فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب حديث الإسراء

( بابُُ حَدِيث الْإِسْرَاء)
أَي هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي حَدِيث الْإِسْرَاء من الْقُرْآن والْحَدِيث
( وَقَول الله تَعَالَى { سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} ) وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على حَدِيث الْإِسْرَاء قَوْله سُبْحَانَ علم للتسبيح كعثمان علم للرجل وَأَصله للتنزيه وَالْمعْنَى أسبح الله الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ أَي أنزهه من جَمِيع النقائص والعيوب قَوْله بِعَبْدِهِ وَالْمرَاد بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا لم يقل بِرَسُولِهِ أَو نبيه إِشَارَة إِلَى أَنه مَعَ هَذَا الْإِكْرَام الَّذِي أكْرمه الله تَعَالَى وَهَذَا التَّعْظِيم الَّذِي عظمه الله بِهِ هُوَ عَبده ومخلوقه لِئَلَّا يتغالوا فِيهِ كَمَا تغالت النَّصَارَى فِي الْمَسِيح حَيْثُ قَالُوا أَنه ابْن الله وكما تغالى طَائِفَة من الْيَهُود فِي عُزَيْر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حَيْثُ قَالُوا أَنه ابْن الله تَعَالَى وتعظم أَن يكون لَهُ ابْن بل هُوَ وَاحِد أحد فَرد صَمد لَيْسَ بأب وَلَا بِابْن قَوْله أسرى مَأْخُوذ من السرى وَهُوَ سير اللَّيْل يُقَال أسرى وسرى إِذا سَار لَيْلًا وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد عِنْد الْأَكْثَرين.

     وَقَالَ  الحوفي أسرى سَار لَيْلًا وسرى سَار نَهَار وَقيل أسرى سَار من أول اللَّيْل وسرى سَار من آخِره وَمعنى أسرى بِهِ أَي جعل الْبراق ساريا بِهِ من الْمَسْجِد الْحَرَام وَهُوَ مَسْجِد مَكَّة إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَهُوَ مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس قَوْله لَيْلًا ظرف للإسراء وَهُوَ للتَّأْكِيد وَفَائِدَته دفع توهم الْمجَاز لِأَن الْإِسْرَاء قد يُطلق على سير النَّهَار كَمَا ذَكرْنَاهُ وَيُقَال هُوَ إِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك وَقع فِي بعض اللَّيْل لَا فِي جَمِيعه وَالْعرب تَقول أسرى فلَان لَيْلًا إِذا سَار بعضه وسرى ليله إِذا سَار جَمِيعه فَإِن قلت مَا الْحِكْمَة فِي إسرائه إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ إِلَى السَّمَوَات فَهَلا أسرِي بِهِ من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى السَّمَوَات قلت ليجمع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بَين رُؤْيَة الْقبْلَتَيْنِ أَو لِأَن بَيت الْمُقَدّس كَانَ هِجْرَة غَالب الْأَنْبِيَاء قبله فَرَحل إِلَيْهِ ليجمع بَين أشتات الْفَضَائِل أَو لِأَنَّهُ مَحل الْمَحْشَر وغالب مَا اتّفق لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة يُنَاسب الْأَحْوَال الأخروية وَكَانَ الْإِسْرَاء إِلَيْهِ فَإِن قلت هَل كَانَت لَيْلَة الْإِسْرَاء هِيَ لَيْلَة الْمِعْرَاج أَيْضا أَو هما متغايرتان قلت قَالَ ابْن دحْيَة مَال البُخَارِيّ إِلَى أَنَّهُمَا متغايرتان لِأَنَّهُ أفرد لكل مِنْهُمَا تَرْجَمَة ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا دلَالَة فِي ذَلِك على التغاير عِنْده بل كَلَامه فِي أول الصَّلَاة ظَاهر فِي اتحادهما لِأَنَّهُ ترْجم بابُُ كَيفَ فرضت الصَّلَاة لَيْلَة الْإِسْرَاء وَالصَّلَاة إِنَّمَا فرضت فِي الْمِعْرَاج فَدلَّ على اتحادهما عِنْده قلت فِيهِ تَأمل وَاخْتلف السّلف فِي هَذَا فَمنهمْ من ذهب إِلَى أَنَّهُمَا وَقعا فِي لَيْلَة وَاحِدَة فِي الْيَقَظَة بجسده وروحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد المبعث وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور من عُلَمَاء الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء والمتكلمين وَمِنْه من ذهب إِلَى أَن الْإِسْرَاء كَانَ فِي لَيْلَة والمعراج فِي لَيْلَة وَمِنْهُم من ذهب إِلَى أَن ذَلِك كُله وَقع مرَّتَيْنِ مرّة فِي الْمَنَام تَوْطِئَة وتمهيدا وَمرَّة ثَانِيَة فِي الْيَقَظَة فَقَالُوا الْإِسْرَاء فِي الْيَقَظَة والمعراج فِي الْمَنَام وَالَّذين قَالُوا الْإِسْرَاء فِي لَيْلَة والمعراج فِي لَيْلَة أُخْرَى وأنهما فِي الْيَقَظَة قَالُوا فِي الأول رَجَعَ من بَيت الْمُقَدّس وَفِي صبيحته أخبر قُريْشًا بِمَا وَقع وَفِي الثَّانِي أسرِي بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ عرج بِهِ من ليلته إِلَى السَّمَاء إِلَى آخر مَا وَقع وَمِنْهُم من قَالَ بِوُقُوع الْمِعْرَاج مرَارًا مِنْهُم الإِمَام أَبُو شامة واستندوا فِي ذَلِك إِلَى مَا أخرجه الْبَزَّار وَسَعِيد بن الْمَنْصُور من طَرِيق أبي عمرَان الْجونِي عَن أنس رَفعه قَالَ بَينا أَنا جَالس إِذْ جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَوَكَزَ بَين كَتِفي فقمنا إِلَى صَخْرَة مثل وَكري الطَّائِر فَقَعَدت فِي أَحدهمَا وَقعد جِبْرِيل فِي الآخر فارتفعت حَتَّى سدت الْخَافِقين الحَدِيث وَفِيه فتح لي بابُُ من السَّمَاء وَرَأَيْت النُّور الْأَعْظَم قيل الظَّاهِر أَنَّهَا وَقعت فِي الْمَدِينَة -

[ قــ :3707 ... غــ :3886 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ حدَّثني أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّهُ سَمِعَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لَمَّا كَذَّبَنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الحِجْر فجَلاَ الله لِي بَيْتَ المَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عنْ آيَاتِهِ وأنَا أنْظُرُ إلَيْهِ.
( الحَدِيث 3886 طرفه فِي: 4710) .


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه مُشْتَمل على بعض مَا وَقع فِي الْإِسْرَاء، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن صَالح، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ.

قَوْله: ( أَبُو سَلمَة: سَمِعت جَابر بن عبد الله) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة، وَخَالفهُ عبد الله بن الْفضل عَن أبي سَلمَة فَقَالَ: عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه مُسلم وَهُوَ مَحْمُول على أَن لأبي سَلمَة فِيهِ شيخين، لِأَن فِي رِوَايَة عبد الله بن الْفضل زِيَادَة لَيست فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ.
قَوْله: ( لما كَذبَنِي) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: كذبتني، بِزِيَادَة تَاء التَّأْنِيث، أَي: كذبتني فِي الْإِسْرَاء: { من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} ( الْإِسْرَاء: 1) .
قَوْله: ( قُمْت فِي الْحجر) ، بِكَسْر الْحَاء وَهُوَ مَا تَحت ميزاب الرَّحْمَة وَهُوَ من جِهَة الشَّام.
قَوْله: ( فجلا لي الله بَيت الْمُقَدّس) أَي: كشف الْحجب بيني وَبَينه حَتَّى رَأَيْته، وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الله بن الْفضل عَن أبي سَلمَة عِنْد مُسلم، قَالَ: فسألوني عَن أَشْيَاء لم أثبتها، فكربت كرباً لم أكرب مثله قطّ، فرفعه الله إِلَيّ أنظر إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَن شَيْء إلاَّ أنبأتهم بِهِ، قَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَنه حمل إِلَى مَوضِع بِحَيْثُ يرَاهُ ثمَّ أُعِيد.
قلت: لَا طائل فِي ذكر الِاحْتِمَال، بل قَوْله: فرفعه الله، يدل قطعا على أَن الله رَفعه وَوَضعه بَين يَدَيْهِ قطعا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، فجيء بِالْمَسْجِدِ وَأَنا أنظر إِلَيْهِ حَتَّى وضع عِنْد دَار عقيل فنعتُّه وَأَنا أنظر إِلَيْهِ، وَهَذَا أبلغ فِي المعجزة وَلَا اسْتِحَالَة فِيهِ، فقد أحضر عرش بلقيس فِي طرفَة عين.
وَفِي حَدِيث أم هانىء عِنْد ابْن سعد: أَنهم قَالُوا لَهُ: كم لِلْمَسْجِدِ من بابُُ؟ قَالَ: وَلم أكن عددتها، فَجعلت أنظر إِلَيْهِ وأعدها بابُُا بابُُا، وَفِيه عِنْد أبي يعلى: أَن الَّذِي سَأَلَهُ عَن صفة بَيت الْمُقَدّس هُوَ الْمطعم بن عدي وَالِد جُبَير بن مطعم.
قَوْله: ( فطفقت أخْبرهُم) بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الْقَاف وَهُوَ من أَفعَال المقاربة وَمَعْنَاهُ: الْأَخْذ فِي الْفِعْل.
قَوْله: ( عَن آيَاته) أَي: علاماته وأوضاعه وأحواله.
قَوْله: ( وَأَنا أنظر إِلَيْهِ) أَي: إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال.