فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور} [آل عمران: 154]

( بابُُ قَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أمَنَةً نُعَاسَاً يَغْشَى طائِفَةً مِنْكُمْ وطائِفَةٌ قَدْ أهَمَّتهُمْ أنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّه غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لله يُخْفُونَ فِي أنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ ولِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ ولِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَالله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ( آل عمرَان: 154) .
)

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما انْصَرف الْمُشْركُونَ يَوْم أحد كَانُوا يتوعدون الْمُسلمين بِالرُّجُوعِ وَلم يَأْمَن الْمُسلمُونَ كرتهم، وَكَانُوا تَحت الحجفة متأهبين لِلْقِتَالِ، فَأنْزل الله عَلَيْهِم دون الْمُنَافِقين أَمَنَة فَأَخذهُم النعاس، وَإِنَّمَا يَنْعس من أَمن والخائف لَا ينَام، وروى الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: النعاس فِي الْقِتَال أَمن من الله، وَفِي الصَّلَاة وَسْوَسَة من الشَّيْطَان.

قَوْله: ( من بعد الْغم) أَرَادَ بِهِ الْغم الَّذِي حصل لَهُم عِنْد الانهزام.
قَوْله: ( أَمَنَة) ، مصدر كالأمن، وقرىء: أَمنه، بِسُكُون الْمِيم كَأَنَّهَا الْمرة من الْأَمْن.
قَوْله: ( نعاساً) نصب على أَنه بدل من: أَمَنَة، وَيجوز أَن يكون عطف بَيَان، وَيجوز أَن يكون نعاساً مَفْعُولا لقَوْله: ( أنزل الله) ، وأمنة حَالا مِنْهُ مُقَدّمَة عَلَيْهِ كَقَوْلِه: رَأَيْت رَاكِبًا رجلا،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: يجوز أَن يكون: أَمَنَة، مَفْعُولا لَهُ بِمَعْنى: نعستم أَمَنَة، وَيجوز أَن يكون حَالا من المخاطبين، يَعْنِي: ذَوي أَمَنَة أَو على أَنه جمع آمن كبار وبررة.
قَوْله: ( يغشى) قرىء بِالْيَاءِ وَالتَّاء على إِرَادَة النعاس أَو الأمنة.
قَوْله: ( طَائِفَة مِنْكُم) هم أهل الصدْق وَالْيَقِين.
قَوْله: ( وَطَائِفَة) هم المُنَافِقُونَ.
قَوْله: ( قد أهمتهم أنفسهم) ، يَعْنِي: لَا يَغْشَاهُم النعاس من القلق والجزع وَالْخَوْف.
قَوْله: ( يظنون بِاللَّه غير الْحق) ، وَهُوَ قَوْلهم: لَا ينصر مُحَمَّد وَأَصْحَابه، أَو أَنه قتل، أَو أَن أمره مضمحل.
قَوْله: ( ظن الْجَاهِلِيَّة) ، أَي: كظن الْجَاهِلِيَّة، وَهِي زمن الفترة،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: يظنون بِاللَّه غير الظَّن الْحق الَّذِي يجب أَن يظنّ بِهِ، وَظن الْجَاهِلِيَّة بدل مِنْهُ، وَيجوز أَن يُرَاد: لَا يظنّ مثل ذَلِك الظَّن إلاَّ أهل الشّرك الجاهلون بِاللَّه.
قَوْله: ( يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء) ، يَعْنِي: يَقُولُونَ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يسْأَلُون: هَل لنا من الْأَمر من شَيْء؟ مَعْنَاهُ: هَل لنا معاشر الْمُسلمين من أَمر الله نصيب قطّ؟ يعنون: النَّصْر والإظهار على الْعَدو،.

     وَقَالَ  الله تَعَالَى: قل يَا مُحَمَّد ( إِن الْأَمر كُله لله) ولأوليائه الْمُؤمنِينَ وَهُوَ النَّصْر وَالْغَلَبَة.
قَوْله: ( يخفون فِي أنفسهم مَا لَا يبدون لَك) أَي: مَا لَا يظهرون لَك يَا مُحَمَّد، يَعْنِي: يَقُولُونَ لَك فِيمَا يظهرون: هَل لنا من الْأَمر من شَيْء؟ سُؤال الْمُؤمنِينَ المسترشدين، وهم فِيمَا يظنون على النِّفَاق، يَقُولُونَ فِي أنفسهم أَو بَعضهم لبَعض منكرين لِقَوْلِك لَهُم: إِن الْأَمر كُله لله، هَكَذَا فسره الزَّمَخْشَرِيّ،.

     وَقَالَ  غَيره: وَالَّذِي أخفوه قَوْلهم: لَو كُنَّا فِي بُيُوتنَا مَا قتلنَا هَهُنَا، وَقيل: الَّذِي أخفوه إسرارهم الْكفْر وَالشَّكّ فِي أَمر الله تَعَالَى، وَقيل: هُوَ النَّدَم على حضورهم مَعَ الْمُسلمين بِأحد، وَالَّذِي قَالَ ذَلِك معتب ابْن قُشَيْر، فَرد الله ذَلِك عَلَيْهِم بقوله: { قل لَو كُنْتُم فِي بُيُوتكُمْ} يَعْنِي: قل يَا مُحَمَّد: أَيهَا المُنَافِقُونَ! لَو كُنْتُم فِي بُيُوتكُمْ وَلم تخْرجُوا إِلَى أحد { لبرز الَّذين كتب عَلَيْهِم الْقَتْل إِلَى مضاجعهم} يَعْنِي: لَو تخلفتم لخرج مِنْكُم الَّذين كتب عَلَيْهِ الْقَتْل، وَالْمرَاد: من مضاجعهم: مصَارِعهمْ،.

     وَقَالَ  مُحَمَّد بن إِسْحَاق: حَدثنِي يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عَن أَبِيه عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: قَالَ الزبير: لقد رَأَيْتنِي مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اشْتَدَّ الْخَوْف علينا، أرسل الله علينا النّوم فَمَا منا من رجل إلاَّ ذقنه فِي صَدره، قَالَ: فوَاللَّه إِنِّي لأسْمع قَول معتب بن قُشَيْر مَا أسمعهُ إلاَّ كَالْحلمِ: لَو كَانَ لنا من الْأَمر شَيْء مَا قتلنَا هَهُنَا، فحفظنا مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى: { يَقُولُونَ لَو ككان لنا من الْأَمر من شَيْء مَا قتلنَا هَهُنَا} كَقَوْل معتب، قَوْله: ( وليبتلي الله) أَي: ليختبر الله بأعمالكم.
{ وليمحص مَا فِي قُلُوبكُمْ} أَي: ليطهر من الشَّك بِمَا يريكم من عجائب صنعه من الأمنة وَإِظْهَار إسرار الْمُنَافِقين، وَهَذَا التمحيص خَاص بِالْمُؤْمِنِينَ.
قَوْله: ( وَالله عليم بِذَات الصُّدُور) أَي: الْأَسْرَار الَّتِي فِي الصُّدُور من خير وَشر.



[ قــ :3871 ... غــ :4068 ]
- وقَالَ لِي خَلِيفَةُ حدَّثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ حدَّثنا سَعِيدٌ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ عنْ أبِي طَلْحَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارَاً يَسْقُطُ وآخُذُهُ ويَسْقُطُ فآخُذُهُ.
( الحَدِيث 4068 طرفه فِي: 4562) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة، وَإِنَّمَا قَالَ البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: قَالَ لي خَليفَة، وَلم يقل: حَدثنَا وَنَحْوه، لِأَنَّهُ لم يقلهُ على طَرِيق التحديث والتحميل، بل على سَبِيل المذاكرة، وَقد تقدم فِي حَدِيث الْبَراء عَن قريب مَا رَوَاهُ أنس عَن أبي طَلْحَة، وَهُوَ زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ.