فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قوله: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} [التوبة: 3] "

(بابُُ قَوْلِهِ: { وَأذَانٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أنَّ الله بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فإنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ ألِيمٍ إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا فأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التَّوْبَة: 3، 4)

أَي: هَذَا بابُُ فِي قَوْله عز وَجل: { وأذان من الله} إِلَى آخِره.
قَوْله: (وأذان من الله) أَي: إِعْلَام من الله وَرَسُوله وإنذار إِلَى النَّاس وارتفاع: أَذَان، عطفا على براة.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وارتفاعه كارتفاع بَرَاءَة على الْوَجْهَيْنِ.
قَوْله: (إِلَى النَّاس) أَي: لجميعهم.
قَوْله: (يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) ، وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي هُوَ أفضل أَيَّام الْمَنَاسِك، وأظهرها وأكثرها جمعا،.

     وَقَالَ  عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أبي إِسْحَاق: سَأَلت أبام جُحَيْفَة عَن يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، قَالَ: يَوْم عَرَفَة، وروى عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم عَرَفَة، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن الزبير وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وطاووس أَنهم قَالُوا: يَوْم عَرَفَة هُوَ يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، وَقد ورد فِي ذَلِك حَدِيث مُرْسل رَوَاهُ ابْن جريج: أخْبرت عَن مُحَمَّد بن قيس بن مخرمَة (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خطب يَوْم عَرَفَة فَقَالَ: هَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) .
.

     وَقَالَ  هشيم عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، وَرُوِيَ عَن عَليّ من وُجُوه أخر كَذَلِك،.

     وَقَالَ  عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا سُفْيَان وَشعْبَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عبد الله بن أبي أوفى أَنه قَالَ: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، وَكَذَا رُوِيَ عَن الْمُغيرَة ابْن شُعْبَة أَنه خطب يَوْم الْأَضْحَى على بعير، فَقَالَ: هَذَا يَوْم الْأَضْحَى وَهَذَا يَوْم النَّحْر وَهَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن أبي جُحَيْفَة وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُجاهد وَأبي جَعْفَر الباقر وَالزهْرِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم أَنهم قَالُوا: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، وروى ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: (وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم النَّحْر عِنْد الجمرات فِي حجَّة الْوَدَاع،.

     وَقَالَ : هَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث أبي جَابر واسْمه مُحَمَّد بن عبد الْملك بِهِ، وَعَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر الْيَوْم الثَّانِي من يَوْم النَّحْر.
رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد أَيْضا: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر أَيَّام الْحَج كلهَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عبيد.
.

     وَقَالَ  سهل السراج: سُئِلَ الْحسن الْبَصْرِيّ عَن يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، فَقَالَ: مَا لكم وللحج الْأَكْبَر ذَاك عَام حج فِيهِ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ، الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فحج بِالنَّاسِ، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم،.

     وَقَالَ  ابْن جرير: حَدثنَا ابْن وَكِيع حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن ابْن عَوْف.
سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي: ابْن سِيرِين عَن يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، قَالَ: كَانَ يَوْمًا وَافق فِيهِ حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحج أهل الْوَبر.
قَوْله: (أَن الله بَرِيء من الْمُشْركين) أَي: ليعلم النَّاس بَعضهم بَعْضًا (أَن الله) وقرىء (إِن الله) بِالْكَسْرِ لِأَن الإيذان فِي معنى القَوْل.
قَوْله: (وَرَسُوله) فِيهِ قراءتان الرّفْع وَهِي الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة وَمَعْنَاهُ: وَرَسُوله أَيْضا برىء من الْمُشْركين، وَالنّصب وَمَعْنَاهُ: وَأَن رَسُول الله بَرِيء من الْمُشْركين، وَهِي قِرَاءَة شَاذَّة،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وَرَسُوله، عطف على الْمَنوِي فِي: بَرِيء أَي: بَرِيء، هُوَ أَو على مَحل: إِن الْمَكْسُورَة وَاسْمهَا، وقرىء بِالنّصب عطفا على إسم إِن، أَو لِأَن الْوَاو بِمَعْنى: مَعَ أَي: برىء مَعَه مِنْهُم، وبالجر على الْجوَار، وَقيل: على الْقسم كَقَوْلِك: لعمرك.
قَوْله: (فَإِن تبتم) أَي: من الْغدر وَالْكفْر { فَهُوَ خير لكم وَإِن توليتم} عَن التَّوْبَة أَو ثبتمْ على التولي والإعراض عَن الْإِسْلَام وَالْوَفَاء، فاعلموا أَنكُمْ غير سابقين الله وَلَا فائتين أَخذه وعقابه.
قَوْله: (إِلَّا الَّذين) ، اسْتثِْنَاء من: برىء، وَقيل: مُنْقَطع أَي: أَن الله بَرِيء مِنْهُم وَلَكِن الَّذين عاهدتم فثبتوا على الْعَهْد فكفوا عَنْهُم بَقِيَّة الْمدَّة.
قَوْله: (ثمَّ لم ينقصوكم شَيْئا) ، أَي: من شُرُوط الْعَهْد، وقرىء بالضاد الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (وَلم يظاهروا) أَي: وَلم يعاونوا عَلَيْكُم أحدا.
قَوْله: (إِلَى مدتهم) ، أَي إِلَى انْقِضَاء مدتهم.
قَوْله: { إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ} أَي: الْمُوفينَ بعهدهم.

آذَنَهُمْ أعْلَمَهُمْ
أَي: معنى آذنهم أعلمهم، وَالْمرَاد بِهِ مُطلق الْإِعْلَام لِأَنَّهُ من الإيذان، وَقد ذَكرْنَاهُ.



[ قــ :4402 ... غــ :4656 ]
- ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حدّثنا اللَّيْثُ حدّثني عُقَيْلٌ قَالَ ابنُ شِهابٍ فأخْبرني حُمَيْدُ ابنُ عبدِ الرَّحْمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَنِي أبُو بَكْرٍ رضيَ الله عَنهُ فِي تِلْكَ الحَجَّةِ فِي المُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْر يُؤَذِّنونَ بِمنًى أنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ ولاَ يَطوفَ بالبَيْتِ عُرْيانٌ قَالَ حُمَيْدٌ ثُمَّ أرْدَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ فأمَرَهُ أنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ فأذّنَ مَعَنا عَلِيٌّ فِي أهلِ منى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ وأنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيان.
.


هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور قبل هَذَا الْبابُُ.
قَوْله: (أَن لَا يحجّ) ويروى: ألاَّ بِفَتْح الْهمزَة وإدغام النُّون فِي اللَّام.
قَوْله: (بعد الْعَام) أَي: بعد الزَّمَان الَّذِي وَقع فِيهِ الْإِعْلَام بذلك.
قَوْله: (وَلَا يطوف) بِالنّصب عطفا على أَن لَا يحجّ.
قَوْله: (قَالَ حميد) هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْمَذْكُور فِيهِ، وَاسْتشْكل الطَّحَاوِيّ فِي قَوْله: أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ، وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث أَبَا بكر ثمَّ أردفه عليا رَضِي الله عَنهُ، فَأمره أَن يُؤذن فَكيف يبْعَث أَبُو بكر أَبَا هُرَيْرَة؟ ثمَّ أجَاب بقوله: إِن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: كنت مَعَ عَليّ حِين بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَرَاءَة إِلَى أهل مَكَّة، فَكنت أنادي مَعَه بذلك حَتَّى يصهل صوتي، وَكَانَ يُنَادي بِأَمْر أبي بكر، بِمَا يلقنه عَليّ بِمَا أَمر بتبليغه.
قَوْله: (أَن يُؤذن بِبَرَاءَة) يجوز فِيهِ الرّفْع بِالتَّنْوِينِ على سَبِيل الْحِكَايَة.
والجر بِالْبَاء، وَيجوز أَن يكون عَلامَة الْجَرّ فَتْحة.
قَوْله: (قَالَ أَبَا هُرَيْرَة) مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور.
قَوْله: (بِبَرَاءَة) .
لَيْسَ المُرَاد مِنْهَا السُّورَة كلهَا، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَغَيره، قَالُوا: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر أَمِيرا على الْمَوْسِم سنة تسع، وَبعث عَليّ بن أبي طَالب بِثَلَاثِينَ آيَة أَو أَرْبَعِينَ من بَرَاءَة الحَدِيث.
قَوْله: (وَأَن لَا يحجّ) إِلَى آخِره، اسْتشْكل فِيهِ الْكرْمَانِي بِأَن عليا رَضِي الله عَنهُ، كَانَ مَأْمُورا بِأَن يُؤذن بِبَرَاءَة، فَكيف يُؤذن بِأَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك؟ ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ أذن بِبَرَاءَة، وَمن جملَة مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك من قَوْله تَعَالَى فِيهَا: { إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا} (التَّوْبَة: 28) وَيحْتَمل أَن يكون أَمر أَن يُؤذن بِبَرَاءَة وَبِمَا أَمر أَبُو بكر أَن يُؤذن بِهِ أَيْضا، انْتهى.
قلت: فَإِنَّهُ الْجَواب عَن زِيَادَة قَوْله: (وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان) وَعَن شَيْء آخر رَوَاهُ الشّعبِيّ: حَدثنِي مُحرز بن أبي هُرَيْرَة عَن أَبِيه قَالَ: كنت مَعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ، حِين بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُنَادي، فَكَانَ إِذا صَهل ناديت.
قلت: بِأَيّ شَيْء كُنْتُم تنادون؟ قَالَ: بِأَرْبَع لَا يطوف بِالْكَعْبَةِ عُرْيَان، وَمن كَانَ لَهُ عهد من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعهده إِلَى مدَّته، وَلَا يدْخل الْجنَّة إلاَّ نفس مُؤمنَة، وَلَا يحجّ بعد عامنا مُشْرك.
وَرَوَاهُ ابْن جرير عَن الشّعبِيّ بِهِ من غير وَجه.