فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قوله: (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين)

( سُورَةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.
بسَّمِ الله الرَّحمانِ الرَّحِيمِ لم تثبت الْبَسْمَلَة إِلَّا لأبي ذَر وَحده، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: فِيهَا آيَة وَاحِدَة مَدَنِيَّة وَهِي قَوْله تَعَالَى: { ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا} ( إِبْرَاهِيم: 82) وَعَن الْكَلْبِيّ: هِيَ مَدَنِيَّة نزلت فِيمَن قتل ببدر، وَعَن ابْن الْمُنْذر عَن قَتَادَة: نزلت بِالْمَدِينَةِ من سُورَة إِبْرَاهِيم: { ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا} الْآيَتَيْنِ وسائرها مكي،.

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ: مَكِّيَّة.
وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَأَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ حرفا، وَثَمَانمِائَة وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ كلمة، وإثنتان وَخَمْسُونَ آيَة.
قَالَ ابنُ عبّاسٍ: هادٍ دَاعٍ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { إِنَّمَا أَنْت مُنْذر وَلكُل قوم هاد} وَلَكِن هَذَا فِي سُورَة الرَّعْد.
وَالظَّاهِر أَن ذكر هَذَا هُنَا من بعض النساخ.
وَفسّر لفظ: هاد، بقوله: دَاع، وروى هَذَا التَّعْلِيق الْحَنْظَلِي عَن أَبِيه: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن عَليّ عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ مُجاهدٌ صَدِيدٌ قَيْحٌ ودَمٌ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: { من وَرَائه جَهَنَّم ويسقى من مَاء صديد} ( إِبْرَاهِيم: 61) لم يذكر هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وروى هَذَا التَّعْلِيق ابْن الْمُنْذر عَن مُوسَى عَن أبي بكر عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَعَن قَتَادَة: هُوَ مَا يخرج من جلد الْكَافِر ولحمه، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب وَالربيع بن أنس: هُوَ غسال أهل النَّار، وَذَلِكَ مَا يسيل من فروج الزناة يسقاه الْكَافِر.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ أيادِيَ الله عِنْدَكُمْ وأَيَّامَهُ أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي قَوْله تَعَالَى: { وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ أنجاكم من آل فِرْعَوْن} ( إِبْرَاهِيم: 6) الْآيَة وَفسّر نعْمَة الله بقوله: أيادي الله، والأيادي جمع الْأَيْدِي، وَهُوَ جمع الْيَد بِمَعْنى: النِّعْمَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْحميدِي عَنهُ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ منْ كلِّ مَا سألْتُمُوهُ رَغِبْتُمْ إلَيْهِ فِيهِ أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: { وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار وآتاكم من كل مَا سألتموه} ( إِبْرَاهِيم: 33 و 43) أَن مَعْنَاهُ وأعطاكم من كل مَا رغبتم إِلَيْهِ فِيهِ،.

     وَقَالَ  بعض الْمُفَسّرين: مَعْنَاهُ وآتاكم من كل مَا سألتموه وَمَا لم تسألوه، وَعَن الضَّحَّاك: أَعْطَاكُم أَشْيَاء مَا طلبتموها وَلَا سألتموها على النَّفْي على قِرَاءَة: من كل، بِالتَّنْوِينِ، صدق الله تَعَالَى كم من شَيْء أَعْطَانَا الله وَمَا سألناه إِيَّاه وَلَا خطر لنا على بَال، وَعَن الْحسن رَحمَه الله: من كل الَّذِي سألتموه، أَي: من كل مَا سَأَلْتُم.
يَبْغُونَها عِوَجاً يَلْتَمِسُونَ لَها عِوَجاً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { ويصدون عَن سَبِيل الله ويبغونها عوجا} ( إِبْرَاهِيم: 3) الْآيَة، هَذَا وَقع هُنَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَهُوَ الصَّوَاب لِأَنَّهُ من تَفْسِير مُجَاهِد أَيْضا، وَفسّر قَوْله: يَبْغُونَهَا، بقوله: يَلْتَمِسُونَ لَهَا، وَقد وَصله عبد بن حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: يَلْتَمِسُونَ لَهَا الزيغ والعوج بِالْفَتْح فِيمَا كَانَ مائلاً منتصباً كالحائط، وَالْعود وبالكسر فِي الأَرْض وَالدّين وشبههما، قَالَه ابْن السّكيت وَابْن فَارس.
وإذْ تأذَّنَ رَبُّكُمْ.
أعْلَمَكُمْ آذَنَكُمْ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَإِذ تَأذن ربكُم لَئِن شكرتم لأزيدنكم} ( إِبْرَاهِيم: 7) ، وَفسّر: تَأذن بقوله: أعلمكُم.
قَوْله: ( آذنكم) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: أعلمكُم ربكُم، وَنقل بَعضهم عَن أبي عُبَيْدَة أَنه قَالَ: كلمة ( ذَر) زَائِدَة.
قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل مَعْنَاهُ اذْكروا حِين تَأذن ربكُم، وَمعنى تَأذن ربكُم إِذن ربكُم.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَنَظِير تَأذن وآذن توعد وأوعد، تفضل وَأفضل، وَلَا بُد فِي تفعل من زِيَادَة معنى لَيْسَ فِي أفعل، كَأَنَّهُ قيل: وَإِذ تَأذن ربكُم إِيذَانًا بليغاً تَنْتفِي عِنْده الشكوك،.

     وَقَالَ  بَعضهم: إِذْ تَأذن من الإيذان، قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ من التأذين.
رَدُّوا أيْدِيهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ هاذا مِثْلُ كُفُّوا عَمَّا أُمرُوا بِهِ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم} ( إِبْرَاهِيم: 9) .

     وَقَالَ  ابْن مَسْعُود: عضوا على أَيْديهم غيظاً عَلَيْهِم.
قَوْله: ( هَذَا مثل) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا بِحَسب الْمَقْصُود، مثل كفوا عَمَّا أمرو بِهِ، قَالَ: ويروى: مثل، بالمفتوحتين.
انْتهى.
وَلم يُوضح مَا قَالَه حَتَّى يشْبع النَّاظر فِيهِ، أَقُول: مثل كفوا، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون التَّاء يَعْنِي: معنى ردوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم مثل معنى كفوا عَمَّا أمروا بِهِ، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَأما الْمَعْنى على رِوَايَة: هَذَا مثل، بِفتْحَتَيْنِ فعلى طَرِيق الْمثل، أَي: مثل مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاء من النصائح والمواعظ، وَأَنَّهُمْ ردوهَا أبلغ رد، فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم وَقَالُوا: إِنَّا كفرنا بِمَا أرسلتم بِهِ، أَرَادَ إِن هَذَا جَوَابنَا لكم لَيْسَ عندنَا غَيره، وَيُقَال: أَو وضعُوا أَيْديهم على أَفْوَاههم يَقُولُونَ للأنبياء: أطبقوا أَيْدِيكُم أَفْوَاهكُم واسكتوا، أَو ردوهَا فِي أَفْوَاه الْأَنْبِيَاء يشيرون لَهُم إِلَى السُّكُوت، أَو وضعوها على أَفْوَاههم وَلَا يذرونهم يَتَكَلَّمُونَ.
مَقامِي حَيْثُ يُقيمُهُ الله بَيْنَ يَدَيْهِ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { ذَلِك لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد} ( إِبْرَاهِيم: 41) وَفسّر قَوْله: مقَامي، بقوله: حَيْثُ يقيمه بَين يَدَيْهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَفِي التَّفْسِير: مقَامي موقفي وَهُوَ موقف الْحساب لِأَنَّهُ موقف الله تَعَالَى الَّذِي يقف فِيهِ عباده يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: خَافَ قيامي عَلَيْهِ وحفظي لأعماله.
مِن ورَائِهِ قُدَّامهِ جَهَنَّمَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَمن وَرَائه عَذَاب غايظ} ( إِبْرَاهِيم: 71) وَفسّر الوراء بالقدام، وَفَسرهُ الزَّمَخْشَرِيّ بقوله: بِمن بَين يَدَيْهِ، وَنقل قطرب وَغَيره أَنه من الأضداد، وَأنْكرهُ إِبْرَاهِيم بن عَرَفَة،.

     وَقَالَ : لَا يَقع وَرَاء بِمَعْنى أَمَام إلاَّ فِي زمَان أَو مَكَان،.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: مَعْنَاهُ مَا توارى عَنهُ واستتر.
لَكُمْ تَبَعاً واحِدُها تابِعٌ مِثْلُ غَيَبٍ وغائِبٍ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء} ( إِبْرَاهِيم: 12) التبع جمع تَابع كخدم جمع خَادِم وَمثله البُخَارِيّ بقوله مثل غيب بِفتْحَتَيْنِ جمع غَائِب وَقيل مَعْنَاهُ إِنَّا كُنَّا لكم ذَوي تبع.
بمُصْرِخِكُمْ اسْتَصْرَخَنِي اسْتَغاثَني يَسْتَصْرِخُهُ مِنَ الصُّرَاخِ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: { فَلَا تلوموني ولوموا أَنفسكُم مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخي} ( إِبْرَاهِيم: 22) وَهَذَا لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، قَوْله: مَا أَنا بمصرخكم.
أَي: مَا أَنا بمغيثكم.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخي لَا يُنجي بَعْضنَا بَعْضًا من عَذَاب الله وَلَا يغيثه، والإصراخ الإغاثة، وقرىء بمصرخي، بِكَسْر الْيَاء وَهِي ضَعِيفَة.
قلت: الْقِرَاءَة الصَّحِيحَة فتح الْيَاء وَهُوَ الأَصْل، وَقَرَأَ حَمْزَة بِكَسْر الْيَاء،.

     وَقَالَ  الزّجاج: هِيَ عِنْد جَمِيع النَّحْوِيين ضَعِيفَة لَا وَجه لَهَا إلاَّ وَجه ضَعِيف، وَهُوَ مَا أجَازه الْفراء من الْكسر على الأَصْل لالتقاء الساكنين.
قَوْله: ( استصرخني) وَقيل استصرخني فلَان، أَي: استغاثني، فأصرخته أَي أغثته.
قَوْله: ( يستصرخه) مَعْنَاهُ يَصِيح بِهِ، فَلِذَا قَالَ: ( من الصُّرَاخ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ الصَّوْت.
وَلَا خِلاَلَ مصْدَرُ خالَلْتُهُ خِلالاً ويَجُوزُ أيْضاً جَمْعُ خُلَّةٍ وخِلالٍ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلال} ( إِبْرَاهِيم: 13) وَذكر فِي لفظ خلال وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه مصدر خاللته خلال، وَالْمعْنَى: وَلَا مخاللة خَلِيل.
وَثَانِيهمَا: إِنَّه جمع خلة، مثل: ظلة وظلال، وَهَذَا الْوَجْه قَالَه أَبُو عَليّ الْفَارِسِي، وَجُمْهُور أهل اللُّغَة على الأول، والخلة، بِضَم الْخَاء: الصداقة والمحبة الَّتِي تخللت الْقلب فَصَارَت خلاله أَي: فِي بَاطِنه، وَمِنْه الْخَلِيل وَهُوَ الصّديق.
اجْتُثَّتْ اسْتُؤْصِلَتْ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَمثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتئت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار} ( إِبْرَاهِيم: 62) وَفسّر هَذِه اللَّفْظَة بقوله: استؤصلت، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول من الاستئصال، وَهُوَ الْقلع من أَصله.


(بابُُ قَوْلِهِ: { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصْلُها ثابتٌ وفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ} (إِبْرَاهِيم: 42 52)

هَذَا بابُُ فِي قَوْله تَعَالَى: { كشجرة طيبَة} وَلَيْسَ فِي أَكثر النّسخ لفظ: بابُُ.
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر إِلَى قَوْله: (ثَابت) وَفِي رِوَايَة غَيره إِلَى (حِين) الْكَلَام.
أَولا: فِي وَجه التَّشْبِيه بَين الْكَلِمَة الطّيبَة والشجرة الطّيبَة، وَبَيَانه مَوْقُوف على تَفْسِير الْكَلِمَة الطّيبَة والشجرة الطّيبَة.
فالكلمة الطّيبَة شَهَادَة أَن لَا إل هـ إلاَّ الله، نقل ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، والشجرة الطّيبَة فِيهَا أَقْوَال، فَقيل: كل شَجَرَة طيبَة مثمرة، وَقيل: النَّخْلَة، وَقيل: الْجنَّة، وَقيل: شَجَرَة فِي الْجنَّة، وَقيل: الْمُؤمن، وَقيل: قُرَيْش، وَقيل: جوز الْهِنْد.
وَأما بَيَان وَجه التَّشْبِيه على القَوْل الأول فَهُوَ من حَيْثُ الْحسن والزهارة وَالطّيب وَالْمَنَافِع الْحَاصِلَة فِي كل وَاحِدَة من كلمة الشَّهَادَة والشجرة الطّيبَة المثمرة، وَأما على القَوْل الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور فَهُوَ من حَيْثُ كَثْرَة الْخَيْر فِي العاجل والآجل وَحسن المنظر والشكل الْمَوْجُود فِي كل وَاحِد من كلمة الشَّهَادَة والنخلة، فَإِن كَثْرَة الْخَيْر فِي العاجل والآجل مستمرة فِي صَاحب كلمة الشَّهَادَة، وَكَذَلِكَ حسن المنظر والشكل، وَفِي النَّخْلَة كَذَلِك فَإِنَّهَا كَثِيرَة الْخَيْر وطيبة الثَّمَرَة من حِين تطلع يُؤْكَل مِنْهَا حَتَّى تيبس، فَإِذا يَبِسَتْ يتَّخذ مِنْهَا مَنَافِع كَثِيرَة من خشبها وَأَغْصَانهَا وورقها ونواها، وَقيل: وَجه التَّشْبِيه أَن رَأسهَا إِذا قطع مَاتَت بِخِلَاف بَاقِي الشّجر، وَقيل: لِأَنَّهَا لَا تحمل حَتَّى تلقح، وَقيل: إِنَّهَا فضلَة طِينَة آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على مَا رُوِيَ، وَقيل: فِي علو فروعها كارتفاع عمل الْمُؤمن، وَقيل: لِأَنَّهَا شَدِيدَة الثُّبُوت كثبوت الْإِيمَان فِي قلب الْمُؤمن.
وَأما على القَوْل الثَّالِث: إِنَّهَا شَجَرَة فِي الْجنَّة رَوَاهُ أَبُو ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس فَهُوَ من حَيْثُ الدَّوَام والثبوت على مَا لَا يخفى.
وَأما على القَوْل الرَّابِع: فَهُوَ من حَيْثُ ارْتِفَاع عمل الْمُؤمن الصَّالح فِي كل وَقت، وَوُجُود ثَمَرَة النَّخْلَة فِي كل حِين.
وَأما على القَوْل الْخَامِس: فَهُوَ من حَيْثُ ارْتِفَاع الْقدر فِي كل وَاحِد من قُرَيْش، والنخلة، أما قُرَيْش فَلَا شكّ أَن قدرهم مُرْتَفع على سَائِر قبائل الْعَرَب، وَأما النَّخْلَة فَكَذَلِك على سَائِر الْأَشْجَار من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَأما على القَوْل السَّادِس: الَّذِي هُوَ جوز الْهِنْد فَهُوَ من حَيْثُ إِنَّه لَا يتعطل من ثمره.
على مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث فَرْوَة بن السَّائِب عَن مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: { تُؤْتى أكلهَا كل حِين} (إِبْرَاهِيم: 52) قَالَ: هِيَ شجر جوز الْهِنْد لَا يتعطل من ثمره، وَتحمل فِي كل شهر.
وَرُوِيَ عَن عَليّ ابْن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، أَيْضا، قَالَ السُّهيْلي: وَلَا يَصح وَكَذَلِكَ الْمُؤمن الَّذِي هُوَ صَاحب كلمة الشَّهَادَة لَا يتعطل من عمله الصَّالح.
قَوْله: (أَصْلهَا ثَابت) ، أَي: فِي الأَرْض، (وفرعها فِي السَّمَاء) يَعْنِي: فِي الْعُلُوّ فَإِذا كَانَ أَصْلهَا ثَابتا أَمن الِانْقِطَاع لِأَن الطّيب إِذا كَانَ فِي معرض الانقراض حصل بِسَبَب فنائه وزواله الْحزن، فَإِذا علم أَنه باقٍ عظم الْفَرح بوجدانه، وَإِذا كَانَ فرعها فِي السَّمَاء دلّ على كمالها من وَجْهَيْن الأول: ارْتِفَاع أَغْصَانهَا وقوتها وتصعدها يدل على ثُبُوت أَصْلهَا ورسوخ عروقها.
الثَّانِي: إِذا كَانَت مُرْتَفعَة كَانَت بعيدَة عَن عفونات الأَرْض، فَكَانَت ثَمَرَتهَا نقية طَاهِرَة من جَمِيع الشوائب.
قَوْله: (تُؤْتى) أَي: تُعْطِي (أكلهَا) أَي: ثَمَرهَا (كل حِين) اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَابْن زيد: كل سنة، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْحِين حينان: حِين يعرف وَيدْرك، وَحين لَا يعرف فَالْأول: قَوْله: { ولتعلمن نبأه بعد حِين} وَالثَّانِي قَوْله { تُؤْتى أكلهَا كل حِين} (ص: 88) فَهُوَ مَا بَين الْعَام إِلَى الْعَام الْمقبل،.

     وَقَالَ  سعيد بن جُبَير وَقَتَادَة: الْحِين كل سِتَّة أشهر مَا بَين صرامها إِلَى حملهَا،.

     وَقَالَ  الرّبيع بن أنس: كل حِين كل غدْوَة وَعَشِيَّة كَذَلِك يصعد عمل الْمُؤمن أول النَّهَار وَآخره، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا،.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك: الْحِين سَاعَة لَيْلًا وَنَهَارًا صيفاً وشتاءً يُؤْكَل فِي جَمِيع الْأَوْقَات، كَذَلِك الْمُؤمن لَا يَخْلُو من الْخَيْر فِي الْأَوْقَات كلهَا.
فَإِن قلت: قد بيّنت وَجه التَّشْبِيه بَين الْكَلِمَة الطّيبَة والشجرة الطّيبَة، فَمَا الْحِكْمَة بالتمثيل بِالشَّجَرَةِ؟ قلت: لِأَن الشَّجَرَة لَا تكون شَجَرَة إِلَّا بِثَلَاثَة أَشْيَاء: عرق راسخ، وأصل قَائِم، وَفرع عَال، فَكَذَلِك الْإِيمَان لَا يقوم وَلَا يُثمر إِلَّا بِثَلَاثَة أَشْيَاء: تَصْدِيق بِالْقَلْبِ، وَقَول بِاللِّسَانِ، وَعمل بالأبدان.



[ قــ :4442 ... غــ :4698 ]
- حدَّثني عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ عنْ أبي أُسامَةَ عَنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كُنّا عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أخبرُوني بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أوْ كالرَّجُلِ المُسْلِمِ لَا يَتحاتُّ ورَقُها ولاَ ولاَ ولاَ { تُؤْتِي أكُلَها كلَّ حِينٍ} قالَ ابنُ عُمَرَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ ورَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وعُمَرَ لاَ يَتَكَلّمانِ فكَرِهْتُ أنْ أتَكَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئاً قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ النَّخْلَةُ فَلَمّا قُمْنا.

قُلْتُ لِعُمَرَ يَا أبَتاهُ وَالله لَقَدْ كانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أنّها النّخْلَةُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أنْ تَكَلَّمَ قَالَ لمْ أرَكُمْ تَكَلّمُون فكَرِهْتُ أنْ أتَكَلّمَ أوْ أقُولَ شَيْئاً قَالَ عُمَرُ لأنْ تكونَ قُلْتَها أحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذا وكَذا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الشَّجَرَة الطّيبَة هِيَ النَّخْلَة على قَول الْجُمْهُور.
وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَعبيد الله ابْن عمر الْعمريّ.

والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْعلم فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: (تشبه، أَو كَالرّجلِ الْمُسلم) ، شكّ من أحد الروَاة، وَمَعْنَاهُ: تشبه الرجل الْمُسلم، أَو قَالَ: كَالرّجلِ الْمُسلم.
قَوْله: (وَلَا يتحات) ، من بابُُ التفاعل أَي: لَا يَتَنَاثَر.
قَوْله: (وَلَا وَلَا وَلَا) ، ثَلَاث مَرَّات أَشَارَ بهَا إِلَى ثَلَاث صِفَات أخر للنخلة وَلم يذكرهَا الرَّاوِي، وَاكْتفى بِذكر كلمة: لَا، ثَلَاث مَرَّات، وَقَوله: (تُؤْتى أكلهَا كل حِين) صفة خَامِسَة لَهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
قَوْله: (النَّخْلَة) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ النَّخْلَة.
قَوْله: (إِن تكلم) ، بِنصب الْمِيم لِأَن أَصله: أَن تَتَكَلَّم، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا.
قَوْله: (من كَذَا وَكَذَا) أَي: من حمر النعم، كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.