فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ذكر الجن

( بابُُ ذِكْرِ الجِنِّ)

أَي: هَذَا بابُُ فِيهِ ذكر الْجِنّ، وَتقدم الْكَلَام فِي الْجِنّ فِي أَوَائِل بَدْء الْخلق.

وقوْلِ الله تَعَالَى {قُلْ أُوْحِيَ إلَيَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ} ( الْجِنّ: 1) .

وَقَول الله بِالْجَرِّ، عطف على قَوْله: ( ذكر الْجِنّ) .
قَوْله: ( قل أُوحِي) ، يَعْنِي: قل يَا مُحَمَّد، أَي: أخبر قَوْمك مَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم، ثمَّ بَين فَقَالَ: أُوحِي إِلَيّ أَي: أخْبرت بِالْوَحْي من الله أَنه أَي الْأَمر والشأن، وَكلمَة: أَن، بِالْفَتْح مَعَ اسْمه وَخَبره فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ قَامَ مقَام فَاعل أُوحِي: اسْتمع الْقُرْآن، فَحذف لِأَن مَا بعده يدل عَلَيْهِ، وَالِاسْتِمَاع طلب بالإصغاء إِلَيْهِ.
قَوْله: ( نفر من الْجِنّ) أَي: جمَاعَة مِنْهُم ذكرُوا فِي التَّفْسِير، وَكَانُوا تِسْعَة من جن نَصِيبين، وَقيل: كَانُوا من جن الشيصبان، وهم أَكثر الْجِنّ عددا د وهم عَامَّة جنود إِبْلِيس، وَقيل: كَانُوا سَبْعَة وَكَانُوا من الْيمن وَكَانُوا يهود، وَقيل: كَانُوا مُشْرِكين.

وَاعْلَم أَن الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي هَا الْبابُُ، أَعنِي: فِيمَا يتَعَلَّق بالجن، تدل على أَن وفادة الْجِنّ كَانَت سِتّ مَرَّات.
الأولى: قيل فِيهَا: اغتيل واستظير وَالْتمس.
الثَّانِيَة: كَانَت بالحجون.
الثَّالِثَة: كَانَت بِأَعْلَى مَكَّة وانصاع فِي الْجبَال.
الرَّابِعَة: كَانَت ببقيع الْغَرْقَد وَفِي هَؤُلَاءِ اللَّيَالِي حضر ابْن مَسْعُود، وَخط عَلَيْهِ.
الْخَامِسَة: كَانَت خَارج الْمَدِينَة وحضرها الزبير بن الْعَوام.
السَّادِسَة: كَانَت فِي بعض أَسْفَاره وحضرها بِلَال بن الْحَارِث.
.

     وَقَالَ  إِبْنِ إِسْحَاق: لما آيس رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من خبر ثَقِيف انْصَرف عَن الطَّائِف رَاجعا إِلَى مَكَّة حَتَّى كَانَ بنخلة، قَامَ من جَوف اللَّيْل يُصَلِّي فَمر بِهِ النَّفر من الْجِنّ الَّذين ذكرهم الله فِيمَا ذكر لي سَبْعَة نفر من أهل جن نَصِيبين، فَاسْتَمعُوا لَهُ، فَلَمَّا فرغ من صلَاته ولوا إِلَى قَومهمْ منذرين قد آمنُوا وَأَجَابُوا إِلَى مَا سمعُوا، فَقص الله خبرهم عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذ صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ} إِلَى قَوْله: {أَلِيم} ( الْأَحْقَاف: 92) .
ثمَّ قَالَ تَعَالَى:} قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} ( الْجِنّ: 1) .
إِلَى آخر الْقِصَّة من خبرهم فِي هَذِه السُّورَة.
فَإِن قلت: فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْجِنّ وَلَا رَآهُمْ ... ؟ الحَدِيث.
قلت: هَذَا النَّفْي من ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا هُوَ حَدِيث اسْتَمعُوا التِّلَاوَة فِي صَلَاة الْفجْر وَلم يرد بِهِ نفي الرُّؤْيَة والتلاوة مُطلقًا.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: معنى حَدِيث ابْن عَبَّاس: لم يقصدهم بِالْقِرَاءَةِ، فعلى هَذَا فَلم يعلم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِاسْتِمَاعِهِمْ وَلَا كَلمهمْ، وَإِنَّمَا أعلمهُ الله تَعَالَى بقوله: {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع} ( الْجِنّ: 1) .
وَيُقَال: عبد الله بن مَسْعُود أعلم بِقصَّة الْجِنّ من عبد الله بن عَبَّاس، فَإِنَّهُ حضرها وحفظها، وَعبد الله بن عَبَّاس كَانَ إِذْ ذَاك طفْلا رضيعاً، فقد قيل: إِن قصَّة الْجِنّ كَانَت قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين،.

     وَقَالَ  الْوَاقِدِيّ: كَانَت فِي سنة إِحْدَى عشرَة من النُّبُوَّة، وَابْن عَبَّاس كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع قد ناهز الِاحْتِلَام، وَقيل: يجمع بَين مَا نَفَاهُ وَمَا أثْبته غَيره بِتَعَدُّد وُفُود الْجِنّ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.



[ قــ :3680 ... غــ :3859 ]
- حدَّثني عُبَيْدُ الله بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عنْ مَعْنِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ سَمِعْتُ أبِي قَالَ سألْتُ مَسْرُوقاً مِنْ آذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا القُرآنَ فَقَالَ حدَّثنِي أبُوكَ يَعْنِي عَبْدَ الله أنَّهُ آذَنَتُ بِهِمْ شَجَرَةٌ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبيد الله بِالتَّصْغِيرِ ابْن سعيد أَبُو قدامَة السَّرخسِيّ وَهُوَ أَبُو سعيد الْأَشَج، ومعن، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون: ابْن عبد الرَّحْمَن وَهُوَ يروي عَن أَبِيه عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مَسْعُود، ومسروق هُوَ ابْن الأجدع، وَفِي الأَصْل أجدع لقبه واسْمه عبد الرَّحْمَن.

قَوْله: ( من أذن) أَي: من أعلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالجن فِي لَيْلَة اسْتِمَاع الْقُرْآن؟ قَوْله: ( فَقَالَ: حَدثنِي أَبوك) أَي: قَالَ مَسْرُوق لعبد الرَّحْمَن: حَدثنِي بذلك أَبوك، يَعْنِي: عبد الله بن مَسْعُود.
قَوْله: ( آذَنت بهم) ، أَي: آذَنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالجن ( شَجَرَة) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: آذَنت، وَفِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: سَمُرَة مَوضِع شَجَرَة، وروى الْبَيْهَقِيّ فِي ( دَلَائِل النُّبُوَّة) بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن مَسْعُود أَنه يَقُول: إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لأَصْحَابه وَهُوَ بِمَكَّة: من أحب مِنْكُم أَن يحضر اللَّيْلَة أَمر الْجِنّ فَلْيفْعَل ... الحَدِيث مطولا.
وَفِيه: قَالَ ابْن مَسْعُود: سَمِعت الْجِنّ تَقول للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من يشْهد أَنَّك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَكَانَ قَرِيبا من هُنَاكَ شَجَرَة، فَقَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَرَأَيْتُم إِن شهِدت هَذِه الشَّجَرَة أتؤمنون؟ قَالُوا: نعم، فَدَعَاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَقْبَلت، قَالَ ابْن مَسْعُود: فَلَقَد رَأَيْتهَا تجر أَغْصَانهَا.
قَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتشهدي أَنِّي رَسُول الله؟ قَالَت: أشهد أَنَّك رَسُول الله.
فَإِن قلت: مَا فِيهِ من إِعْلَامه أَصْحَابه بِخُرُوجِهِ إِلَيْهِم يُخَالف مَا روى فِي ( الصَّحِيح) من فقدانهم إِيَّاه حَتَّى، قيل: اغتيل أَو استطير، قلت: المُرَاد من فَقده غير الَّذِي علم بِخُرُوجِهِ.
فَإِن قلت: ظَاهر كَلَام ابْن مَسْعُود: فقدناه والتمسناه وبتنا بشر لَيْلَة، يدل على أَنه فَقده والتمسه وَبَات لَيْلَة، وَفِي هَذَا الحَدِيث: قد علم بِخُرُوجِهِ وَخرج مَعَه وَرَأى الْجِنّ وَلم يُفَارق الْخط الَّذِي خطه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى عَاد إِلَيْهِ بعد الْفجْر.
قلت: إِذا قُلْنَا إِن لَيْلَة الْجِنّ كَانَت مُتعَدِّدَة، لَا يبْقى إِشْكَال، وَقد ذكرنَا أَنَّهَا كَانَت مُتعَدِّدَة.





[ قــ :3681 ... غــ :3860 ]
- حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ قَالَ أخْبَرَني جَدِّي عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ كانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إدَاوةً لِوَضُوئِهِ وحاجَتِهِ فبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بهَا فَقَالَ مَنْ هاذَا فَقَالَ أَنا أبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ ابْغِني أحْجَارَاً أسْتَنْفِضْ بِهَا ولاَ تأتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثِهِ فأتَيْتُهُ بأحْجَارٍ أحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حتَّى وَضَعْتُهَا إلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حتَّى إذَا فرغَ مَشَيْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ مَا بالُ العظْمِ والرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الجِنِّ وإنَّهُ أتانِي وفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ ونِعْمَ الجِنُّ فسألُونِي الزَّادَ فدَعَوْتُ الله لَهُمْ أنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ ولاَ بِرَوْثَةٍ إلاَّ وجَدُوا عَلَيْهَا طعَامَاً.
( انْظُر الحَدِيث 551) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( هما من طَعَام الْجِنّ) إِلَى آخِره.
ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري الَّذِي يُقَال لَهُ: التَّبُوذَكِي، وَقد مر غير مرّة، وَعَمْرو بن يحيى بن سعيد بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الطَّهَارَة فِي بابُُ الِاسْتِنْجَاء بِالْحِجَارَةِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَكِّيّ عَن عَمْرو بن يحيى ... إِلَخ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: ( إبغني) أَي: أطلب لي أحجاراً، وَهُوَ من الثلاثي من بابُُ رمى يَرْمِي، يُقَال: بغيتك الشَّيْء أَي طلبته لَك، وأبغيته أَي: أعنتك على طلبه.
قَوْله: ( أستنفض بهَا) أَي: أستنجي بهَا، وَهُوَ من نفض الثَّوْب، لِأَن المستنجي ينفض عَن نَفسه الْأَذَى بِالْحجرِ أَي: يُزِيلهُ ويدفعه.
قَوْله: ( وَفد جن نَصِيبين) ، الْوَفْد: الْقَوْم يقدمُونَ، ونصيبين: بَلْدَة مَشْهُورَة بالجزيرة أَعنِي جَزِيرَة ابْن عمر فِي الشرق، وَوَقع فِي كَلَام ابْن التِّين: إِنَّهَا فِي الشَّام وَهُوَ وهم وَغلط.
قَوْله: ( طَعَاما) أَي: حَقِيقَة وَذَلِكَ بعد أَن يفضل من الْإِنْس، وَطَعَامًا هَكَذَا رِوَايَة السَّرخسِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: طعماً، قيل بالشم يكتفون.
قلت: للنَّاس فِي أكل الْجِنّ وشربهم ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن جَمِيع الْجِنّ لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون، وَهَذَا قَول سَاقِط.
الثَّانِي: أَن صنفا مِنْهُم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ، وَصِنْفًا مِنْهُم يَأْكُلُون وَلَا يشربون، وَعَن وهب: خَالص الْجِنّ ريح لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون وَلَا يتوالدون، وَمِنْهُم أَجنَاس يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ ويتوالدون ويتناكحون مِنْهُم: السعالي والغيلان والقطرب وَغَيرهَا.
الثَّالِث: أَن جَمِيع الْجِنّ يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ لظَاهِر الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وعمومها، وَاخْتلف أَصْحَاب هَذَا القَوْل فِي أكلهم وشربهم، فَقَالَ بَعضهم: أكلهم وشربهم تشمم واسترواح لَا مضغ وَلَا بلع، وَهَذَا قَول لَا يرد عَلَيْهِ دَلِيل،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أكلهم وشربهم مضغ وبلع، وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي تشهد بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.