فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء} [البقرة: 214] إلى {قريب} [البقرة: 186]

(بابٌُ: { أمْ حَسَبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَما يَأْتِيكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ والضَّرَاءُ} إلَى { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} (الْبَقَرَة: 214)

أَي: هَذَا بابُُ ذكر فِيهِ (أم حسبتم) إِلَى آخِره ذكر عبد الرَّزَّاق فِي (تَفْسِيره) : عَن قَتَادَة: نزلت هَذِه الْآيَة فِي يَوْم الْأَحْزَاب أصَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ وَأَصْحَابه بلَاء وَحصر، قَالَه الْقُرْطُبِيّ: وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين، قَالَ وَقيل: نزلت فِي يَوْم أحد.
وَقيل: نزلت تَسْلِيَة للمهاجرين حِين تركُوا دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ بأيدي الْمُشْركين وآثروا رضَا الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (أم حسبتم) ، قد علم فِي النَّحْو أَن: أم عَليّ نَوْعَيْنِ مُتَّصِلَة وَهِي الَّتِي تتقدمها همزَة التَّسْوِيَة نَحْو: { سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا} (إِبْرَاهِيم: 121) وَسميت مُتَّصِلَة لِأَن مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا لَا يسْتَغْنى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر، ومنقطعة وَهِي الَّتِي لَا يفارقها معنى الإضراب، وَزعم ابْن الشجري عَن جَمِيع الْبَصرِيين أَنَّهَا أبدا بِمَعْنى: بل، وَهِي مسبوقة بالْخبر الْمَحْض.
نَحْو: { تَنْزِيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين أم يَقُولُونَ افتراه} (السَّجْدَة: 2) ومسبوقة بِهَمْزَة لغير الِاسْتِفْهَام.
نَحْو: { ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا} (الْأَعْرَاف: 195) إِذْ الْهمزَة فِيهَا للإنكار ثمَّ إِن: أم هَذِه قد اخْتلفُوا فِيهَا، فَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهَا بل حسبتم.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: مُنْقَطِعَة وَمعنى الْهمزَة فِيهَا للتقرير، وَفِي (تَفْسِير الْجَوْزِيّ) أم هُنَا لِلْخُرُوجِ من حَدِيث إِلَى حَدِيث، وَفِي (تَفْسِير ابْن أبي السنان) أم، هَذِه مُتَّصِلَة بِمَا قبلهَا لِأَن الِاسْتِفْهَام لَا يكون فِي ابْتِدَاء الْكَلَام فَلَا يُقَال: أم عِنْد خبر، بِمَعْنى: عنْدك، وَقيل: هِيَ معطوفة على اسْتِفْهَام مَحْذُوف مقدم أَي: أعلمتم أَن الْجنَّة حفت بالمكاره أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة بِغَيْر مَكْرُوه.
قَوْله: (وَلما يأتكم) ، كلمة لما، لنفي: لم يفعل، وَكلمَة لم لنفي فعل.
قَوْله: (مثل الَّذين خلوا) ، أَي: صفة الَّذين مضوا من قبلكُمْ من النَّبِيين وَالْمُؤمنِينَ، وَفِيه إِضْمَار أَي: مثل محنة الَّذين.
أَو مُصِيبَة الَّذين مضوا.
قَوْله: (مستهم البأساء والضرآء) ، أَي: الْأَمْرَاض والأسقام والآلام والمصائب والنوائب،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَأَبُو الْعَالِيَة وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَمرَّة الْهَمدَانِي وَالْحسن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالربيع وَالسُّديّ وَمُقَاتِل بن حَيَّان، البأساء الْفقر،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: الضراء السقم.
قَوْله: (وزلزلوا) ، أَي: أزعجوا إزعاجا شَدِيدا شَبِيها بالزلزلة بِمَا أَصَابَهُم من الْأَهْوَال والأفزاع.
قَوْله: (حَتَّى يَقُول الرَّسُول) يَعْنِي: إِلَى الْغَايَة الَّتِي يَقُول الرَّسُول وَمن مَعَه فِيهَا: مَتى نصر الله يَعْنِي: بلغ مِنْهُم الْجهد إِلَى أَن استبطؤا النَّصْر.
وَقَالُوا: مَتى ينزل نصر الله؟ قَالَ مقَاتل: الرَّسُول هُوَ أليسع، واسْمه: شعيا وَالَّذين آمنُوا حزقيا الْملك حِين حضر الْقِتَال وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ وَأَن مِيشَا بن حزقيا قتل اليسع، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
.

     وَقَالَ  الْكَلْبِيّ: هَذَا فِي كل رَسُول بعث إِلَى أمته.
وَعَن الضَّحَّاك: يَعْنِي مُحَمَّدًا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: وَعَلِيهِ يدل نزُول الْآيَة الْكَرِيمَة، وَأكْثر المتأولين على أَن الْكَلَام إِلَى آخر الْآيَة من قَول الرَّسُول وَالْمُؤمنِينَ، أَي: بلغ بهم الْجهد حَتَّى استبطؤ النَّصْر فَقَالَ الله، عز وَجل: (أَلا إِن نصر الله قريب) وَيكون ذَلِك من قَول الرَّسُول على طلب استعجال النَّصْر لَا على شكّ وارتياب،.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالتَّقْدِير: يَقُول الَّذين آمنُوا مَتى نصر الله؟ فَيَقُول الرَّسُول: أَلا إِن نصر الله قريب.
فَقدم الرَّسُول فِي الرُّتْبَة لمكانته وَلم يقدم الْمُؤمنِينَ.
لِأَنَّهُ الْمُقدم فِي الزَّمَان، وَيَقُول: بِالرَّفْع وَالنّصب، فقراءة الْقُرَّاء بِالنّصب إلاّ مُجَاهدًا، قَالَه الْفراء: وَبَعض أهل الْمَدِينَة رَفَعُوهُ.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ النصب على إِضْمَار أَن، وَالرَّفْع على أَنه فِي معنى الْحَال كَقَوْلِك: شربت الْإِبِل حَتَّى يَجِيء الْبَعِير حَتَّى يجر بطته إِلَّا أَنَّهَا حَال مَاضِيَة محكية.
قَوْله: (أَلا إِن نصر الله قريب) ، أَي: قيل لَهُم: أَن نصر الله قريب، إِجَابَة لَهُم إِلَى طَلَبهمْ.



[ قــ :4275 ... غــ :4524 ]
- ح دَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخبرنَا هِشامٌ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ أبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا حَتَّى إذَا استَيْأسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خَفِيفَةَ ذَهَبَ بِها هُنَاكَ وَتَلا { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله قَرِيبٌ} (الْبَقَرَة: 141) فَلقِيتُ عُرْوَةَ ابنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ قَالَتْ عَائِشَةَ مَعَاذَ الله وَالله مَا وَعَدَ الله رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إلاّ عَلِمَ أنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ وَلاكِنْ لَمْ يَزَل البَلاءُ بَالرُّسُلِ حَتَّى خَافُوا أنْ يَكُونَ من مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ فَكَانَتْ تَقّرَؤُها وَظَنُّوا أنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا مُثَقَّلَةً.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى يزِيد الرَّازِيّ الْفراء، يعرف بالصغير، وَهِشَام هُوَ ابْن حسان يروي عَن عبد الْملك ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي مليكَة والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة.

قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس: حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل) أَي: من النَّصْر (وظنوا أَنهم قد كذبُوا) أَي: كذبتهم أنفسهم حِين حدثتهم بِأَنَّهُم ينْصرُونَ.
قَوْله: (خَفِيفَة) أَي: خَفِيفَة الذَّال فِي قَوْله: قد كذبُوا.
قَوْله: (ذهب بهَا) أَي: ذهب ابْن عَبَّاس بِهَذِهِ الْآيَة أَي: قَوْله: (حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل) الْآيَة الَّتِي فِي سُورَة يُوسُف لَا الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة، يَعْنِي: فهم من هَذِه الْآيَة مَا فهم من تِلْكَ الْآيَة لكَون الِاسْتِفْهَام فِي مَتى نصر الله للاستبعاد والاستبطاء فهما متناستان فِي مَجِيء النَّصْر بعد الْيَأْس والاستيعادة.
قَوْله: (فَلَقِيت عُرْوَة بن الزبير) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ ابْن أبي مليكَة الرَّاوِي.

قَوْله: (فَقَالَ) أَي: عُرْوَة بن الزبير (قَالَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا) قَوْله: (قبل أَن يَمُوت) ظرف للْعلم لَا للكون.
قيل: لم أنْكرت عَائِشَة على ابْن عَبَّاس بقولِهَا: معَاذ الله إِلَى آخِره مَعَ أَن قِرَاءَة التَّخْفِيف تحْتَمل معنى مَا قَالَت عَائِشَة بِأَن يُقَال خَافُوا أَن يكون من مَعَهم يكذبونهم؟ وَأجِيب بِأَن الْإِنْكَار من جِهَة أَن مُرَاده أَن الرُّسُل ظنُّوا أَنهم مكذبون من عِنْد الله لَا من عِنْد أنفسهم بِقَرِينَة الاستشهاد بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْبَقَرَة.
فَقيل: لَو كَانَ كَمَا قَالَت عَائِشَة لقيل: وتيقنوا أَنهم قد كذبُوا، لِأَن تَكْذِيب الْقَوْم لَهُم كَانَ متيقنا وَأجِيب: بِأَن تَكْذِيب أتباعهم من الْمُؤمنِينَ كَانَ مظنونا والمتيقن هُوَ تَكْذِيب الَّذين لم يُؤمنُوا أصلا فَإِن قيل: فَمَا وَجه كَلَام ابْن عَبَّاس؟ قيل: وَجهه مَا ذكره الْخطابِيّ: بِأَن يُقَال لَا شكّ أَن مذْهبه أَنه لم يجز على الرُّسُل أَن يكذبوا بِالْوَحْي الَّذِي يَأْتِيهم من قبل الله لَكِن يحْتَمل أَن يُقَال: إِنَّهُم عِنْد تطاول الْبلَاء وإبطاء نجز الْوَعْد توهموا أَن الَّذِي جَاءَهُم من الْوَحْي كَانَ غَلطا مِنْهُم.
فالكذب متأول بالغلط.
كَقَوْلِهِم: كذبتك نَفسك.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وَعَن ابْن عَبَّاس: وظنوا حِين ضعفوا أَو غلبوا أَنهم قد خلفوا مَا وعدهم الله من النَّصْر،.

     وَقَالَ : وَكَانُوا بشرا وتلا قَوْله: { وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول} (الْبَقَرَة: 214) فَإِن صَحَّ هَذَا فقد أَرَادَ بِالظَّنِّ مَا يهجس فِي الْقلب من شبه الوسوسة.
وَحَدِيث النَّفس على مَا عَلَيْهِ البشرية وَأما الظَّن الَّذِي يتَرَجَّح أحد الْجَانِبَيْنِ على الآخر فِيهِ فَغير جَائِز على آحَاد الْأمة فَكيف بالرسل؟ قَوْله: (تقرؤها) أَي: فَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
تقْرَأ قَوْله وكذبوا، مثقلة أَي: بِالتَّشْدِيدِ، وَهِي قِرَاءَة نَافِع وَابْن كثير وَأبي عَمْرو وَابْن عَامر، وَقِرَاءَة عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِالتَّخْفِيفِ.