخطاب هُوَ الْفَهم فِي الْقَضَاء.
وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي بشر عَن مُجَاهِد، قَالَ: الْحِكْمَة الصَّوَاب، وَمن طَرِيق لَيْث عَن مُجَاهِد: فصل الْخطاب: إِصَابَة الْقَضَاء وفهمه.

ولاَ تُشْطِطْ لاَ تُسْرِف
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ وَلَا تشطط واهدنا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط} ( ص: 22) .
وَفسّر: لَا تشطط، بقوله: لَا تسرف.
قَالَ بَعضهم: كَذَا وَقع هُنَا.
قلت: فَكَأَنَّهُ استبعد هَذَا التَّفْسِير، وَقد فسره السّديّ هَكَذَا، وَفَسرهُ أَيْضا بقوله: لَا تحف،.

     وَقَالَ  الْفراء: مَعْنَاهُ لَا تجرُ، وروى ان جرير من طَرِيق قَتَادَة فِي قَوْله: وَلَا تشطط، أَي: لَا تمل، وَعَن المورج: لَا تفرط والشطط مُجَاوزَة الْحَد، وأصل الْكَلِمَة من قَوْلهم: شطت الدَّار وأشطت إِذا بَعدت.

واهْدِنَا إلَى سَواءِ الصِّرَاطِ

هُوَ بعد قَوْله: وَلَا تشطط، وَمَعْنَاهُ: واهدنا إِلَى وسط الطَّرِيق.

{إنَّ هَذَا أخِي لَهُ تَسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَة} ( ص: 32 42) .


نذْكر الْآيَة بِتَمَامِهَا ثمَّ نذْكر مَا ذكره البُخَارِيّ من أَلْفَاظ هَذِه الْآيَة وتمامها: {ولي نعجة وَاحِدَة فَقَالَ اكفلنيها وعزني فِي الْخطاب} ( ص: 32 42) .
وَبعد هَذِه الْآيَة: {قَالَ لقد ظلمك بسؤال نعجتك إِلَى نعاجه وَإِن كثير من الخلطاء ليبغي بَعضهم على بعض إلاَّ الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم وَظن دَاوُد أَنما فتناه فَاسْتَغْفر ربه وخرَّ رَاكِعا وأناب} ( ص: 32 42) .
قَوْله: ( إِن هَذَا أخي) أَي: فِي الدّين، أَو المُرَاد: أخوة الصداقة والألفة وأخوة الشّركَة، وَالْمرَاد من النعجة الْمَرْأَة، وَهَذَا من أحسن التَّعْرِيض حَيْثُ كنى بالنعاج عَن النِّسَاء، وَالْعرب تفعل هَذَا كثيرا، توري عَن النِّسَاء بالظباء وَالشَّاء وَالْبَقر.
يُقالُ لِلْمَرْأةِ نَعْجَةٌ ويُقالُ لَهَا أَيْضا شاةٌ

هَذَا كثير فَاش فِي أشعارهم.
.

     وَقَالَ  الْحُسَيْن بن الْفضل، هَذَا تَعْرِيض للتّنْبِيه والتفهيم لِأَنَّهُ لم يكن هُنَاكَ نعاج، وَإِنَّمَا هَذَا مثل قَول النَّاس: مَا ضرب زيد عمرا، وَمَا كَانَ هُنَاكَ ضرب.

{ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقَالَ أكْفِلْنِيهَا} ( ص: 32) .
مِثْلُ {وكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ} ( آل عمرَان: 73) .
ضَمَّها

أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى الكفل الضَّم، فَلذَلِك قَالَ: إكفلنيها مثل {وكفلها زَكَرِيَّا} ( آل عمرَان: 73) .
أَي: ضم زَكَرِيَّاء مَرْيَم بنت عمرَان إِلَى نَفسه، وَعَن أبي الْعَالِيَة معنى: إكفلنيها ضمهَا إِلَيّ حَتَّى أكفلها.
.

     وَقَالَ  ابْن كيسَان: إجعلها كفلي، أَي: نَصِيبي.

وعَزَّنِي غلَبَنِي صارَ أعَزَّ مِنِّي أعْزَرْتُهُ جَعَلْتُهُ عَزِيزاً فِي الخِطَابِ

قَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَوْله: ( وعزني فِي الْخطاب) ، أَي: صَار أعز مني فِيهِ، وَيُقَال: عزني فِي الْخطاب أَي المحاورة، وَعَن قَتَادَة مَعْنَاهُ: ظَلَمَنِي وقهرني.

يُقالُ الْمُحَاوَرَةُ

أَي: الْخطاب، يُقَال: المحاورة، بِالْحَاء الْمُهْملَة.

{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالٍ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} ( ص: 42) .


أَي: قَالَ دَاوُد، وَفِي ( تَفْسِير النَّسَفِيّ) : لقد ظلمك، جَوَاب قسم مَحْذُوف، وَفِي ذَلِك استنكار لفعل خليطه وتهجين لطمعه.
قَوْله: {بسؤال نعجتك} ( ص: 42) .
مصدر مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول.

وإنَّ كَثِيرَاً مِنَ الخُلَطَاءِ أَي الشُّرَكَاءِ لَيَبْغِي إِلَى قَوْلِهِ {إنَّمَا فَتَنَّاهُ} .


فسر الخلطاء بالشركاء، وَهَكَذَا فسره الْمُفَسِّرُونَ وَهُوَ جمع خليط.
قَوْله: ( ليبغي) أَي: ليظلم.
قَوْله: إِلَى قَوْله: {إِنَّمَا فتناه} ( ص: 42) .
قد ذكرنَا الْآن تَمام الْآيَة.

قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ

أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس: معنى فتناه اختبرناه، وَهَذَا وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.

وقَرَأ عُمَرُ: فَتناهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ

هَذِه قِرَاءَة شَاذَّة، ونقلت هَذِه الْقِرَاءَة أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَأبي رَجَاء العطاردي.

{فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ رَاكِعَاً وأنابَ} ( ص: 42) .


خر رَاكِعا، أَي: حَال كَونه رَاكِعا سَاجِدا، وَعبر عَن السُّجُود بِالرُّكُوعِ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنى الإنحناء.
قَوْله: ( وأناب) أَي: رَجَعَ إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ، من الْإِنَابَة وَهُوَ الرُّجُوع إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ، يُقَال: أناب ينيب إنابة فَهُوَ منيب إِذا أقبل وَرجع.



[ قــ :3265 ... غــ :3421 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدٌ حدَّثنا سَهْلُ بنُ يُوسُفَ قَالَ سَمِعْتُ الْعَوَّامَ عنْ مُجَاهِدٍ قَالَ.

قُلْتُ ل اِبنِ عَبَّاسٍ أنَسْجُدُ فِي ص فَقَرَأ} وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ} حتَّى أتَي {فَبِهُدَاهُمُ اقْتدِهْ} ( الْأَنْعَام: 09) .
فَقَالَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَمَّنْ أُمِرَ أنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَمن ذُريَّته دَاوُد) .
وَمُحَمّد شَيْخه هُوَ ابْن سَلام، كَذَا جزم بِهِ بَعضهم،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هُوَ إِمَّا مُحَمَّد ابْن سَلام، وَإِمَّا ابْن الْمثنى، وَإِمَّا ابْن بشار على مَا اخْتلفُوا فِيهِ.
انْتهى.
وَقيل: يُقَال إِنَّه أَبُو مُوسَى الزَّمِن وَهُوَ مُحَمَّد ابْن الْمثنى الْبَصْرِيّ، وَسَهل بن يُوسُف أَبُو عبد الله الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ، والعوام، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو: ابْن حَوْشَب.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة.

قَوْله: ( أنسجد؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وبنون الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: أأسجد، بهمزتين الأولى للاستفهام وَالثَّانيَِة للمتكلم وَحده.
قَوْله: ( فَقَرَأَ) ، أَي: ابْن عَبَّاس قَوْله تَعَالَى: {وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وَهَارُون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ} ( الْأَنْعَام: 48) .
وَقَرَأَ بعده خمس آيَات أُخْرَى حَتَّى قَرَأَ بعْدهَا: {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن هُوَ إلاَّ ذكرى للْعَالمين} ( الْأَنْعَام: 09) .
قَوْله: ( فَقَالَ نَبِيكُم) أَي: فَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَفِي بعض الرِّوَايَات: فَقَالَ ابْن عَبَّاس.
قَوْله: ( مِمَّن أَمر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( أَن يُقتدى بهم) أَي: بهؤلاء الرُّسُل الْمَذْكُورين فِي هَذِه الْآيَات الْمَذْكُورَة وهم سَبْعَة عشر نَبيا.
قَوْله: ( وَمن ذُريَّته) أَي: وَمن ذُرِّيَّة نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن قبله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب كلاًّ هدينَا ونوحاً هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته دَاوُد} ( الْأَنْعَام: 48) .
وَإِنَّمَا قُلْنَا: الضَّمِير يرجع إِلَى نوح لِأَنَّهُ أقرب الْمَذْكُورين وَهُوَ اخْتِيَار ابْن جرير أَيْضا.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: إِن الضَّمِير يرجع إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ الَّذِي سيق الْكَلَام من أَجله، لَكِن يشكل على هَذَا ذكر لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ لَيْسَ من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بل هُوَ ابْن أَخِيه هاران بن آزر أللهم إلاَّ أَن يُقَال: إِنَّه دخل فِي الذُّرِّيَّة تَغْلِيبًا.

وَفِي ذكر عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم أَو نوح على القَوْل الآخر دلَالَة على دُخُول ولد الْبَنَات فِي ذُرِّيَّة الرجل، لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا ينْسب الى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، بِأُمِّهِ مَرْيَم، عَلَيْهَا السَّلَام، فَإِنَّهُ لَا أَب بِهِ.





[ قــ :366 ... غــ :34 ]
- حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا وُهَيْبٌ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ لَ يْسَ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ ورَأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْجُدُ فِيهَا.
( انْظُر الحَدِيث 9601) .


وَجه ذكر هَذَا الحَدِيث عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يتَضَمَّن ذكر السُّجُود فِي ص، ووهيب مصغر وهب ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، والْحَدِيث مضى فِي: أَبْوَاب سُجُود التِّلَاوَة فِي: بابُُ سَجْدَة ص، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله أعلم.