فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا} [النساء: 6]

(بابٌُ: { وَمَنْ كَانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلُ بِالمَعْرُوفِ فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالِهِمْ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِمْ} (النِّسَاء: 6) لَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ بابُُ وَقبل قَوْله: { وَمن كَانَ فَقِيرا وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فَاشْهَدُوا عَلَيْهِم وَكفى بِاللَّه حسيبا} (النِّسَاء: 6) .
وَفِي بعض النّسخ سَاقهَا بِتَمَامِهَا، وَفِي بَعْضهَا اقْتصر على قَوْله الْآيَة يجوز فِيهَا الرّفْع على تَقْدِير: الْآيَة بِتَمَامِهَا، وَيجوز النصب على تَقْدِير: اقْرَأ الْآيَة بِتَمَامِهَا.
قَوْله: (وَمن كَانَ غَنِيا) أَي: وَمن كَانَ فِي غنية عَن مَال الْيَتِيم فليستعفف عَنهُ وَلَا يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا.
قَالَ الشّعبِيّ: هُوَ عَلَيْهِ كالميتة وَالدَّم، وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي: بِقدر قِيَامه عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ  أَبُو جَعْفَر النّحاس، منع جمَاعَة من أهل الْعلم الْوَصِيّ من أَخذ شَيْء من مَال الْيَتِيم، قَالَ أَبُو يُوسُف القَاضِي، لَا أَدْرِي: لَعَلَّ هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة.
بقوله عز وَجل: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} (النِّسَاء: 29) فَلَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ من مَال الْيَتِيم شَيْئا إِذا كَانَ مَعَه مُقيما فِي الْمصر، فَإِن احْتَاجَ أَن يُسَافر من أَجله فَلهُ أَن يَأْخُذ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا يقتني شَيْئا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَمُحَمّد،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: (وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ) قَالَ: نسخ الظُّلم والاعتداء، ونسخهما.
(إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما) .
ثمَّ افترق الَّذين قَالُوا بِأَن الْآيَة محكمَة فرقا، فَقَالَ بَعضهم: إِن احْتَاجَ الْوَصِيّ فَلهُ أَن يقترض من مَال الْيَتِيم، فَإِن أيسر قَضَاهُ، وَهَذَا قَول عمر بن الْخطاب وَعبيدَة وَأبي الْعَالِيَة وَسَعِيد بن جُبَير، قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَهُوَ قَول جمَاعَة من التَّابِعين وَغَيرهم، وفقهاء الْكُوفِيّين عَلَيْهِ أَيْضا.
.

     وَقَالَ  أَبُو قلَابَة: (فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ) مِمَّا يجبي من الْغلَّة، فَأَما المَال الناض فَلَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا قرضا وَلَا غَيره، وَذهب قوم إِلَى ظَاهر الْآيَة، مِنْهُم: الْحسن الْبَصْرِيّ، فَقَالُوا: لَهُ أَن يَأْكُل مِنْهُ مِقْدَار قوته.
.

     وَقَالَ  الْحسن: إِذا احْتَاجَ ولي الْيَتِيم أكل بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذا أيسر قَضَاؤُهُ، وَالْمَعْرُوف قوته، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَقَتَادَة.
قَوْله: { فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فَاشْهَدُوا عَلَيْهِم} اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْأَمر.
فَقَالَ قوم: هُوَ ندب، فَإِن القَوْل قَول الْوَصِيّ لِأَنَّهُ أَمِين.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: وَفرض على ظَاهر الْآيَة لِأَنَّهُ أَمِين الْأَب فَلَا يقبل قَوْله على غَيره أَلا يرى أَن الْوَكِيل إِذا ادّعى أَنه دفع إِلَى زيد مَا أَمر بِهِ لم يقبل قَوْله: إِلَّا بِبَيِّنَة فَكَذَلِك الْوَصِيّ.
.

     وَقَالَ  عمر بن الْخطاب وَسَعِيد بن جُبَير: هَذَا الْإِشْهَاد إِنَّمَا هُوَ على دفع الْوَصِيّ مَا استقرضه من مَال الْيَتِيم حَال فقره.

وَفِي الْإِشْهَاد مصَالح مِنْهَا: السَّلامَة من الضَّمَان وَالْغُرْم على تَقْدِير إِنْكَار الْيَتِيم.
(وَمِنْهَا) : حسم مَادَّة تطرق سوء الظَّن بالولي.
(وَمِنْهَا) : امْتِثَال أوَامِر الله عز وَجل فِي الْأَمر بِالْإِشْهَادِ.
(وَمِنْهَا) : طيب قلب الْيَتِيم بِزَوَال مَا كَانَ يخشاه من فَوَات مَاله ودوامه تَحت الْحجر.

وَبِدَارا مُبَادَرَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِيهِ أول الْآيَة المترجم بهَا.
وَهُوَ قَوْله: { وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا بدارا أَن يكبروا} وَفسّر: بدارا بقوله مبادرة، يَعْنِي: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَال الْيَتَامَى من غير حَاجَة إسرافا ومبادرة قبل بلوغهم،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: إسرافا وبدارا مسرفين ومبادرين كبرهم.

أعْتَدْنَا أعْدَدنا أفْعَلْنَا مِنَ العَتادِ
هَذَا مَحَله فِيمَا سَيَأْتِي قبل قَوْله: { لَا يحل لكم أَن ترثوا النِّسَاء كرها} (النِّسَاء: 19).

     وَقَالَ  بَعضهم: وَقعت هَذِه الْكَلِمَة فِي هَذَا الْموضع سَهوا من بعض نساخ الْكتاب.
(قلت) : فِيهِ بعد لَا يخفى، وَالظَّاهِر أَنه وَقع من المُصَنّف وَأَشَارَ بقوله: (أَعْتَدْنَا) إِلَى قَوْله تَعَالَى: { أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُم عذَابا أَلِيمًا} وَفَسرهُ بقوله: أعددنا، وَأَرَادَ أَن مَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة فِي كِتَابه (الْمجَاز) (قلت) : اعتدنا من بابُُ الافتعال، وأعددنا من بابُُ الْأَفْعَال، وَلِهَذَا قَالَ: فعلنَا من العتاد، بِفَتْح الْعين، وَهُوَ مَا يصلح لكل مَا يَقع من الْأُمُور وَهَذَا الْمَذْكُور هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني: اعتددنا افتعلنا،.

     وَقَالَ  بعهم: الأول هُوَ الصَّوَاب.
(قلت) : يفهم مِنْهُ أَن رِوَايَة أبي ذَر غير صَوَاب، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الصَّوَاب رِوَايَة أبي ذَر، يعرفهُ من لَهُ يَد فِي علم الصّرْف.



[ قــ :4322 ... غــ :4575 ]
- ح دَّثني إسْحَاقُ أخْبَرَنَا عَبْدُ الله بنُ نُمَيْرٍ حدَّثنا هِشَامٌ عَنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْها فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ كَانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ أنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَالِ اليَتيمِ إذَا كَانَ فَقِيرا أنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَان قِيامِهِ عَلَيْهِ بِمَعْرُوفٍ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِسْحَاق هُوَ ابْن مَنْصُور، وَصرح بِهِ خلف وَأَبُو نعيم، وَقيل: هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

والْحَدِيث مر فِي الْبيُوع،.

     وَقَالَ  الْحَافِظ الْمزي: حَدِيث وَمن كَانَ غَنِيا فِي الْبيُوع، وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور نسبه فِي التَّفْسِير وَلم ينْسبهُ فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن نمير بِهِ.

قَوْله: (فِي مَال الْيَتِيم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، فِي وَالِي الْيَتِيم وَالْمرَاد بوالي الْيَتِيم الْمُتَصَرف فِي مَاله بِالْوَصِيَّةِ وَنَحْوهَا، وَالضَّمِير فِي كَانَ على رِوَايَة الْكشميهني يرجع إِلَى الْوَالِي ظَاهرا وعَلى رِوَايَة الْأَكْثَرين بِالْقَرِينَةِ اللفظية.
وَهِي قَوْله: (يَأْكُل مِنْهُ) إِلَى آخِره وَالله أعلم.